النصر صناعة متكاملة، وهو يحتاج إلى الكثير من الشروط والخبرات والعلوم والأخلاق والأدوات والأساليب، مع مزج سائر العناصر والكفايات والطاقات في منظومة متكاملة. وتحتاج صناعة النصر إلى ثلاث مراحل رئيسية على النحو الآتي:

1- التخطيط العلمي الممتاز

والتخطيط لكي يكون علميًّا ينبغي أن يقوم بالآتي:

أ- تحديد الغاية المقصودة بدقة وبحيث يمكن إنجازها في الواقع، بعيدًا عن الأماني والخيالات.

بـ- صياغة الأهداف الكبرى والمرحلية بطريقة إجرائية يمكن تحقيقها، بعيدًا عن الشعارات والعواطف والاتكاء على عالم الغيب.

جـ- معرفة الإمكانات الموجودة بشريًّا وماديًّا بدون تهويل أو تهوين، وبحيث تكون متناسبة مع حجم الغاية، وقادرة على تحقيق الأهداف المرحلية.

د- الاعتماد في الأساس على الذات وعدم التعويل على أي طاقة خارج المنظومة الذاتية، بحيث لا يؤدي الخذلان أو المتغيرات غير المحسوبة إلى نكبة كبرى.

وهذا يتطلب حشد كل الطاقات والقدرات الممكنة والكامنة، والتي يمكن أن تساهم في صناعة النصر.

هـ- معرفة العدو كما هو والتأهب له بما يستحق، بعيدًا عن التضخيم أو التحجيم؛ لأننا إن فعلنا ذلك فلن نخدع إلا أنفسنا، وستصبح المعلومات المغلوطة قنابل موقوتة تنفجر في الوقت الذي لا نتوقعه.

و- تحديد العقبات بدقة ووضع التكتيكات اللازمة للتغلب عليها، مع الحذر من ظهور عقبات أخرى غير محسوبة، وإيجاد بدائل مناسبة للتطورات.

ز- امتلاك زمام المبادرة، بحيث نصنع الفعل المراد في الزمان والمكان المناسبين، وبحيث تظل أنشطة العدو ردود أفعال، مما يحرمه المبادأة والمبادرة، فتضعف معنوياته وتتخلخل صفوفه وتتراجع فعاليته.

2- التنفيذ

وتتطلب هذه المرحلة عددًا من الشروط:

  • القيادة الكاريزمية التي تمتلك صفات آسرة، تجذب صناع النصر مهما كانت مشاربهم الفكرية واتجاهاتهم السياسية وانتماءاتهم العرقية والمذهبية، وبحيث تكون هذه القيادة مقنعة في بيانها، وَحْدَوية في رؤيتها، ماهرة في تخطيطها، مرنة في سياساتها، صارمة في قراراتها التي تنضج تحت نار الشورى.
  • الحس الجمعي: فلا يعني وجود قائد كاريزمي أنه سيتفرد بقيادة دفة سفينة النصر، فالربان الماهر لا يستغني عن أصحاب الخبرة والدراية، ولا يمكن لتدبير الفرد أن ينتصر على تدبير الجماعة، إذ سيمثل التدبير الفردي قوة الفرد مهما كانت قدراته ومواهبه.

ولقد كان هذا الأمر أحد عوامل حسم كثير من المعارك لصالح المسلمين في عهود الضياء والرشد.

  • وضع الكفايات البشرية في أماكنها الضرورية لكسب الرهان، بعيدًا عن المعايير العاطفية أو المناطقية أو القبلية أو الحزبية.
  • إعلاء الحس العملي عند جميع صناع النصر، وإدراك أن الميدان يحتاج أفعالاً لا أقوالاً، وأنشطة لا شعارات. وهذا يحتاج قدرًا كبيرًا من الإعداد النفسي والجسمي، بجانب الانضباط وحس المسؤولية وطاعة القيادة التراتبية.
  • تقوية الإيمان بالله بحيث يكون تذكره لله سبحانه وتعالى زادًا، وتصير الرغبة بما عند الله حافزًا للبطولة والتضحية، مما يقوي من إرادة الفرد، ويرفع من فاعليته إلى أبعد مدى ممكن.
  • استخدام كافة الوسائل التي تساهم في صناعة الانتصار وتجنب الانكسار.

ويدخل ذلك ضمن قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(الأنفال:60)، وكلمة “قوة” جاءت نكرة لتشمل كل وسيلة يمكن أن تقوي القلوب والسواعد، وتقوي الهجوم وتنكأ في العدو.

ولا شك أن الإعلام، من أهم الوسائل الأشد فتكًا في هذا الزمن إذا استثمرت إمكاناته بطريقة علمية، سواء كنا في حرب باردة أو حرب عسكرية.

3- المراجعة والنقد الذاتي

مهما كان التخطيط ذكيًّا والتنفيذ عبقريًّا، فإن البشرية ستنعكس على أداء الجميع، ولا سيما أن هؤلاء يعملون في وسط اجتماعي مليء بالخطايا والموبقات التي لا بد أن تنعكس سلبًا على صناع النصر.

ولهذا لا بد من وجود مجموعة من أصحاب الكفاية والخبرة، لمتابعة الرؤى والخطط ومراقبة الأداء، حتى يقيمونه ثم يقومونه ليصبح أعلى كفاءة وأهدى سبيلاً.

وتحتاج هذه المهمة الرقابية إلى كوادر تتسم بعدد من الخلال أهمها:

  • الوعي العام بالواقع، وإتقان فقه مقاصد الشريعة الإسلامية، حتى يقيس أفعال الجميع بالمصلحة العامة.
  • الشجاعة والموضوعية، حتى لا يخشى أحدًا ولا يستحي من أحد ولا يحابي أحدًا، ولا يميل مع العواطف أو تستهويه العصبيات.
  • الحكمة، حتى يعرف كيف يعالج الأخطاء التي لا تحتاج إلى تدخل القيادة، ويقوِّم الاعوجاجات بما يدرأ المفاسد أولاً ثم يحقق المصالح.

للمراجعة والنقد الذاتي، عدد من المهمات الصعبة التي تتطلب أن يكون أصحابها مستقلين عن القيادة التنفيذية، والمطلوب من هؤلاء كشروط لتحقيق النصر التأكد مما يأتي:

أ- وجود جسور الوصل بين الأفكار التي ينتمي إليها جسم النصر وأفعال حامليها، بحيث لا تصبح الأفعال حجة على الأفكار.

بـ- الانسجام بين القيادات والقواعد، بحيث يتحقق الانضباط ويختفي الترهل وتنعدم الجيوب التي قد تصير مع الزمن أورامًا سرطانية.

جـ- الانسياب بين كافة الجهات والجبهات، بحيث لا يخرب البعض ما يبنيه البعض الآخر، وبحيث لا يغرد أحد خارج السرب، وتصب كافة الطاقات البشرية والمادية في مجرى تحقيق الأهداف الموصلة إلى إنجاز النصر المنشود.

د- التناسب بين مدخلات صناع النصر والمخرجات، بما يكفل التوصل إلى أوجه القصور والتقصير الخفية والبحث عن أنجع الأساليب والوسائل التي ترفع من فاعلية الأفراد، حتى يتحقق النصر بكفاءة أعلى وثمن أقل وزمن أقصر.

هـ- الخلو من الثغرات التي يمكن أن يتسلل منها العدو وأهمها الفجوات التي تصنعها العصبيات المختلفة.

و- التزام القيادة بالشورى الحقيقية التي تستخرج الخبرات بحق، وليست الشكلية التي تسقط الواجب، وقيامها بكافة واجباتها المنوطة بها على أكمل وجه.

ولما كانت القيادة الجماعية من أهم شروط النصر، فينبغي أن يساهم في قيادة السفينة نحو شواطئ النصر وضفاف التمكين، قادة هذه الأضلاع الثلاثة: التخطيط والتنفيذ والتقويم.

وحتى لا يكون هؤلاء القادة شركاء متشاكسين، ينبغي أن ينتخب جميعهم من أهل الوعي الذي يذيب الخلافات ويوسع الرؤية، ومن أصحاب الإخلاص الذي يلغي الشخصانية ويخلق التجرد.

وبجانب ذلك لا بد من جهة قضائية تفصل بين المتنازعين إن حدث التنازع.

ولن يتحقق هذا المستوى المثالي من التكامل والانسياب، ما لم تكن قيمتا الحرية والعدالة حاضرتين بقوة داخل مكونات الجسم الساعي لجلب النصر.

فبقيمتي الحرية والعدالة يسهل استمطار سحائب المدد الرحماني، بل ويتم ضمان أن غيث النصر لن يتحول إلى سيول عاتية وطوفان جارف، كما حدث لكثير من المجتمعات التي انتصرت على عدوها، لكنها انهزمت أمام عصبياتها الضيقة وحساباتها الأنانية، فوقعت في مستنقع الاحتراب الأهلي، وضاع النصر تحت أقدام المتحاربين، وتبخرت مياه نفعه تحت أشعة الصراع المحموم بين الأخوة الأصدقاء.

 

(*) أستاذ الفكر الإسلامي السياسي، جامعة تعز / اليمن.