صفحات منسية من سيرة خير البرية

ما أجمل أن يكون حديثنا عن الحبيب صلى الله عليه وسلم نتجول في بستانه اليانع نرتشف من عطره الزاكي وننهل من فضل معينه الخصيب.

لم تكن ذكراه كذكرى غيره فهي حياة للقلوب وموعظة بليغة وعبرة سامية، نتلمس فيها من ضيائه، ونتعلم من كلماته، وننعم بما أفاء الله تعالى عليه من أخلاق حميدة، وصفات مجيدة.

فلم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بشرًا فحسب، لكنه بشر أوحي إليه، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ)، وفي هذا ما يطمئن النفس في إمكانية متابعته والاقتداء به كونه بشرا، وإن وصل لأعلى درجات الكمال البشري، والوحي هنا يطمئن أيضًا لدلالته على العصمة والتأييد؛ وبهذا يتبعه من يتبعه على يقين بالفلاح وتسديد في الخطى والرؤى.

ومن يتتبع سيرته ويقف على حقيقة مواقفه يدرك للوهلة الأولى أنه أمام شخصية عظيمة، امتدحه حتى المختلفون معه، وإن كنت أريد فقط أن أقف وقفات سريعة على صفحات لم تأخذ قدرها من التقدير والذياع من حياة خير البشر؛ فهو إنسان قبل أن يوحى إليه، اكتملت صفاته الإنسانية وتفرد بمعاني الكمال البشري فيها، ما جعله مضرب المثل في الخلق الجم، ظهر هذا من مواقفه المختلفة والتي منها ما يلي:

صدقه صلى الله عليه وسلم

الصدق في حياة الرسول لم يكن مجرد خلق عارض لكنه امتزج مع كيانه وباشر أعضاءه فلا يكاد ينفصل عنه في كل أحواله وأقواله وأفعاله، لقد كان صدق الرسول صلى الله عليه وسلم صدقًا من نوع خاص، تتجسد فيه أعلى معاني التسليم برضا الله والإذعان بقضاه فلا يخاف من أحد ولا يهاب أحدًا؛ فينطق لسانه بالحقيقة دون وجل ولا خوف.

إن عادة الأعداء إن يغمطوا من يستعدونهم ويرمونهم بأبشع الصفات وأقبح المسالك، لكنهم وأمام الجناب النبوي الشريف ضاقت بهم السبل ونطقت ألسنتهم بما يقره الكون من صدق الرسول؛ فتراهم يصفونه بـ”الصادق الأمين”.

إن مجرد شهادتهم هذه لتعلن عن مدى عمق الصدق في حياة الرسول؛ إذ كيف للأعداء أن يصفوه بالصدق وهو أشد أعدائهم، لم يكن ذلك ليحدث إلا لعلمهم أن وصفهم الرسول بالكذب لا يقره أحد ولا يرضاه فهو ذائع الصيت بالصدق بالقدر الذي يستحيل معه أن يجمع بينه وبين ضده، وهو ما ضيّق عليهم الأمر، فأقروا له بما ينسجم مع واقعه مما يعلمه الحاضر والغائب دون حاجة إلى بينة أو دليل.

من يتتبع سيرته ويقف على حقيقة مواقفه يدرك للوهلة الأولى أنه أمام شخصية عظيمة، امتدحه حتى المختلفون معه

وحينما أقبل الناس على دينه أفواجًا جاؤوه وصدقوه وأذعنوا له لما وجدوه فيه من صدق الحديث والوعد فأقبلوا على دينه تترًا مسلّمين له بكل ما يدعو إليه وإن لم تتصوره عقولهم؛ فهذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقد أقبل عليه القوم يستنكرون ما يحدِّث به محمد القومَ من حديث الإسراء والمعراج، إذ كيف له أن يدعي سفره إلى المسجد الأقصى الذي يضربون له أكباد الإبل شهرا في ليلة! وليت الأمر يقف عند هذا الحد بل زعم أن ارتقى إلى السموات العلى هل هذا يعقل؟!

وكأني بأبي بكر يبتسم من تعجبهم وهو ينظر إليهم ينتظر سكوتهم ليخبرهم بحقيقة أمره إزاء هذا الخبر الذي فاق عقولهم وتصوراتهم، فيقول: “إن كان قال فقد صدق”.

أي تصديق هذا الذي جعل أبا بكر يسلِّم لما ادعاه القوم على الرسول، لم ينتظر لحظة ليتبين ولم يدعهم في حيرتهم بل قطع السبيل عليهم سواء كانوا صادقين في دعواهم أم كاذبين وعلق تصديقه فقط على قول الرسول: “إن كان قال فقد صدق”.

فمجرد قوله صلى الله عليه وسلم يعني صدقه حتى وإن قال ما لا تتصوره العقول وما ترتاب في قبوله الأفئدة. والسؤال ما الذي جعل أبا بكر يقول هذا، وما الذي أوصله لهذه المنزلة حتى يلقب بعدها بــ”الصدِّيق”؟ لاشك أنه باشر من صدق الرسول أضعاف أضعاف ما باشروه فلم يحتج والحالة هذه إلى مزيد بيان أو برهان فضلاً على عدم تزعزع إيمانه وفق ما أرادوا.

وشرف لكل مسلم يؤمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا أن يسلِّم تسليمًا بصدق الرسول في كل ما جاء به، ليعيش مطمئنًا مصدقا، وهذا يترادف مع الإيمان بمحمد نبيًا ورسولاً.

وفاؤه بالعهد

لم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه نقض عهدًا قط، فقد كان يفي بعهده حتى مع المختلفين معه في الدين، في دلالة عملية بترسخ هذا الخلق وأهميته في حياته صلى الله عليه وسلم.

وقد كان من حرصه صلى الله عليه وسلم على هذا الخلق أنه كان يفي به حتى لمن مات؛ فهذه خديجة رضي الله عنها وقد ماتت، لم يمنع ذلك الرسول الوفي، بالوفاء لها بحقها، فكان يكرم صديقاتها رضي الله عنها بعد موتها؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالشيء يقول: “اذهبوا به إلى فلانة؛ فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانة؛ فإنها كانت تحب خديجة”.

ولقد كان من وفائه أنه يعطي ما قطعه على نفسه من شروط؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجلٍ من الأعراب جزورًا أو جزائر بوسقٍ من تمر الذخرة، وتمر الذخرة: العجوة، فرجع به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، والتمس له التمر فلم يجده، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: “يا عبد الله: إنا قد ابتعنا منك جزورًا أو جزائر بوسقٍ من تمر الذخرة، فالتمسناه فلم نجده”. فقال الأعرابي: وَاغَدْرَاه. قالت: فنهمه الناس وقالوا: قاتلك الله أيغدر رسول الله؟ فقال رسول الله: “دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالاً”. ثم عاد له رسول الله، فقال: “يا عبد الله، إنا ابتعنا منك جزائرك، ونحن نظن أن عندنا ما سمينا لك فالتمسناه فلم نجده”. فقال الأعرابي: وَاغَدْرَاه. فنهمه الناس وقالوا: قاتلك الله، أيغدر رسول الله؟ فقال رسول الله: “دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالاً، فردد ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مرتين أو ثلاثًا”.

لم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه نقض عهدًا قط، فقد كان يفي بعهده حتى مع المختلفين معه في الدين، في دلالة عملية بترسخ هذا الخلق وأهميته في حياته صلى الله عليه وسلم.

فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجلٍ من أصحابه: «اذهب إلى خويلة بنت حكيم بن أمية فقل لها رسول الله يقول لك: إن كان عندك وسقٌ من تمر الذخرة فأسلفيناه حتى نؤديه إليك إن شاء الله». فذهب إليها الرجل ثم رجع الرجل، فقال قالت: نعم هو عندي يا رسول الله فابعث من يقبضه. فقال رسول الله للرجل: «اذهب به فأوفه الذي له». قال: فذهب به فأوفاه الذي له. فمر الأعرابي برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو جالسٌ في أصحابه فقال: جزاك الله خيرًا فقد أوفيت وأطيبت. فقال رسول الله: “أولئك خيار عباد الله عند الله يوم القيامة الموفون المطيبون”.

أي درجة للوفاء بالعهد هذه التي جعلت الرسول الكريم يرد المسلمين وهو في حاجة إليهم للقتال والنصرة، يردهم إلى المشركين!

لقد أخذ المشركون عليه العهد ووضعوا شروطًا للصلح منها: “أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا”.

وفي جلسة العقد الذي لم يبرم بعد، دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أَظْهُر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليّ. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «إنا لم نقض الكتاب بعدُ». قال: فو الله إذًا لم أصالحك على شيء أبدًا. قال النبي: «فأَجِزْه لي». قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: “بلى فافعل”، قال: ما أنا بفاعل فرده إليهم محمد، ثم رجع النبي إلى المدينة فجاءه أبو بصير -رجل من قريش- وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا. فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا.

فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه. فأمكنه منه فضربه حتى برد. وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين رآه: «لقد رأى هذا ذعرًا». فلما انتهى إلى النبي قال: قَتَل والله صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم”، لم يفرح النبي بقدومه ولم يستقبله رغم حاجته إليه فكان حبه للوفاء بالعهد أحب إليه فلم يشأ أن يواري أو يداري، وفي هذا ما لا يخفى من علو المنزلة في الوفاء وإن ظهر للبعض أنه في غير المصلحة ويمكنه المداهنة في القتال.

هكذا كانت مواقفه صلى الله عليه وسلم أمثلة عملية لتجسيد الأخلاق السامية والصفات النبيلة التي جعلته في مصاف الأنقياء الأتقياء بل في مقدمتهم.

حلمه صلى الله عليه وسلم:

والحلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لا يعني أنه لا يغضب، لكنه كان يغضب ويثور لا لنفسه لكن إذا انتهكت حرمات الله.

ما أحوجنا نحن الآن إلى التخلق بأخلاقه والتماس نوره وضياه لينير لنا السبل نهتدي بها في ظلمات الجهل، حينها يكون النصر والتمكين والعزة والإباء، فما عزّ قوم بمثل الأخلاق وما رشدوا إلا باتباع منهج السماء.

فالرسول الكريم كان يعفو ويحلم على من جهل عليه وآذاه… يحلم من غير ضعف، فحينما أقبل عليه ذلك الأعرابي وعامله بصلف وجفاء فشد رداء النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر ذلك في عنقه قائلاً للنبي: مُر لي من مال الله الذي عندك. ومع شدة الخطب وعظيم الحدث فقد كان النبي قادرا على أن يلقنه درسا في الأدب وأن ينفذ غضبه لكن النبي تعامل برفق وحلم ولين فقابل الإساءة بالإحسان وتجلى ذلك عمليا في ضحك النبي والصحابة من حوله في غاضبون ثم ينهي النبي الموقف فيأمر الصحابة بإعطاء الأعرابي شيئاً من بيت مال المسلمين.

أي حلم هذا الذي حلّى الله به نبيه ومصطفاه فجعل القلوب تلتف عليه طمعًا في عفوه تهابه ولا تخشاه تأتيه تتحدث معه وهي تأمن جانبه ولا تخشى غضبه، لقد كان حلمه صلى الله عليه وسلم وسيلة ناجعة لأن يقبل الناس على دين الله أفواجًا.

انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يعامل من أقل منه درجة، فلم يُعهد عليه أنه ضرب خادمًا، أو امرأة، فلم يكن لينتقم من أحد أبدًا، ولكن يعفو ويصفح.

وهكذا كانت حياة النبي الكريم زادًا لمستزيد يجد طلاب العلا ما يريدون من جميل الخصال وكريم الأخلاق، كانت حياته مثالا عمليا للأخلاق تتجسد في أعلى وأبهى صورها دون تكلف أو تنطع، ولم لا وهو المزكّى المجتبى وصفه ربه في كتابه بقوله: “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ”.

فما أحوجنا نحن الآن إلى التخلق بأخلاقه والتماس نوره وضياه لينير لنا السبل نهتدي بها في ظلمات الجهل، حينها يكون النصر والتمكين والعزة والإباء، فما عزّ قوم بمثل الأخلاق وما رشدوا إلا باتباع منهج السماء.