ما أحوج الإنسانية اليوم إلى علوم ماوراء التكنولوجيا رغم ضرورتها ومصلحتها؛ وما أحوجها إلى رجال وقادة ومصلحين يؤلفون ولا يصنفون ويتعاملون مع الله في خلقه وما أحوجها أيضًا إلى إحياء علوم الحياة وعلوم الحضور لاستجلاب رحمة الواحد الغفور. ولكي تستطيع الخروج من نفق الجهل والفقر لا بد لها من العلم لا المال وحده؛ إذ جل البلدان العربية والإسلامية غنية ولكن الجهل والأمية تضربان الأطناب في مجتمعاتهم ذلك لأن العلم يأتي بالمال والمال لا يأتي بالعلم.
ولربما كانت فكرة ما تجمع بين الرابط العقلاني وبين الإنسان في جميع قواه؛ سواء المقولات المرتبطة بالعقل أم بالروح والقلب، وما يرتبط منهما من أسرار وأنوار وتجليات ونورانيات خير بكثير من آلاف الدراهم، وليس معنى هذا أن المال شيء ثانوي بل هو أساس الحياة وأساس الآخرة إذا أنفق في الطرق المشروعة ولذا من الإشارات الموجودة في الدين أن التقوى قسمان علم خاص بهذا المقام لا يقرأ ولا يتعلم إلا من طرف العليم الحكيم قال تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)، ورزق واسع يعطيه الله للمتقي دون تعب ولا نصب قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ).
إن أول كلمة معلومة لدى الخاص والعام؛ والعامي والأمي هي أن أول ما شرفت به هذه الأمة، هو نزول الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بغار حراء مع سفير الانبياء والمرسلين، وهي أمر يفيد الوجوب على خصوصه وعمومه والكلمة تعلمونها هي ” اقرأ” وقد أتاه جواب المصطفى صلى الله عليه وسلم “ما أنا بقارئ” إلى أن أكمل جبريل كلام الله في هذه الآية (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) الآية، والكلمة على ظاهرها وباطنها تدل على قراءة غير القراءة المعهودة لدى الناس، لأن الرب العليم الذي لا يخفى عليه شيء في الأكوان يعلم أن المرسل إليه ليس قارئًا بل هو أمي (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ) بمعنى أن صفة الأمي لسيد الورى ذكرت قبل في الكتب السماوية المنزلة؛ إذن هي قراءة لا بإسم فلان وفلان وإنما هي بداية علم مفتاحه بسم الله. وهذا النوع هو خارج عن ما تتداوله الألسنة من لغة لأن محل القراءة فيه ليست لسانية بل قلبية روحية.
ومن ” اقرأ” فاضت العلوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما وصل إليه الفكر الإنساني، ومنها مالم يصله؛ ومنها أيضًا علوم روحية لدنية لا تعتمد على القياس والبرهنة وإنما على السير والمجاهدة. قال الله تعالى في شأن نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) إذن فالأمية في الحروف، وهي معجزة في حقه صلى الله عليه وسلم عيب ومذلة في غيره. يقول الإمام البوصيري
كفاك بالعلم في الأمي معجزة
في الجاهلية والتأديب في اليتم
أثر النورانية في سلوك وروحانية الإنسان
لا يفوتنا القول بأن هذه الحضارة الانسانية لم تعتمد على حرفية الدين لتفرق بين المسلمين وبين بني الانسان وبين غيرهم من الإنس والجان بل وحتى الحيوان؛ وفي عصر يذبح فيه أكرم خلق الله (الإنسان) ويتهم بالكفر والخروج عن الملة، هاهو سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم يرى امرأة تضرب ناقتها وتقول لها إنهضي أيتها الملعونة، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: “لا تصاحبنا ناقة ملعونة” ونهى عن ضرب الناقة وسبها وقد ورد حديثين شريفين يجمعان كل هذه المعاني وهما:
– قوله صلى الله عليه وسلم ” الخلق عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه ”
– قوله صلى الله عليه وسلم “في كل ذي كبد رطب أجر”
هذه فلسفة دين الحب التي جاء بها رسول الحب والذي ذكر أنه يوم القيامة تأخذ المخلوقات حقها من المخلوقات التي ظلمتها. بمعنى أن مفهوم الحساب والعقاب لا يقتصران فقط على الإنس والجان بل حتى الحياوانات وسائر المخلوقات في البر والبحر والسماء والأرض لها حق من إسم الله تعالى العدل، أما الحديث الثاني فهو مؤكد للأول لا غير. إذن أيّ مخلوق” له كبد” أجر فأنت سواء نفعت الكلب أو الغزال أو القرد.
اذن فنورانية القلب والروح حينما تذيب ظلمات الأنانية والاستكبار وذلك يظهر أثره في الفرد والمجتمع، لذا فالأخلاق في المفهوم الروحي هي ثمرة ونتيجة لا تصَنُّع ورياء، وإن إشكالية التمييز العنصري المبني على الدين تشتت صفوف الدول والشعوب والمجتمعات بينما ربنا العزيز قال في محكم التنزيل:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) فالحق يخبر عن السبب فيقول سبحانه لتعارفوا ” لا لتتقاتلوا وتتصارعوا “.