مرحبًا عزيزي الإنسان.. منذ زمن طويل وأنا أترقب هذه اللحظة الجميلة.. عندما أخبرني أصدقائي قبل شهور عن اقتراب اللقاء بك، طِرْتُ من الفرح، وبلهفة كبيرة توجهتُ إلى المكان المحدد.. والحمد لله، ها قد وصلتُ.. لا تسأل عن السبب.. تعرف أني سلحفاة وبطيئة الحركة. أوَما قلتَ عن الكسول أنت أيضًا: “رجل بطيء كالسلحفاة”. فتلك السلحفاة هي أنا.. ولكن ماذا أفعل؟ هكذا خلَقني ربي!
اعلم أن ما يميزني عن شقيقاتي الحيوانات، هو الدرع العَظمي الصلب الذي يغطي جسمي كله. أجل، لقد غُطّي جسمي من جميع أطرافه بدرع يتكون من صدَفة عظمية ملتحمةِ الأجزاء بإحكام. يحتوي هذا الدرع على فتحة خلفية تحت الذيل لإخراج أرجلي وكذلك البراز والبيض، وفتحةٍ أمامية لإخراج رأسي ويدي. ولا أستطيع الخروج من هذا الدرع أبدًا، لأنه جزء من جسمي لا ينفصل. إن جسمي كله -ما عدا فقرات الرقبة وفقرات الذيل- ملتحم بهذا الدرع من الداخل وبشكل محكم، ولكن ثِقَل وزنه يسبب لي التباطؤ في الحركة والتنقّل من مكان إلى آخر.
لا بد من الإشارة -عزيزي الإنسان- إلى أن النوع الذي أنحدر منه أنا السلحفاة البريّة (Testudo) خُلق للعيش في اليابسة وهو بطيء الحركة، كما أن هناك أنواعًا خُلقت للعيش في البحار، وأنواعًا أخرى للعيش في المياه العذبة الراكدة. وأمّا السلاحف التي تعيش في البحار (Dermochelys, Caretta, Chelonia) فتفوق بسرعتها الكثيرَ من المخلوقات البحرية، حيث إنها زُوِّدت بزعانف خاصة من قبَل صانعها القدير . فمثلاً، السلحفاة الخضراء البحرية (Chelonia Mydas) تستطيع أن تسبح 480 كلم في 10 أيام. وقد بيّنت الدراسات العلمية أن السلحفاة ذات الظهر الجِلْدي (Dermochelys Coriacea) التي تعيش في البحر، تسبح بسرعة 35 كلم في الساعة الواحدة. وأما نحن السلاحف البريّة فنسير بسرعة 0,2-0,4 كلم فقط في الساعة الواحدة. وأوضحت الدراسات العلمية أيضًا، أن سلحفاة الغالاباغوس العملاقة تقطع 6 كلم فقط على مدار اليوم كله.
أرجلي وزعانفي
لقد زوّدني ربي بأرجل أسطوانية بدينة ذات أظافير كبيرة تساعدني على المشي في اليابسة من جانب، ومن جانب آخر أستخدمها كمجرفة للحفر، حيث يمكن أن أحفر بهذه الأظافير حفرة للإقامة فيها زمنًا طويلاً وقضاء معظم الوقت. أما السلحفاة المائية فتختلف أرجلها عن أرجلي، حيث زُوِّدتْ بزعانف كبيرة تمكّنها من السباحة في البحار. وأما سلاحف المياه العذبة فتتمتع بأرجل ذات أصابع تتصل ببعضها بجليدات رقيقة، والحكمة في ذلك أنها تخرج إلى اليابسة باستمرار، ثم تعود لتسبح في الماء من جديد.
ولا بد هنا من إعادة التذكير بأنه لا مكان للصُّدْفة في هذا الكون الشاسع، وليس صحيحًا أن الطبيعة هي الصانعة -كما يدعي الارتقائيّون- بل هي المصنوعة من قِبَل صانع عظيم جلّت قدرته، وما نحن المخلوقات إلا تجليًا من تجليات أسمائه الحسنى.. وإنه تعالى هو مَن خلق الشيء من اللاشيء بقدرته الخارقة وعلمه الأبدي اللامتناهي.
ليس لنا نحن السلاحف أسنان، بل نتمتع بصفائح من العظم نستخدمها لقَطع الشجيرات والأعشاب وطحنها طحنًا جيدًا عن طريق الضغط، وهذا -بطبيعة الحال- يغنينا عن الحاجة إلى الأسنان. أوليس هذا دليل على أن ربنا يطعم مَن يشاء حتى ولو كان دون أسنان، ويعطي الرزق لمن يشاء بغير حساب؟
أحجامنا المختلفة
لقد تم خلقنا نحن السلاحف بأحجام مختلفة. فمثلاً، السلحفاة العملاقة ذات الظهر الجلدي التي تعيش في البحار، فيبلغ طولها مترين اثنين، ووزنها 450 كلغ. علمًا بأن إحدى السلاحف من هذا النوع، استطاعت أن تدخل كتبَ الأرقام القياسية بطولها الذي بلغ 2,91 م، ووزنها الذي وصل إلى 961 كلغ. وأما أضخم سلاحف المياه العذبة الراكدة فهي السلحفاة ذات الأهداب أي السلحفاة التمساح (Macroclemys Temminckii)؛ حيث يبلغ طولها مترًا واحدًا، وتزن 100 كلغ. وأما الرقم القياسي في الوزن لهذا النوع، فوصل إلى 227 كلغ. إنها من أضخم أنواع السلاحف الموجودة في المياه العذبة، وبالتالي هي أشرس السلاحف المائية، تتميز بقوة النهش والعض. أما أضخم أنواعنا البرية فهي السلاحف العملاقة التي تعيش في جزيرة غالاباغوس، وسيشيل، وألدابرا المرجانية. وأما أحجام عمالقة العالَم هذه فيصل إلى 120 سم، وتزن نحو 300 كلغ. وأما الرقم القياسي في هذا النوع، فهو للتي تعيش في فلوريدا، والتي بلغ طولها 136 سم، وارتفاعها 68 سم، وتزن 385 كلغ.
أتدري كم أعيش؟
أنا متأكدة -عزيزي الإنسان- أنك تذكر العمر الطويل حالَما يُذكر اسم السلحفاة. هذا صحيح؛ إن ربنا ذا الجلال والإكرام، رزقنا عمرًا طويلاً.. ولعل الحكمة في ذلك يرجع إلى عيشنا الهادئ وتحرّكنا البطيء في هذه الدنيا الفانية. فمثلاً، إحدى السلاحف المعمّرة التي تعيش في جزيرة ألدابرا المرجانية، بلغ عمرها إلى 152 سنة، وأخرى إلى 193 سنة.. حتى قيل إن أعمار بعض هذه السلاحف تتراوح ما بين 200 إلى 300 سنة. ولكن المهم ليس العمر الطويل، بل استثمار هذا العمر بالشكل الذي يرضي ربّنا وأنت أدرى بذلك، لأن رب العالمين، لم يحمّلنا نحن أمانة الخلافة في أرضه، بل حمّلك إياها، ووضع هذه المسؤولية الثقيلة على أكتافك.. لذلك، الواجب عليك -أيها الإنسان- أن تفكر في خلق السماوات والأرض جيدًا، وتبذل كل طاقتك في سبيل معرفة ربك العلي القدير.
أسراري الفيسيولوجية
غايتي في التقائي بك، هو الكشف لك عن أسرار خلقي فيزيولوجيًّا وتشريحيًّا.. إن كثافة السوائل داخل أجسام أنواعنا البحرية ونظام الترشيح الكلوي، يختلف من سلحفاة لأخرى.. وكذا الأمر عند السلاحف البرية؛ حيث تختلف وظيفة الكلى لديها -أيضًا- بين الواحدة والأخرى. ومن الملفت للنظر عند أنواعنا البحرية، تصفية الملح الذي يدخل جسمها من ماء البحر؛ حيث تقوم خلايا غددها المسيِّلة للدموع، بانتقاء الأملاح الزائدة من الدم، وطرحها خارجًا على شكل دموع غزيرة من أطراف العين.. أما أنواعنا التي تعيش في المياه العذبة، مع التي تعيش في البر، فلا تحتاج إلى إفراز أملاح من عيونها كما عند البحرية. ولكن التي تعيش في البر، فأثناء طرحها النفايا النيتروجينية، فبدلاً من أن تتبوّل سائلاً فإنها تقوم بطرحه بولاً داكنًا -على شكل رقائق- يحتوي على حمض اليوريك، وذلك للحفاظ على سوائل جسمها.
كما هو معلوم، أن معظم الحيوانات تملك أضلاعًا مرنة ومتحركة؛ حيث تتحرك هذه الأضلاع عندما تتحرك عظمة القفص خارجيًّا، فتُزيد من حجم الجوف الصدري وبالتالي تتيح مساحة كافية لتوسع الرئية وتمددها أثناء التنفس. أما أضلاعنا -نحن السلاحف- فتلتحم بالترس (Carapace) أي بالدرع الأعلى الذي يغطي الظهر والجانبين، وتلتحم بالصِّدار (Plastron) أي بالدرع الأسفل الذي يغطي البطن، ونتيجة لهذا الالتحام، لا يستطيع الجوف الصدري التوسع والتقلص، فيظلّ ثابتًا دون حراك. وكأني أسمعك تقول: وكيف ستتوسع رئتكِ إذن؟ لا تقلق عليّ يا عزيزي، لقد زودني ربي -العليم الخبير- بآلية مختلفة تتيح للرئة القيام بالتوسع والتمدد؛ حيث يتم إفساح المجال لها كي تتوسع وتمتلئ بالهواء، من خلال تقلص الأعضاء المحيطة بها وابتعادها عنها أثناء عملية الشهيق، ثم عودة هذه الأعضاء لوضعها الطبيعي، وبالتالي يضغط على الرئتين فيخرج الهواء منهما في حالة الزفير، كما أن حركة أرجلي أيضًا، تساعد على امتلاء رئتي بالهواء.
ذكر أم أنثى؟
نضع بيضنا في حفرة رملية أو تربة رخوة، ثم نطمرها لتنمو وتفقس، ثم نستودعها الله ونعود إلى حياتنا اليومية الطبيعية. ما أعنيه أننا لا نرقد على البيض ولا ننتظر فقسها مثل الطيور. وعندما تصل حرارة الرمال إلى المستوى اللازم تحت أشعة الشمس، تبدأ الأجنة داخل البيض بالنمو؛ لأن الرمل يقوم بدور الحفاظ على الحرارة مما يجعله بمثابة حضانة مثالية لبيضنا الذي نضعه.
إن للحرارة تأثيرًا كبيرًا في التكاثر والازدياد. ولا بد هنا أن ألفت انتباهك -يا عزيزي- إلى أن الذكور، تخرج من البيض الذي يبقى تحت درجة الحرارة اللازمة، وأما الإناث فتخرج من البيض الذي يتجاوز درجة الحرارة اللازمة، كما أن البيض الذي يظل بين هاتين الدرجتين من الحرارة، فيخرج منه ذكور وإناث، أو تخرج منه أفراخ مخنثة. فمثلاً، نوعنا السلحفاة البرية (Testudo Graeca) يفقس بيضها ذكورًا في درجة 29,5 من الحرارة، أما البيض الذي يتجاوز 31 درجة فتخرج منه الإناث. وأما السلحفاة المائية العذبة (Emys Orbicularis) فيخرج ذكرًا من البيض الذي يبقى تحت درجة 27,5 من الحرارة، وأنثى من البيض الذي يصل إلى 29.5 درجة، وأما البيض الذي يظل بين 28-29 من الحرارة فتخرج منه أفراخ مخنثة.
هذا وقد يختلف عدد بيضنا في موسم التكاثر من نوع لآخر. فمثلاً، كل عام تجتمع السلاحف البحرية البالغة، في مناطق معينة في البحر، للتزاوج، وبعد التزاوج تخرج الإناث في عتمة الليل من الماء إلى الشواطئ الهادئة البعيدة عن الأنظار باحثة عن موقع مناسب لوضع بيضها، وما أن تجد الموقع حتى تباشر بحفر حفرة تضع فيها 70-180 بيضة، ثم تطمرها على الفور. وقد تضع السلحفاة خطافية المنقار (ذات منقار الصقر) (Eretmochelys Imbricata) 242 بيضة في المرة الواحدة، كما تضع السلحفاة البحرية الخضراء (Chelonia Mydas) في موسم التكاثر -وفي أقل من خمسة أشهر- ما يزيد على 1,100 بيضة موزَّعة إلى 11 حفرة مختلفة. أما السلحفاة المفلطحة (Malacochersus Tornieri)، والسلحفاة ضخمة الرأس (Platysternon Megacephalum) فتبيض بيضة أو بيضتين فقط.
وقد تختلف مدة الحضانة من نوع لآخر وفقًا لحجم السلحفاة؛ فبينما تستغرق هذه المدة عند النوع الصغير من السلاحف البرية 70-100 يومًا، تستغرق عند الضخم من السلاحف البرية 100-160 يومًا، أما عند السلاحف البحرية فتستغرق مدة الحضانة 60-85 يومًا.. بعد ذلك يفقس البيض، وبسَوقٍ إلهي تخرج الفراخ وتبدأ بشق طريقها نحو سطح الرمال في الحفرة. وما إن تخرج، حتى تولّي مسرعة نحو البحر وكأنها تعرفه منذ زمن طويل. والملفت للنظر أن أفراخنا زُوِّدتْ بجهاز من الكيراتين على سطح فكها العلوي يشبه قاعدة البندقية، وتستخدمه من أجل الخروج من البيضة، إذ عن طريق هذا الجهاز، تقوم بكسر قشرة البيضة وبالخروج منها بسهولة.
كيف نتغذى؟
إن أنواعنا البرية تتغذى على الأعشاب والخضار فقط، أما بعض أنواعنا البحرية وأنواعنا التي تعيش في المياه العذبة، فتأكل كل شيء، وبعضها الآخر يتغذى على اللحم فقط. فنوع واحد من الأنواع البحرية يتغذى على الأعشاب والنباتات، والأنواع المتبقية تتغذى على سمك الحبار، والرخويات، والقشريات.. إذ تملك هذه الأنواع البحرية من السلاحف مِفكًّا قادرًا على تحطيم صدَفة بحرية بكل سهولة.
إن أنواعنا البرية تجد بسهولة ما تقتات عليه من النباتات والأعشاب. ولكن أنواعنا البحرية ليست محظوظة إلى هذه الدرجة.. فالسلحفاة ذات الظهر الجلدي العملاقة -مثلاً- تطارد فريستها سمكة الحبار حتى عمق 1200 م ولا تبالي بجسمها الضخم، حتى إنها تغوص في عمق 1500 م دون خوف؛ أما الذي يشجعها على خوض هذه المغامرة الخطيرة، فهو نظام هيكلها العظمي، ونظام دورتها الدموية، وجهازها التنفسي الذي زوّدها به الخالق عز وجل لمقاومة الضغط العالي للماء، بالإضافة إلى أن نسبة الخلايا الحمراء التي تنقل الأكسيجين في دم أنواعنا هذه، وكذلك نسبة المايوجلوبين الذي يخزن الأكسجين في دم العضلات، مرتفعة للغاية، وهذا يساعدها على التنفس تحت الماء دون أية صعوبة، وعلى التقاط فريستها دون أي عائق.
لقد صُمِّم درعنا العظمي بشكل يحيط جسمنا من جانب، ويقوم مقام خزان للكالسيوم من جانب آخر. إذ تستفيد الإناث -عندما تضع بيضها- من هذا الخزان الكالسيومي في عملية الأيض التي يتم خلالها تكوين قشرة البيض الصلبة. وكذلك يلعب هذا الخزان دورًا مهمًّا في التوازن الحمضي القاعدي، وتوازن كثافة الإلكتروليت في الدم لدى أفراخنا التي تكون في بيات شتوي.
ما أطيب الحديث معك يا من خلقه الله في أحسن تقويم، وجعله سيدًا لهذا الكون العظيم.. وما أجمل الكلام -كذلك- عن قدرة الصانع الذي أوجد كل شيء من اللاشيء، وخلق الكائنات جميعًا لتسبّح له وتقدِّسه.. ولكن الوقت مضى، وحان وقت العودة إلى حيث أتيتُ.. فطريقي طويل.. وزادي ثقيل.. فعليّ أن أذهب حتى لا أتأخر على أهلي وعيالي.. اعتن بنفسك جيدًا، واذكر ربك دائمًا لتحبَّه فيحبك ويرضيك في الدارين.. إلى اللقاء.