في حديث قصة بيعة العقبة، لما اجتمع النبي صلى الله عليه وسلم سرًّا بالأنصار ليبايعوه على النصرة، روى لنا كعب بن مالك رضي الله عنه فقال: كان أوّلَ مَن ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البرَاءُ بن مَعْرُورٍ، ثم تتابع القومُ، فلما بايعَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صرَخ الشيطانُ من رأس العقبة بأبعد صوتٍ سمِعتُه قط: يا أهل الجُباجِب -والجُباجِبُ: المنازل- هل لكم في مُذَمَّم والصُّباةُ معه قد أجمعوا على حرْبكم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هذا أَزَبُّ العقبة هذا ابن أَزْيَبَ، اسْمَعْ أيْ عدوَّ الله، أمَا واللهِ لأَفْرُغَنَّ لك” (رواه الإمام أحمد). هذه أول صيحة تخويف من الإسلام ابتدأها شيطان من شياطين الجن، وصور في شائعته وذائعته تلك؛ أن هذه الولادة المبكرة لكيان الإسلام إنما هي اجتماع لحرب الناس.
وعلى امتداد القرون التاليات، لم يزل في الإنس من يرث تلك الدعوى ويذيعها إما عن جهل أو تجاهل، ولم يزل الخوف من الإسلام والتخويف منه حاضرًا في القرارات العالمية والمحافل الدولية، فضلا عن وسائل الإعلام.
وما زال السياسيون والإعلاميون يصرون على تثبيت صورة الإسلام على أنه ثقافة عدوانية. ولو نظروا بعدل وإنصاف، لرأوا في أصول الإسلام ومبادئه أكمل القيم والمثل في العدل والتسامح.
إن الخوف من الإسلام والتخويف منه له آثار سلبية على المسلمين وعلى غيرهم. فهو يهدم جسور الثقة والتعاون، ويغذي جذور التعدي والإرهاب والتفرقة العنصرية، ويقضي على المصالح المشتركة بين البشر، ويحطم العلاقات الدولية. إضافة إلى المضايقات والعنف والقيود على الحرية الشخصية، إنه تشويه للحق الذي جاء من عند الله.
ووصل الأمر بسبب فرية التخويف من الإسلام، إلى التحريض وإثارة الأحقاد الدينية. وتعدى البعض إلى إهانة وتدنيس المقدسات الإسلامية وانتهاك الحرمات الدينية، بتطاول على حرمة النبي محمد أو امتهان للقرآن الكريم. وسن القوانين ضد مظاهر حجاب المرأة ونقابها، ونشر رسومات ساخرة بالصحف ووسائل الإعلام تسيء إلى المسلمين، وربط صور المسلمين ومظاهرهم بموضوعات تتحدث عن الإرهاب. ولا يزال انتماء فرد أو شعب إلى الإسلام، سببًا في فشل قضاياه وضياع حقوقه ورد مطالبه.
الخوف من الإسلام وراء مواقف الريبة والعداء لكل محاولات الشعوب لاختيار قرارها الذي تعيش به.
وإنك لتأسى حين تجد الكثيرين ينظرون بتسامح كبير إلى ديانات وثنية، ولكن في حالة الإسلام، فإن رد الفعل تجاهه لا يكون عقلانيًّا، وإنما يكون عاطفة سلبية عارمة. ولطالما تم التأخر في نصرة المكروبين والتردد في إنقاذ المظلومين ممن ظلمهم، لا لشيء إلا الخوف من قيام قائمة للإسلام.
ولا شك أن للموروثات الثقافية أثرًا في تكوين هذا الاتجاه لدى الآخرين ضد الإسلام، يغذيه الإعلام المغرض والسياسات الجائرة، حتى حذر الأمين الحالي للأمم المتحدة منصفًا بقوله: “إن موجة التخويف من الإسلام ترقى إلى مرتبة المناهضة العنصرية لهذا الدين”، ولقد قال مثلها من قبل سلفه على منبر الأمم المتحدة.
وإن على عقلاء العالم أن يقفوا بإنصاف وعدل أمام هذه القضية الخطيرة، والتي لا تجدي سوى مزيد من الصراعات والخلاف. وإن الجهل بالإسلام وتعاليمه وأخلاقياته، سبب رئيس للخوف منه، إذ الإنسان يخاف ما يجهل.
إننا حين نقرر ما سبق، فإننا لا نقرره في سياق التجييش أو نكأ الجراح، وإنما ليعلم الكثير من بسطاء العالم والأحرار، مقدار تغييب وعيهم عن حقائق التاريخ وسياق الحوادث، وأنهم كثيرًا ما يقفون في الموقف الخطأ الذي لا يتسق مع ما يفاخرون به من قيم ومُثُل وصل لها الإنسان في ألفيته الثالثة.
لماذا الخوف من الإسلام؟ فلم يكن المسلمون مسؤولين أبدًا عن اشتعال حربين عالميتين قُتِل في الأولى سبعة عشر مليونًا من البشر، وفي الثانية خمسون مليونًا عدا المصابين، والدمار الهائل في البيئة والمقدرات البشرية.
ولم يستعمر المسلمون العالم، ولم يسخّروا شعوبه لاستنزاف خيرات تلك الشعوب ليستمتع بها المستعمر.
ولم يقم الإسلام في تاريخه الطويل محاكم تفتيش لإجبار الناس على تغيير دينهم، بل إنه على امتداد خمسة عشر قرنًا من بسط الإسلام سلطانه، لم يزل في بلاده أصحابُ ملل ونحل، لهم فيه معابد وكنائس لم يتعرض لها أحد، وما زالت تلك الأقليات متعايشة مع المسلمين على أرض الإسلام حتى اليوم.
موازين العدل وحقوق الإنسان
لقد نصب الإسلام موازين العدل يوم رفعت كلُّ أمة عصا الطغيان. ولك أن تنظر في المواقف العالمية اليوم، لترى كيف تغلب المصالح الضيقة على المبادئ والقيم.وفي المائة عام السالفة، والتي نشأت بها منظمات تعنى بالإنسان وحقوقه، وتحترم ثرواته وأراضيه، لم يسجل التاريخ أن بلدًا مسلمًا غزا بلدًا غير مسلم.
لماذا الخوف من الإسلام؟ وهو يدعو البشر أن يتراحموا فيما بينهم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)(النساء:1). لقد ألغى الإسلام الطبقية والعنصرية في المجتمع، في حين أن أقوى وأكبرَ دولة في الحاضر لم يصل عمر إلغاء الطبقية والعنصرية فيها خمسين عامًا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات:13).
لماذا الخوف من الإسلام وأول حقوق للإنسان أرسيت كانت تحت رايته؟ إن الإسلام هو المنهج الأشدُّ وضوحًا وصراحة في نقض الاستبداد والتجبر والطغيان، ليس من الناحية السياسية فحسب، بل لأنه يَعُد هذه الجرائم مناقضة لجوهر الدين الحق وهو توحيد الله عز وجل، وفي القرآن منهج متكامل لنقض التجبر والطغيان وإبطالهما.
لماذا الخوف من الإسلام وقد حفظ حتى للحيوان حقه؛ فلا يكلَّف فوق طاقته، ولا يجوَّع، ولا يفرَّق بين شاة وولدها، ولا تؤخذ فراخ طائر من عشها؟
لماذا يخاف الناس من الإسلام؟ أيخافونه لأنه يحرِّم عليهم متع الحياة وزينتها وجمالها؟ كلا، فالإسلام شدد النكير على الذين يحرمون زينة الله التي خلقها للناس: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(الأعراف:32). إن الإسلام قد كفل حق الحياة ومُتعها ومباهجها لكل أحد، فلا خوف من الإسلام، ولا جزع.
لماذا الخوف من الإسلام وقد أقام حضارة كانت خيرًا كلها وبركات.. حضارة روح وجسد، وفضيلة وسعادة عمّ نفعها الناس، وتفيأ ظلالها أهل الأرض جميعًا.. حضارة لم تستخدم قوتها لإذلال الشعوب الضعيفة وقهرها ونهب خيراتها كما تفعل بعض الحضارات الأخرى.
لماذا يصوَّر الإسلام أنه يحمل بذور العنف والتعصب، وأنه الخطر الكاسح الذي سيقوّض أمن العالم، والذي يجب أن يكافَح وأن يُجتَثّ من جذوره؟! بينما التسامح والخلق الكريم مبدأ إسلامي أصيل، بل ورد في القرآن الكريم ذكر الرحمة والرأفة والعفو والصفح والمغفرة والصبر.. أكثر من تسعمائة مرة، عدا ما أثر عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فهل يوجد دين أو ثقافة أعطى عناية كهذه في التربية على التسامح؟ على أن التسامح لا يعني الذل والهوان أو الخنوع للظلم والاستكانة للظالمين، بل إنه توازن يعبر عنه القرآن الكريم بقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)(الشورى:39-43).
والتسامح بمعنى البر ومقابلة السيئة بالحسنة، أمر مطلوب ومرغوب ما لم يترتب عليه إعانة على الظلم، أو خذلان للمظلوم، أو انتهاك لمبدأ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. لقد جاء الإسلام بحسن الخلق وبكل تفاصيل السلوك الحسن تجاه الإنسان والبيئة، كما جاء منسجمًا بين الجانب الروحي وجانب المادة.
إن حقيقة الأمر، أن التخويف من الإسلام صناعة اصطنعها أقوام عمدوا لصد الناس عن الإسلام، أو اللغو في حقائقه وقيمه وشعائره وشرائعه، لأغراض سياسية وعنصرية وأهواء شهوانية، وإلا لو تُرك الناس وشأنَهم.. لو تُركوا لفِطَرهم وضمائرهم وعقولهم المستقلة.. لو تُركوا -دون تحريض أو تعبئة ضد الإسلام- لما خافوا منه قط.
إن الإسلام ليس دين العرب وحدهم، وخيرُه ليس حكرًا على المسلمين وحدهم، بل هو رحمة لكل الناس: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107).
إن الإسلام هو المنهج الذي يصلح الفساد الذي أنشأه البعد عن الله.. هو الدين الذي ينشر العدل في الأرض لأنه يحرّم الظلم ويأباه، والواجب على المسلمين أن يتمسكوا بمبادئه وقيمه، وأن يبيّنوا للناس حقيقته تمثلاً وتطبيقًا، ودعوة مخلصة وليس ادعاء وتصنعًا. ومهما حاول المحاولون تشويه صورة الإسلام وتنفير الناس عنه وتخويفهم منه؛ فإن الله مُظهر دينَه، ومُتمّ نورَه. إنه لا خوف على الإسلام، ولا خطر في تطبيق شريعته، لكن الخوف والخطر على من فرّط فيه وتهاون، أو صدّ عنه وأعرض: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الزخرف:43).
(*) إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة / المملكة العربية السعودية.