لا جدال في أن الرحلة إلى البيت العتيق لا تعدلها رحلة أخرى إلى أي بقعة من الأرض، وشوق المسلم إلى هذه الديار شوق مشبوب بالعاطفة الملتهبة، والتي تجيش بالود والمحبة، حتى إن الدمع ليسيل منحدرًا على الوجنات لمجرد ذكر هذه المناسك، فكيف بالذهاب إليها!؟ ورؤية البيت ومعايشة الحجيج، وربط الماضي بالحاضر بالمستقبل، وذوبان الإنسان في وحدة شعورية متصلة، تبقى ذكراها في مخيلته زمنًا لا تنمحي..، وكم في هذه الرحلة من عظات ودروس مستفادة، ووقفات ولمحات ونفحات.
والحج رحلة فريدة، بما فيها من المشاعر، وأماكن العبادة، وتجمع الناس بأعداد باهظة، وما يدخل في ذلك من وفود أجناس مختلفة، من بلدان متعددة، إضافة إلى ذلك فإن في رحلة الحج عجائب وطرائف ونوادر ذكرها التاريخ ووعاها التراث بل وسجلها الحاضر، ومع هذه الطرائف والنوادر والعجائب نبقى قليلاً:
دعاء السري السقطي للغضائري
روي أبي بكر أحمد على الخطيب، في كتابه -تاريخ بغداد- هذه القصة:”يروي علي بن عبد الحميد الغضائري بحلب يقول: سمعت السري السقطي-ودققت عليه الباب- فقام إلى عضادتي الباب، فسمعته يقول: “اللهم اشغل من شغلني عنك بك”. لقد قطع الغضائري على السقطي تعبده، وجاء ليشغله لبعض الوقت عنه، وهذا أغضب السقطي، لأن الغضائري صرفه عن عبادة ربه، ومناجاة خالقه، ولكن الرجل لم يترك الغضب يتحكم به، فلم يقل: اللهم اشغله بنفسه، فيكون هذا دعاءً عليه، وإنما دعا له بأن ينشغل بالله وذكره، ولعل الله استجاب دعاءه، لأن المقري روي عن بعض أصحابه أن الغضائري قال:” كان من بركة دعائه أني حججت أربعين حجة على رجلي، من حلب، ذهاباً وراجعاً”.
لقد انشغل الغضائري حقًا بالذهاب والإياب للحج على قدميه أربعين سنة، وهذا من أكثر الأمور أجرًا، وانشغالاً في الله وفي سبيله.
رحلة الهندي إلى الأراضي المقدسة
ذكر د. عبد العزيز الخويطر في كتابه إطلاله على التراث هذه الحكاية الطريفة:”روى أحد أهل نجد من منطقة القصيم، أنه في أوائل هذا الزمن أي: بداية القرن التاسع عشر كان يتاجر مع الكويت، وكان له عدد من الجمال تأتي على الكويت، وكان يسافر معها أحيانًا وأحيانًا يسبقها وأحيانًا يتبعها بعد سفرها بأيام، حتى يُدخل جزءً منها هذه البلدة، وجزءً آخر تلك وكان هذا دأبه لمدة زادت عن خمسة عشر عامًا.
وقد عاش في أول عمره في الهند، حيث كثير من أهل القصيم كانوا يذهبون إليها، في أول حياتهم أو إلى العراقأو إلى الشام، وتعلم لغة أهل الهندحيث أقام بها اثنى عشر عامًا، وأصبح بعدها من الموسرين.
وفي عصر أحد الأيام، وهو يقطع الصحراء قرب نفود السر في نجد، لاح له عن بعد حركة لم يستطع تفسيرها، فلا هي ذيل ثعلب، ولا ذيل ذئب، ولا حية، وكانت الشمس تميل للغروب، فحاد عن الطريق، وقاده حب الاستطلاع إلى هذا الشيء الغريب، الذي تحرك حركة لم يستطع تفسيرها. فلما وصل إلى مكانها رأى عجبًا، رأى – درويشاً- رجلاً من الهند، قد حفر قبرًا ونزل به، بعد أن نفذ زاده، والماء الذي معه، وأمل أن يموت في هذه الحفرة، التي أمل أن تطمرها الرياح الذاريات، فتسلم جثته من تمزيق السباع والطيور فحادثه الرجل بلغته، وعرف منه قصته، وأنه آت من الهند على قدميه وأنه ضل الطريق، فوصل حاله إلى ما وصل إليه، حتى لطف الله به، وأرسل إليه من سوف ينقذه.
فعرض عليه الرجل أن يردفه معه إلى بلدة –عنيزة- في القصيم، وبإمكانه أن يركب مع ركب حاج عنيزة، فيأمن من الضياع والخطر، فأبدي رغبته أن يوصله فقط إلى أقرب ماء، وسوف يواصل رحلته الشاقة كما خطط لها، وتم له ما أراد وافترقا عند أول مورد.
واستمر الرجل النجدي على عادته في تجارته مع الكويت، طوال ثماني سنوات تلت، وفي يوم من الأيام، ومعه ركب من التجار أمثاله، من أهل بلدته، رأوا من بعيد نارًا بعد أن خيم الظلام، وهم في طريقهم إلى غايتهم، وكان يجب أن يكونوا حذرين، في مثل هذه الحالة، لأن من حول النار قد يكونون – قومًا- أي من عصابات الصحراء، فذهبوا يتوجسون، ويتحرون. ومن حسن حظهم أن تبين أن من حول النار من جماعتهم، وأهل بلدته، فأناخوا عليهم وقضوا الليلة معهم، واستأنسوا بوجودهم.
لاحظ صاحبنا أنه عندما أناخ بعيره، قفز رجل من الجلوس، وقادها بعيدًا عن مناخها وأبعدها قليلاً وأنزل عنها شدادها. وفرش فراش صاحبها بجانبها، ووضع بجانبه إبريق ماء، ولم يشك صاحبنا إلاّ أن هذا الرجل هو أحد مساعدي الفريق، عرفه فخدمه هذه الخدمة. وعادة الناس في البر، وهم في رحلة الجمال هذه، أن يتلثموا حتى لا تجف شفاههم، ولا يعطشوا، ولا تضر الشمس صفحة وجوههم، ولهذا لم يتبينه مع ظلام الليل، وليس هناك نور إلاّ ضحاح النار، وبريق اللهب، وفي الصباح عندما أذن المؤذن لصلاة الفجر، واستيقظ الرجل، وكان الوقت شتاءً، وجد بجانبه إبريق ماء حار، فتأكد له أن بين القوم من جماعته من أراد إكرامه، وبعد أن صلى الفجر، وأفطروا، وبدأ وجه الصبح يطل، فجأة تكلم الرجل الغامض، وقال لصاحبه باللغة الهندية:
ألا تعرفني، صاحب!؟
وهل أنا أعرفك حقًا؟
نعم، وقد رأيتني من قبل وصحبتني.
هل رأيتك في كلكتا، أو في دهلي، أو في كراتشي.
لا، لقد رأيتني هنا في الجزيرة.
هل رأيتك في مكة أو المدينة؟
لاأنا الرجل الذي أنقذته قبل ثماني سنوات، عندما عثرت عليه ظامئًا جائعًا مستهلكًا، وقد حفر قبره وانتظر خروج الروح.
قال له الرجل: ألم تتعظ مما حدث لك، ألم تخش أن تضل، فتجوع وتعطش، وتشرف على الهلاك مرة أخرى.
قال الهندي: لا، فأنا لي ثماني سنوات لآن، أحج كل عام على قدمي، جيئة وذهابًا، وأرجو أن أكمل عشرًا، قبل أن أكتفي بها وأستقر.
فلسطيني يبدأ رحلة الحج سيرًا على الأقدام
في الإثنين 26-9-2011م بدأ المواطن الفلسطيني عوض عودة (53 عامًا)، رحلته من المسجد الأقصى في مدينة القدس المحتلة، متوجهًا إلى السعودية سيراً على الأقدام، من أجل أن يؤدي فريضة الحج تحت شعار: “من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام سيرًا على الأقدام”.
قال عوض في مؤتمر صحفي عقده قبل انطلاقه: “إنه قرر القيام بهذه الخطوة، بعد دراسة عميقة وجادة، وبعد مشاورات مع عائلته وأصدقائه الذين شجعوه على هذه الخطوة”.
وكان هدف عوض عودة من الرحلة – بحسب ما نقلت عنه صحيفة – السبيل- الأردنية الثلاثاء 27-9-2011م: “التذكير بالربط العظيم بين المسجد الأقصى المبارك والأراضي الحجازية الطاهرة، حينما سرى منها الرسول – صلى الله عليه وسلم – باتجاه المسجد الأقصى المبارك ومنه عرج إلى السماء”.
وعودة الذي سبق أن أدى فريضة الحج في العام 1992م، اجتاز رحلته من المسجد الأقصى باتجاه الأراضي الحجازية في 30 يومًا، و حمل حقيبة ظهر تزن 20 كيلوجراما وبداخلها أغراض احتاجها للنوم واللباس وأغراض حماية، لكنه لم يحمل طعامًا لأنه تزود به في الطريق من الحوانيت، أما المنام فإنه قام بدخول المساجد الواقعة في طريقه والنوم بداخلها. وفي منازل المواطنين الذين عرضوا عليه ذلك، فالعرب أهل الكرم والشهامة.
وقدرت المسافة التي سلكها المواطن الفلسطيني من المسجد الأقصى إلى الحرم المكي، بنحو 1700 كيلومتر.
فالحج على الأقدام ليس غريبا على الإسلام، فقد عرفه منذ أن بزغ فجره، ومن أشهر الرحلات إلى الحج على الأقدام رحلة هارون الرشيد، وغيره كثير ممن لا يحصون، حتى أهل مكة وساكنيها، يذهبون للحج على الأقدام، وهي رحلة شاقة، وإن كانت لا تقارن برحلات من يأتون من الهند والمغرب وما أكثرهم.