قبل سنوات في إحدى المحاضرات التي كنت ألقيها بإنتظام في مدينة مكناس، رفقة صفوة من خيرة شباب الجامعة آنذاك، شباب من كل المشارب، إسلاميون ويساريون ولامبالون، خليط عجيب غريب لكنه منسجم.
بُعيد صلاة المغرب كنا نبدأ المحاضرات،كان ذلك أول عهدي بإلقاء المحاضرات، وفي الحقيقة كنت ولا زلت لا أرى نفسي أهلاً لتلك الثقة الكبيرة التي وضعها فيّ المشرفون على لجان التكوين المعرفي في تلك الجمعيات التي كنت أنشط في داخلها.
كانت هناك جمعيتان رئيسيتان كنت أحب التعاون معهما نظرًا لسعة الأفق في منظورهما لمعنى العمل الجمعوي وأولوياته، الأولى كان اسمها (أجيال) والثانية (مجتمعنا).
منذ بداية العمل المشترك انتبهت ونبهتهم للدلالة الرمزية للأسماء..، بمعنى أن عملنا سوف ينكب على إعداد أجيال لمجتمعنا..، وهو ما رحب به الجميع، وتوكلنا على الله طالبين منه العون والمدد.
فكانت اللقاءات تتم بشكل أسبوعي ما بين فكر وفلسفة ودين وتصوف..وهو ما شكل لحظات تفاعل حميمية بين حساسيات ثقافية واجتماعية وسياسية مختلفة، أكدت لنا أن الحوار المتمدن شيء ممكن، مهما كان الاختلاف في الرؤى حاصلًا..
لقد أخذنا دروسًا عملية في فن إدارة الاختلاف باحترام -رغم لحظات من التشنج والعاطفة والتسرع من حين لآخر- وهو الأمر الذى كان يجعلنا ننتظر مساء الجمعة بفارغ الصبر.
كانت المواضيع وطريقة طرحها شيئًا تجديديًّا بامتياز، تعلمنا أن نثق في عقولنا، تعلمنا الحق في أن نقول لا بأدب جم، تعلمنا أن نبحث عن ما نحتاجه نحن كجيل بإمكانيات بسيطة، وبالمراجع المتوفرة والروايات الممنوعة وبحواسيب لم تكن آخر صيحة.
ذات مساء، كانت المحاضرة عن البناء من الفرد نحو الجيل. احتجت أن أقدم مثالاً عمليًّا عن الرحمة..،منذ البداية كنا قد اتفقنا على أن ننطلق من الواقع في طرحنا للمواضيع..، فأن تسرد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة حول موضوع الرحمة هو شيء جيد؛ لكن يكون الأثر في النفوس أعمق حين نلغي المسافة بين التاريخ والحاضر، بإعطاء أمثلة ونماذج معاصرة.
سردت على الجالسين هذه القصة التي سوف أحكيها كما عشتها..
كنا في شهر رجب، وكان لي صديق طيب القلب حسن السلوك، لكنه لا يصلي ويعاقر الخمر بشكل يومي، كان يوقرني كثيرًا لأنه كان يراني دومًا أحمل مسبحتي وأرتاد المساجد وحلق الذكر.
كان يخجلني حين أرى هذا منه، فأبادره بالقول: “لا تغتر بما تراه، أدع الله لي بالثبات والبصيرة فنحن في زمن صعب”.
فكان يرد: لو قلت أنت هذا فما يقول من هم مثلي،كان هذا القول منه يرهبني، فطالما قرأت عن عباد وزهاد زلت بهم الأقدام بعد ثبوتها.
ركبنا سيارته في عز شمس الظهيرة اللاهبة، لنرى صديقًا يسكن خارج المدينة واضطررنا للمرور من طريق ثانوي وسط المزارع، كنت مستغرقًا في الذكر وأنا أنظر لحقول العنب والزيتون.
كانت أمامنا شاحنة تنقل المزارعين الذي يعملون بالأجرة في تلك الحقول..، كان التعب باديًّا عليهم وعلى جباههم أثر سياط الحر اللاهب.
في طرفة عين هب نسيم عليل فطارت قبعة سيدة عجوز كانت في الشاحنة، أشارت إلى السائق كي يتوقف عبر النافذة لكنه كان يرفض كلما طلبت منه السيدة ذلك.
فانتبهت أن صاحبي قد ضاعف سرعة السيارة بشكل غريب حتى خفت على نفسي..، هل يريد أن نصل بسرعة كي نتغذى ونرتاح من ضجر الحر!.
تجاوز الشاحنة ووسط الطريق..، توقف وفتح الباب الخلفي، أخرج قبعة كانت هناك، كان ثمنها يساوي أجرة السيدة المسكينة لثمانية أيام.
ذهب في خجل إليها، قدم لها القبعة في مشهد هوليودي مدهش!، عاد بسرعة دون أن يتكلم أو يلتفت.
أغرورقت عيناي بالدموع دمعًا وليس مجازًا.
سبحانك يا رحمن يا رحيم يا ودود، حقًا إن الرحمة سر الله في خلقه، في لحظة حرك الحق سبحانه شعور الرحمة في قلب صاحبي، فتصرف كعارف بالله من أهل الوراثة المحمدية، رحمة وخلقًا.
تمثلت في هذا المشهد قول الشاعر الصوفي:
قطرة من بحر جودك تملأ الأرض ريا *** ونظرة من عين رضاك تجعل الكافر وليا
سبحان الله العظيم، لعل الله نظر في قلبه فجعله يقوم بذلك العمل الشهم، كان درسًا لن أنساه، ولا أظن الحضور الذين سمعوا مني القصة سوف ينسونه، الرحماء يرحمهم الرحمن، فاللهم ارحمنا برحمتك واجعلنا برحمتك من الرحماء.