مرحلة الشباب الباكر تقع بين الثاني عشرة، والحادية والعشرين من عمر أبنائنا، وفيها تدرج واقتراب من النضج البدني والنفسي والمعرفي والسلوكي، وهي مرحلة طبيعية تنتقل بالطفل من الاعتماد الكلِّي على الآخرين، إلى شخص مستقل مكتف بذاته يعتمد على نفسه، لكنها ليست تمام النضج، إذ لا يصل المرء إلى تمامه إلا بعد سنوات يكتسب خلالها بعض أو كل الخصائص التالية:
• رغبة قوية في إثبات الذات مع شعور بالنضج العقلي والفكري، وبروز شحنة بدنية قوية وقفزة سريعة في النمو البدني والفسيولوجي مع الاهتمام بالجنس الآخر.
• شحنة روحية وقيمية وخلقية صافية وقد تنزع للمثالية، وذلك توازيًا مع شحنة نفسية ووجدانية واجتماعية متوازية مع بقية الجوانب. وللتحولات الهرمونية والتغيرات الجسدية تأثير قوي على الصورة الذاتية والمزاج العاطفي والعلاقات الاجتماعية.
• القابلية الشديدة للاستهواء والتقليد، واتساع الخيال، والتوحد مع قدوات صالحة أو طالحة، وتقمص أو تقليد الأبطال التاريخيين وأبطال القصص والروايات، والنماذج الإعلامية والفنية والرياضية.
عوامل مؤثرة في التكوين
ينبغي مقاربة مراحل النمو وفقًا لخصائص كل منها، وتفرض خصائص هذه المرحلة حاجات مُلحة، هي الحاجة لإثبات الذات، والحاجة إلى الحب والأمان، والحاجة إلى الاحترام، والحاجة للتوجيه الإيجابي، والحاجة للشعور بالمكانة الاجتماعية.. كما أنها تتأثر بما مر به الشاب من خبرات سابقة. فكل مرحلة سوية سليمة خالية من الصعوبات، تترادف مع سابقتها التي تتسم بنفس الصفات، ومن سماتها أنها تختلف فيما بين الأفراد والمجتمعات والثقافات. كما أن عدم التناغم والتناسق والتوجيه السليم للتعامل مع تغييرات هذه الفترة -فضلاً عن التأثير السلبي للعوامل التربوية/البيئية المحيطة به- قد يُسفر عن شعوره ببعض الارتباكات، مثل:
أ- الارتباك الداخلي: ويكون بين رواسب ما كان، ومتطلبات ما هو كائن.. بين استقلاله وكونه ما زال معتمدًا على أسرته.. بين تذبذب هويته وانتماءاته وقيمه وبين ترسيخها.. بين ضبابية الهدف والطموحات الزائدة والتزامات قاصرة وبين إلحاح غرائز داخلية وقيم وأخلاق وضوابط دينية ومجتمعية، وصراع بين تفكير ناقد لذاته وأطر مجتمعه.. ارتباك بين ثقافة جيله وثقافة الجيل السابق.
بـ- الانعزال والتمرد: يشكو من أن والديه لا يفهمانه، فيحاول الانسلاخ عن مواقفهما وسلطتهما فقط كوسيلة لإثبات تفرده. ويرى أي سلطة فوقية، استخفافًا بقدراته العقلية النامية، لذا فقد يشعر بالعزلة عن الأسرة والمجتمع، مفضلاً الانفراد بذاته يتأمل أحواله، فضلاً عن شعوره بتنامي الفراغ الذي يعانيه.
القابلية الشديدة للاستهواء والتقليد، واتساع الخيال، والتوحد مع قدوات صالحة أو طالحة، وتقمص أو تقليد الأبطال التاريخيين وأبطال القصص والروايات، والنماذج الإعلامية والفنية والرياضية.
عوامل مؤثرة في التكوين
جـ- الخجل والانطواء: يظهر من خلال احمرار الوجه وتلعثم النطق والتضارب بين التدليل، والخوف الزائد عليه يؤدي إلى شعوره بالاعتمادية على الآخرين، بيد أن طبيعة مرحلته تتسم بالاستقلالية والاعتماد على النفس، فيلجأ إلى الانطواء والخجل.
د- العصبية وحدة الطباع: يرغب في تحقيق مطالبه الخاصة دون اعتبار للمصلحة العامة، فيتوتر بشكل قد يسبب إزعاجًا للمحيطين به، وقد يتسم سلوكه بمظاهر حادة لفظًا وفعلاً كالصراخ، والقسوة، والجدل العقيم، والتورط في المشاكل، والضجر السريع، والتأفف من الاحتكاك بالناس، وتبرير التصرفات بأسباب واهية، والنفور من النصح، والتمادي في العناد.. فالمستويات الهرمونية المرتفعة خلال هذه المرحلة مع تأثير الوراثة والتربية والبيئة، تؤدي في مجملها إلى تفاعلات مزاجية على شكل غضب وإثارة وحدة طبع عند الذكور، وغضب واكتئاب وانعزال عند الإناث.
هـ- ارتباك الغريزة ومشكلة الجنس: ليس في مجتمعاتنا العربية الإسلامية مشكلة الجنس، لكن المشكلة قد تنشأ من زيادة المثيرات الخارجية الخليعة، وشيوع الثقافات المتحللة من ضوابط الأخلاق، وعدم شغل أوقات الفراغ بما هو مفيد، وضعف التوجيه الأسري والتربوي، والعقبات الاقتصادية التي تؤخر الزواج.
هذا وإن أهم متاعب هذه المرحلة، تتأتى من الخوف الزائد على الأبناء من الفراغ وأصدقاء السوء، ومن عدم قدرتهم على التمييز بين الخطأ والصواب باعتبارهم قليلي الخبرة في الحياة، حيث يرفضون النصح ويطالبون بالمزيد من الحرية والاستقلال محاولين الانفصال عن الأسرة والمجتمع بشتى الطرق. ولم يكن التحول البيولوجي الذي يدخل فيه الولد هو السبب الوحيد في ظهور مشكلات هذه المرحلة، وإنما لتداخلها مع الظروف الثقافية والتربوية والاجتماعية المحيطة. فصورة الشاب في المناطق الحضرية تختلف عنها في المناطق الريفية والبدوية؛ ففي الأولى يستمر الاعتماد على الأبوين مدة أطول ريثما يُتمم الولدُ تعليمه ويحصل على عمل يؤهله لبناء أسرة مستقلة، بينما في الثانية ينضم الشاب سريعًا لزمرة الكبار، ويجد عملاً، ويُسمح له بالزواج وتأسيس أسرة بمجرد اشتداد عوده.
إن معظم مشكلات هذه الفترة، تنشأ بسبب إحجام الأبناء والبنات عن الحوار والتفاعل مع أولياء أمورهم، ظنًّا بأن أولياءهم يرغبون في تسييرهم وفق آرائهم وعاداتهم وتقاليد مجتمعاتهم.. بيد أن الشباب في الأسرة المتماسكة، ذات الروابط التربوية القوية التي يحظى أفرادها بالترابط واتخاذ القرارات المصيرية في مجالس عائلية محببة يشارك فيها الجميع، ويهتم جميع أفرادها بشؤون بعضهم البعض، هم الأقل شعورًا بضغوط هذه المرحلة، والأكثر إيجابية في النظرة إلى الحياة.
التوجه نحو سلوك الراشدين
الشاب إذا تصرف كطفل سخر منه الكبار، وإذا تصرف كرجل انتقده الرجال، مما يؤدي إلى خلخلة توازنه النفسي، لذا فمساعدته وتهيئته لهذه المرحلة أمر في غاية الأهمية، وذلك عبر بعض النقاط التالية:
1- إعداده أسريًّا وتربويًّا لهذه المرحلة، إذ أصبح ناضجًا ومسؤولاً عن تصرفاته واختياراته، فيتم البدء من توعيته بمرحلة التكليف والحساب أمام الله تعالى، ويُحثُّ على ترجمة القيم الدينية والأخلاقية على سلوكه وتصرفاته في الحياة، ويوكَل إليه مهمات يؤديها بثقة من قدراته واستقلاله.
2- إعلامه بأن تغيرات بدنه تُعدِّه إلى التأهل في مهمته الحياتية؛ فهو لم يعد طفلاً، بل أصبح مسؤولاً مستقلاًّ له دور في الحياة. وإشاعة روح الشورى فيه، فيؤخذ رأيه ليدرك أنه مُعتبر الرأي والقيمة، وليُدرَّب على عرض رأيه بصورة منطقية.
3- ترسيخ طاعة الله ورسوله وحسن العبادة وطاعة الوالدين، وجعل البيئة التي ينشأ فيها، تؤثر تأثيرًا إيجابيًّا في تربيته عقيدة وعبادة وسلوكًا. فالأب والأم والمربي والمعلم يشاركون مشاركة فعَّالة في تقوية إيمانه، وفي مد جسور التواصل مع أهل الخبرة والصلاح في المحيط الأسري وخارجه، وذلك لإشعاره بالأمان والحب والعدل والاستقلالية والحزم.
الشاب إذا تصرف كطفل سخر منه الكبار، وإذا تصرف كرجل انتقده الرجال، مما يؤدي إلى خلخلة توازنه النفسي، لذا فمساعدته وتهيئته لهذه المرحلة أمر في غاية الأهمية
4- فهمه ومنحه الدعم العاطفي وقدرًا من الحرية المنضبطة، واحترام استقلاليته وأفكاره وآرائه ومواقفه وتجنب الانتقاد أمام الآخرين وبث الأمل فيه، ومحاورته كأب أو كأمٍّ حنون ومحادثته كصديق، واختيار الوقت المناسب للحوار معه والوصول إلى قلبه وعقله عبر التشجيع المُؤدي لتحسين مستوى التحصيل العلمي والتعليمي والتربوي.
5- تشجيعه على ممارسة رياضة يحبها، استنفادًا للطاقات وشغلاً للفراغ، وممارسة لمفهوم التسامح والتعايش، وتوسيع حقول التوافق، وبناء جسور التفاهم في محيط الأندية الرياضية والثقافية.. كذلك استثمار أوقات فراغه بما يعود عليه بالنفع، وتشجيعه على القراءة والاطلاع لتساعده على تحسين سلوكه ومهاراته وتنمية تفكيره الإبداعي.. استثمار هذه المرحلة بتوظيفها لصالحه ولصالح أهله ومجتمعه وبلده.
6- عدم ترْكه ليفعل ما يريد وكيفما يريد ووقتما يريد ومع من يريد، وإنما يجب أن يعي أن كما له من حقوق فإن عليه واجبات يجب أن يؤديها، وأن مثل ما له من حرية فللآخرين حريات يجب أن يحترمها.
7- إجادة فن معاملة الأم مع ابنتها، وإعلامها أنها تنتقل لمرحلة التكليف والمسؤولية عن تصرفاتها، ويؤخذ رأيها فيما يخصها، وتعليمها الأمور الشرعية الخاصة بها، مع إقامة علاقة وطيدة معها لفهم كيف تفكر، وماذا تحب وتكره.
خلاصة القول: أبناؤنا وبناتنا فلذات أكبادنا، عُدَّة الأمة ودعامتها وحاضرها ومستقبلها، وهم بحاجة لفهم مراحل أعمارهم، ليحسُن تربيتهم وتنشئتهم بما يقوي ويحمي مجتمعاتنا ويحقق غاياتنا وآمالنا.
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.