لمحته من بعيد يمضي بخطوات مُتثاقلة سارحًا في عالم غير الذي نحياه.. كان شابًّا تجاوز العشرين من العمر، وتربطها به علاقة عائلية. لا زالت ماضية في طريقها وهو أمامها بنفس خطواته المتعبة الثقيلة.. نادتْه:

– أمجد!

التفت إليها.. كانت نظراته تَروي أشياء كثيرة، وتقاسيم وجهه تنطق بألم شديد.. ابتسم لها.

– كيف حالك يا أمجد؟

نادتْه غير أنها لمحت محياه يزداد ألمًا وهو يجيبها:

– لقد توحد الألم بأجمعه ليغمر قلبي.

قالت بقلق:

– رباه! ما هذا الكلام؟ أخبرني ما بك؟

– قبل قليل كنت في المستشفى، أخبروني أن لي قلبًا مريضًا ضعيفًا، ثم تركوني أتجرع مرارة الواقع.

– يا إلهي! أحقًّا ما تقول؟!

– أجل، إنها الحقيقة التي مهما حاولت إخفاءها كسرتْ الحواجز لترتسم شامخة أمامي. لماذا أسقط ضحية مرض يهدد حياتي وأنا في سن أحوج إلى هذه الحياة!؟ أريد أن أمرح.. أن أغني.. أن أفرح.. لا أريد أن أموت.

– لا تقل هذا يا أمجد، لعل الله يجعل لك من همك مخرجًا.

– طالما دعوته، الأحرى بي أن أترجى الأطباء، إنهم وحدهم قادرون على علاجي.

– ألا تؤمن أن الله قادر على شفائك؟

– بلى، لكنه مرض في القلب، إنه أخطر مما نتصور.

– لم أكن أعلم أن إيمانك ضعيف لهذه الدرجة، اهدأ قليلاً والجأ إلى الله، أولم تذكر أنه يقول: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب”.

– أريد شيئًا ينسيني ألمي، مرارتي، لا يزيدني ألمًا على ألم.

قالت بحيرة:

– ومتى كان ذكر الله ألمًا، هداك الله!؟

كان قد وصل إلى بيته.. ودَّعتْه ومضت وحدها. كانت تتألم لأجله بشدة.. لأنه تغير كثيرًا ولم يعد كما كان في الماضي.. كان مليئًا بالحيوية والنشاط والضحك.. تذكرت أيام طفولتهما؛ كانا يلعبان معًا.. وإذا ما سافرت إلى مكان ما، كان لا يرضى أن يلعب مع أحد، بل كان ينتظرها حتى تعود.. كانت أيام الطفولة رائعة بالنسبة لها.. لم تكن تجد راحتها إلا مع أمجد.. ثم كبرتْ وكبرت الأحلام معها.

كان أملها أن تدرس بكلية الطب، وكان أمله أن يصبح مهندسًا. وشاء الله تعالى أن رحلتْ إلى مدينة مجاورة لتكمل دراستها ولا تعود إلا في أيام العطل. لم تعد هي وأمجد كما كانا في الماضي، لم تعد تلتقي كل يوم به.. رغم ذلك ما زالت تفضله على كل أبناء العائلة.

دخلتْ غرفتها وما زالت تتألم عليه؛ هذا الورم الخبيث يهدد حياته ويدمر أحلامه.. قالت في نفسها: “ليتني أقدر على فعل شيء يعيد هذا الشاب إلى حيويته التي كان عليها ويعيش حياة هنيئة بلا تألم”. سمعت دقات خفيفة على الباب، إنه شقيقها. قال بلطف:

– هل تسمحين لي بالدخول؟

– طبعًا تفضل.

جلس على كرسي مكتبها واستطرد قائلاً:

– زرتُ أمجد.. منذ ثلاثة أيام لم أره. أخبرني عن مرضه، حزنتُ عليه كثيرًا. وجدتُه يتجرع زجاجة من الخمر.. كان يبكي بسبب ما يعانيه من ألم.

تنهدت من أعماق صدرها وقالت بأسى:

– أنا أيضًا أتألم عليه كثيرًا، ولكن ما يزيد ألمي أن الشيطان مسيطر على عقله وقلبه. ليته يدرك أن الحياة ليست مجرد لهو ومتعة.. أسأل الله أن يهدي قلبه للنور ويشفيه مما هو فيه.

– لا تتعبي نفسك.. طالما حاولت إبعاده عن طريق الملاهي واتباع هوى نفسه، ولم تحصلي على أيّة نتيجة، فذلك يعني أن ليس له نصيب من الإيمان والهداية.

– لا تقل هذا يا أخي، سيعود أمجد أفضل وأتقى، سأنصحه دائمًا، سأتحدث له عن النور الذي دخل قلبي وأذاقني حلاوة الإيمان.. سأحدثه بلا كلل ولا ملل عن هذا النور.

قام شقيقها وتوجَّه صوب الباب وهو يقول:

– ليته يصغي إليك.

في اليوم التالي قام أمجد بزيارتها، كانت نبرات الحزن مختلطة بكلماته.. قالت بشفقة ولين:

– لا تيأس يا أمجد، ستشفى بإذن الله، وحينها ستدرك أنك كنت مخطئًا عندما عشت هذه الأيام في يأس وألم.

أجابها وهو يبتسم:

– كلماتك تريحني.. وعندما أركن إلى نفسي لا أرى إلا أنني سأحرم من هذه الحياة.. وعندما أسمع إليك تتولد الآمال غزيرة في قلبي.. حقًّا لقد عشت حياة ملؤها المعصية.. أعدك إن شفاني الله، سأتوب عن كل ما اقترفته من سوء، أملي الوحيد أن تنجح عملية القلب الجراحية.

قالت بحزن:

– وهل الله فقير إلى توبتك؟! تضع شروطًا مقابل أن تتوب؟!

أطرق رأسه.. احتارت الكلمات بين شفتيه.. أخيرًا همس:

– لكني مؤمن.

بادرته بالكلام:

– “أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين”.

أثرت فيه الكلمات الربانية، ولكنه غيَّر الموضوع مباشرة.. قال بتلعثم:

– أخبروني أن العملية الجراحية سيجرونها هذا الأسبوع.

التفتتْ إليه، وقالت من القلب:

– شفاك الله يا أمجد.

عاد للموضوع ليقول:

– كلماتك صواب ولا أقدر على رفضها، لكن هنا شيء في صدري لا أستطيع التغلُّب عليه يجعلني أبعد عن تلك الحياة.

– تقول إن كلماتي حقيقة ثم تبتعد عنها! لم أعد أفهمك يا أمجد.

– كل ما أستطيع قوله لك، أنه إذا كُتبتْ لي الحياة، سألتزم طريق الله ولن أتخلى عنه أبدًا.

مرت الأيام بسرعة، وحان موعد العملية الجراحية..  ذهبوا جميعًا برفقته إلى المستشفى.. وقبل دخوله همس بصوت أقرب للرجاء:

– ادعِ الله لي.

قالت وقد اغرورقت عيناها بالدموع:

– دعوت لك دائمًا، ستعيش من أجلنا يا أمجد.

ودخل إلى غرفة العمليات.. مرت ساعات وهي تذرع المكان ذهابًا وإيابًا، ولسانها مع قلبها لا يكفان عن الدعاء.. وإذا بالطبيب يخرج ويلقي البشرى:

– الحمد لله، لقد نجحت العملية.

خرج أمجد من المستشفى.. ومن فرط سعادته دعا الجميع لحضور حفل شفائه في مطعم فاخر. ذهبتْ الحفل مع عائلتها.. وجدتْه مع ثلة من أصحابه.. أمعنت النظر فيهم ثم همست في حيرة:

– رباه! إنهم أصدقاؤه في الملهى وأصحابه في ليالي الخمر والمجون!

ازدادت حيرة عندما اقترب منها ورائحة الخمر الكريهة تفوح من فيه! وعندما ارتفع صوت الموسيقى الصاخبة طلب منها أن ترقص معه. تمالكت أعصابها بصعوبة ثم قالت بحدَّة:

– أنت تعلم أني لا أحب الرقص!

– حسنًا.

قالها بهدوء ثم ذهب وراح يرقص مع أخرى.. انتابها شعور غريب تلك اللحظة.. راحت تنظر إليه في دهشة وتقول في نفسها: “رباه! أهذا ما وعدني به؟!”

قامت وغادرت الحفل بعد أن اعتذرت لعائلتها.. كانت تعاني من خيبة أمل شديدة.. لحق بها ثم قال:

– ما الأمر؟ لِمَ تغادرين الحفل؟

– إنني أبحث عن شيء.

– عن شيء؟ وما هو؟

– عن تحقيق وعدك، أم تراك نسيته؟

ثم أردفت بمرارة:

– لماذا يا أمجد؟ لماذا لم توفِ بوعدك الذي وعدته قبل العملية؟

أجابها:

– إنها ليلة واحدة فقط، شعرت فيها بالحنين إلى حياتي السابقة.

لم تتمالك نفسها وصرخت في وجهه:

– كانت أهواؤك أقوى من أن تقاوم فاستسلمت لها، نسيت وعدك وقسمك وفقدت صوابك أمام الإغراءات.. الآن أدركت أنك أسير نفسك وأهوائك.

ساد الصمت لحظات، ثم صرخت بقوة:

– وأنا لا أريد مصاحبة رجل أسرتْه نفسه وأهواؤه.

ثم ذهبت وتركته وحيدًا.. جاءه أحد أصحابه يطلب منه العودة للحفل، لكنه رفض ومضى بعيدًا عن المكان وكأنه يعاني تأنيبًا شديدًا في ضميره.. أحس بندمه على ما فعل.. إنه لم يوف بوعده لله.. عاد إلى بيته وقضى الليل كله في أرق وتأمل وتفكير.. وفجأة تسلل إلى سمعه صوت المؤذن يجلجل في الأفق مناديًا للصلاة.. شعر أن شعورًا غريبًا قد انتابه.. نسي كل آلامه وأخذ يستمع إلى النداء.

كأنه نداء يسمعه لأول مرة رغم صداه الذي كان يتردد كل يوم منذ أعوام.. شعر بدقات قلبه تزلزل كيانه.. هرع ليتوضأ.. بعد ذلك أخذ يسير إلى المسجد بلهفة.

كانت سعادتها كبيرة عندما أخبروها عن توبته.. وعندما التقتْ به قالت وعيونها تلمع من الفرح:

– هنيئًا لك يا أمجد، هنيئًا لك بتوبتك وعودتك إلى ربك.

ردّ والدموع تنساب من عينيه:

– أنا مدين لك.. لا أعرف ماذا أقول.. أنت سببي في هدايتي ووصولي إلى الحق والحقيقة.. شكرًا جزيلاً لك.

قالت وكلّها سعادة:

– الشكر لله يا أمجد.. إنه يهدي مَن أحب من عباده.

 

(*) كاتبة وأديبة مغربية.