مستقبل التعليم

يبدو أن الحديث عن مستقبل التعليم في العالم العربي هو في الوقت ذاته حديث عن مستقبل العالم العربي ككلٍّ في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها؛ لأن التعليم هو منطلق التقدم والتغيير، وكل أشكال التحول التي تمس التعليم من شأنها أن تؤثر على مستقبل الأمة ككل. ويبدو أن إشكالية الحديث عن مستقبل التعليم في الوطن العربي، تجعلنا نفترض للأسف -ومن خلال الواقع- مستقبلاً مظلمًا، لا سيما أن جل الدول العربية حتى الآن لم تأخذ الاحتياطات اللازمة للتطور والتحول والتغيير في المدرسة والجامعة. والمستقبل هنا يتخذ بُعدًا وجوديًّا يرتبط بالكيفية التي سيكون عليها التعليم في المستقبل الذي لا يمكن أن نحدده زمنيًّا في قرن -مثلاً- وإنما بعد عقد أو عقدين، لأن العصر الذي نعيشه اليوم يتسم بالسرعة المفرطة، في زمن طغت عليه الرقمية والتكنولوجيات العالية والدقيقة، حتى إنه لنتصور في العصر المقبل -على سبيل التخمين- روبوتات تقوم بتدريس روبوتات أخرى، في حين يطرح البعض التساؤل حول إمكانية قيام الروبوت نفسه بتغيير أنماط حياة الإنسان وسلوكه.

المدرسة العربية اليوم

باستثناء بعض الدول العربية التي استثمرت في التعليم وطورته كما هو الحال لبعض دول الخليج، فإن التعليم في الوطن العربي تجعله معظم الدول آخر اهتماماتها. فالمدرسة العربية تُصنَّف في مؤخرة دول العالم، كما أن الجانب البيداغوجي لم يرق إلى الدرجة التي يراد لها أن تضاهي المدرسة العالمية. فهو تعليم تقليدي يركز في مجمله على الآداب والعلوم الإنسانية، ويقوم على بنية تقليدية (نظرية) في تدريس العلوم والتقنيات، وهو ما ينذر بالكارثة في المستقبل، بحيث تبقى التقنية ملكًا للآخر. كما أن اللغة العربية لم تستطع أن تواكب التغيير، وإنما ظلت جل الدول العربية تستعير اللغات الأجنبية في تدريس العلوم والتقنيات.. هذا التحدّي على مستوى ازدواجية اللغة -لغة عربية في المدرسة ولغة أجنبية في الجامعة- خلق هوة بين الجانبين العلمي والثقافي، وشرخًا في الارتباط بالهوية العربية، وتأخرًا كبيرًا عن مواكبة البحث العلمي في بعده العالمي؛ لأن الطالب يتيه في معضلة اللغة وصعوباتها، فيقلّ تحصيله وغالبًا ما ينقطع عن الجامعة في وقت مبكر.

أرقام مقلقة

تأتي كثيرٌ من الدول العربية في المراتبِ الأخيرة حسب مؤشر جودة التعليم (المنتدى الاقتصادي – دافوس 2016)، حيث تأتي ستُّ دول عربية خارج التقييم، ويسجل تراجع كبير على مستوى الجودة، سواء تعلق الأمر بمؤشر جودة التعليم الابتدائي حيث تصنف سبع دول عربية في مؤخرة الترتيب (ما بعد المرتبة 85 عالميًّا)، أو تعلق الأمر بالتعليم الجامعي حيث تحتل خمس دول عربية المراتب الأخيرة (المرتبة 100 فما فوق)، وهو ما يؤكد على خطورة واقع التعليم في العالم العربي.
ووفق تصنيف 2017 فإن المنتدى الاقتصادي العالمي يؤكد هذا التراجع في المدرسة العربية انطلاقًا من المعايير العلمية التي يبني عليها تصنيفه، وهي 12 معيارًا (المؤسسات، البنية التحتية، بيئة الاقتصاد الكلي، الصحة والتعليم الأساسي، التعليم الجامعي والتدريب، كفاءة أسواق السلع، كفاءة سوق العمل، تطوير سوق المال، الجاهزية التكنولوجية، حجم السوق، تطور الأعمال، الابتكار)، بحيث حلت خمس دول عربية في المراتب الأخيرة أيضًا (المرتبة 100 فما فوق).

الإنفاق على البحث العلمي

تغيب جل الجامعات العربية عن مصافّ العالميّة، ولعل أبرز أسباب هذا الغياب يعود إلى غياب تشجيع البحث العلمي في العالم العربي؛ فوفق بعض الإحصائيات (موقع إنسايدر مونكي 2015)، فإن الدول الأكثر إنفاقًا على البحث والتطوير، هي الدول التي تسعى جدّيًّا إلى التطور والتميز عبر الاستثمار في التعليم، حيث يضع عشر دول في المقدمة، ولا نجد -للأسف- بينها دولة عربية واحدة، ويتعلق الأمر تدريجيًّا، بالولايات المتحدة (487 مليار دولار سنويًّا)، الصين (361 مليار دولار)، اليابان (160,6 مليار دولار)، ألمانيا (105 مليار دولار)، متبوعة بكوريا الجنوبية، الهند، فرنسا، روسيا، إنجلترا، ثم البرازيل.
هذا التصنيف نجده قائمًا اليوم في موسوعة ويكيبيديا 2018، بحيث تبقى الدول العربية في مؤخرة الترتيب العالمي، سواء تعلق الأمر بإجمالي النفقة على البحث والتطوير، أو نسبة ما ينفق من الناتج الإجمالي المحلي، إذ تتجاوز كل الدول العربية المرتبة الأربعين، وهو ما يؤكد أن الهوة بين الدول العربية والدول المتقدمة، تظل قائمة مستقبلاً في مستوى البحث العلمي.

المدرسة العربية والرقمية

يمكن القول إن الرقمية اليوم هي معيار التقدم في حد ذاته، وإن استعمال التكنولوجيات الحديثة في التعليم وجعل الرقمي مدخلاً للتعلم والانفتاح على العالم الحديث، يعتبر معيارًا بارزًا لتحديث المدرسة ونقلها من النظري إلى التطبيقي ومن التقليد إلى التجديد.. ونجد أن جل الدول المتقدمة اعتمدت التكنولوجيات الحديثة مدخلاً للتربية والتعليم. ويمكن في هذا السياق، الاطلاع على النماذج المدرسية الغربية، وبعض دول جنوب شرق آسيا (اليابان، ماليزيا، سنغافورة، كوريا الجنوبية).
أما الدول العربية، وباستثناء بعض دول الخليج التي تعد رائدة في عصرنة التعليم وربطه بالتكنولوجيا، فإن تجربة معظم الدول في تكنولوجيا التعليم تظل باهتة جدًّا من حيث الانفتاح على الرقمية في المدرسة وجعلها وسيلة التعلم والتعليم، ويبقى الارتباط بالرقمية مجرد ترف وتزيين وليس مدخلاً نحو تحديث المدرسة. أما الحديث عن رقمنة البحث العلمي في الجامعة العربية، فيظل تحديًا كبيرًا إذا استثنينا بعض الدول العربية التي تنشر البحوث العلمية الجامعية، وهذا التحدّي يشكل قاطرة التقدم في البحث العلمي الجامعي لمراكمة تجربة عربية هامة في البحث، وخلق حوار علمي بين طلبة العالم العربي في مختلف التخصصات.

أضواء على المستقبل

عندما ننظر إلى المستقبل نتفاءل دائمًا، ومصدر هذا التفاؤل يأتي من كون العصر الذي نعيشه هو عصر الممكنات، لا سيما أن الرقمية والتكنولوجيات الحديثة أتاحت الفرصة أمام جميع الدول للتقدم، بحيث لم تعد المعلومة والتقنية حكرًا على أحد؛ وإنما أصبح بإمكان الدول جميعها تطوير ذاتها، كما أن الاستثمار في التكنولوجيات الحديثة وفي ما تتيحه من إمكانات، يبقى رهينًا بتشجيع التعليم والرفع من مستوى الإنفاق على البحث العلمي.
غير أن قراءة المستقبل من منظور الواقع ينذر بالكارثة، سيما وأن السياسات العربية التربوية في مجملها، تجعل من التعليم وسيلة لإعادة الإنتاج والحفاظ على الواقع الكائن، ولهذا يبدو أن إصلاح التعليم رهين بإعادة النظر في السياسات التربوية، لأن المستقبل، للدول التي تجعل من التعليم بوابة للإصلاح ومدخلاً للرقي والازدهار.