واجب على كل حاملٍ للرسالة الربانية أن يبلغها إلى البشرية كافة، ويحيي بها القلوبَ الغافلة عن فطرتها النقية التي وارتها الغفلة في تربة اليأس. وإن في قوله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)، إشارة إلى إعطاء تصور آخر غير ما كنَّا نتصور نحن عن الجماد، فكانت هذه هي البداية التي نتتبع من بعدها وفي ضوء ما قرره التصور القرآني للجماد. ولكي لا يتشعب الحديث معنا عن أنواع الجمادات وأوصافها، فلنأخذ مثالاً تصدق عليه أوصاف الجماد، وفي نفس الوقت يعطينا طرفًا من الصورة القرآنية عن الجماد، وهذا المثال هو الجبل وقد ذُكر في غير موضع من كتاب الله تعالى، وبالتتبع للآيات التي ذكر فيها، نجدها تشير إلى ثلاثة محاور، هي قوته، وعبادته، والمكافأة أو العطايا الإلهية.

الجبل على الرغم من قوته الظاهرة، لا يغتر بقوته ولا يستنكف عن العبادة والتسبيح لخالقه مع الأخذ في الاعتبار أنه غير مكلف.

1- قوته
مما يرشدنا إلى قوة الجبل أنه كان -ولا يزال- مظهرًا للقوة يتترس به الإنسان ويلجأ إليه؛ فإن نوحًا عليه السلام عندما خالفه ابنه في أمر التوحيد، تحرك وجدان نوح عليه السلام نحو ابنه، وراح يدله على سبيل النجاة: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ)(هود:42)، ولكن الابن تأثر ببيئته وما فيها من جبال، فاغتر بها وظن أن بها من القوة ما يكفي لنجاته فقال لأبيه بقلب يعلوه الران: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ)(هود:43)، لقد تعلق بالقوة المادية في قساوة قلب لم يُعهد مثلها في التاريخ، فتبرأ منه والده ولم يكرر النداء، فكانت العاقبة أن باء بالخسران.
وإذا بالتاريخ يعيد نفس المشهد والحال مع أصحاب الحِجْر؛ فقد بلغ الغرور بأصحاب الحجر مبلغه فكذبوا نبيَّهم لما جاءهم بالتوحيد، فكان منهم الإعراض والتكبر لأنهم “كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا آمنين”، فاغتروا بقوة الجبال، وظنوا أنهم بداخلها في بيوتهم آمنين، فكان الجزاء الإلهي: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ  فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(الحجر:83-84).
فهذا الجبل على الرغم من قوته الظاهرة، لا يغتر بقوته ولا يستنكف عن العبادة والتسبيح لخالقه مع الأخذ في الاعتبار أنه غير مكلف.
2- عبادته
إن الجبل لم يغتر بقوته التي أفاضها عليه الله تعالى، ولكنه أبى -على الرغم من كونه غير مكلف- إلا اللحاق بفريق العُبَّاد لله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ)(الحج:18)؛ فالجبل أيضًا من فريق الساجدين، بل إنه لم يلتحق بهذا الفريق رياء أو مباهاة أو مفاخرة، ولا يسجد سجودًا خاليًا من الخشوع لله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)(الحشر:21).
فالحجارة والجماد يسبح الله عزوجل لدرجةٍ عُليا تصل إلى الخشوع والخشية، فالحجارة تحركت من موضعها خشية لله تعالى، والقلوب ما زالت على قسوتها لا تتحرك حتى عند الاعتداء على المقدسات وانتهاك الأعراض وقتل الأبرياء، يقول تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)(البقرة:74)، وبسبب هذه القسوة التي لا يحدها وصف، فإن الحق عزوجل قد أعد العذاب المهين لأصحاب القلوب القاسية، يقول سبحانه وتعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)(الزمر:22).
3- المكافأة أو العطايا الإلهية
قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا)(القصص:46)؛ والطور هو الجبل المعروف بسيناء، فنجد أن الله تعالى لما نادى على الكليم عليه السلام وكلَّمه وأوحى إليه بالرسالة، قد شرَّف المكانَ ووهبه الروحانية والقدسية، فكلمه عند جبل الطور، وهذا يدل على بركة المكان.
وأما كونه مقدسًا، فإن الله عز وجل جعل الطور وما حوله، واديًا مقدسًا وسجل هذا في كتابه الكريم بما لا يدع مجالاً للشك: (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)(طه:12)، فنال المكان البركة والقدسية بفضل الله تعالى منحة للجبل.
وأيضًا أقسم الله تعالى بالطور: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ  وَطُورِ سِينِينَ)(التين:1-2)، وكذلك فإن الله عز وجل علق الرؤية على الجبل، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)(الأعراف:143).
وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ)(البقرة:74)، فكما أن قوته أهلكت أقوامًا لما اغتروا بها بعض الناس أن ذلك من أسباب دمار الحضارات، ولكن جعل الله  فيه ما يبعث الحياة في النفوس، ففجر منه المياة العذبة النقية لقوم موسى عليه السلام. فلا عجب إذا رأينا النباتات تزهر في الجبال وتشق الصخر، معلنة عن وجودها حيث لا يوجد سبب من أسباب الحياة كما هو في الظاهر، ولكن عناية الله بخلقه هي التي تكفلت بذلك.
ثم إن الله جعله علامة على إحياء الموتى كصورة مصغرة للبعث الأكبر، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(البقرة:260)؛ فكانت آية باعثة على تثبيت قلب الخليل إبراهيم عليه السلام على الحق في مواجهة التحديات التي تواجهه في تبليغ الرسالة.
وأيضًا فإن من المنح للجبل أن ربط به بعض العبادات؛ فجبل عرفات جعله الله ركن الحج الأعظم، فلا حج لم يقف عليه، والصفا والمروة جعلهما الله من الشعائر بما يضمن لهما الخلود في ذاكرة التاريخ الإسلامي.
هذا، وقد ورد حب النبي صلى الله عليه وسلم للجبل؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب أُحُدًا: “هذا جبل يحبنا ونحبه” (رواه البخاري).
ولأن الجبل -كما أسلفنا- من جملة العباد والمسبحين لله تعالى، وربط نفسه بهذا الفريق، نجد أن الله تعالى أعطاه تكريمًا من نوع آخر، فجعله في أوائل هذا الفريق من العباد لله تعالى؛ فعندما أراد الله أن يلقي على خلقه الأمانة، اختار فئات تليق بهذا التكريم الإلهي فكان الجبل من بينها: قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ)(الأحزاب:72).
والسمت الجامع بين هذه المخلوقات هي عبادة الله تعالى، فإن السماوات والأرض أخبر الله تعالى عنهما فى كتابه الكريم، فقال: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(فصلت:11)، والجبل كذلك من هذا الفريق، يعبد الله طوعًا، لحق بهم عند الاختيار لحمل الأمانة، مع الأخذ في الاعتبار أن ثلاثتهم ليس مكلفًا، فلما كان الأمر كذلك خُيِّّروا، ولكنهم فطنوا إلى عظم الأمر، وتحملها الإنسان ولم ينتبه لعظم الأمانة، فكان كما ذكر تعالى: (ظَلُومًا جَهُولاً)(الأحزاب:72).

لا بد من العودة إلى الله تعالى، وإحياء موات القلوب بماء القرآن العذب الرقراق، والتدبر في آي الله تعالى المبثوثة في الأنفس والآفاق، بما يزيل القسوة وأسبابها عن القلوب.

من هذه الآية يتبين دون أدنى شك قوته عز وجل التي تربو على هذه المخلوقات، وذلك أنه تحمَّل القول الثقيل لهداية البشرية كما قال تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)(المزمل:5).
ومن قوة النبي صلى الله عليه وسلم -المادية والمعنوية- إلى الواقع المعاصر، فيجب علينا -للنهوض من غفلتنا وسباتنا العميق- أن نتعلق بأسباب القوة الحقيقية، والتي من أول مبادئها رقَّة القلب والخشية من الله تعالى، والإخلاص في عبادته عز وجل، وهذا وعد الله لن يتخلف قال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)(النور:55).
فلا بد من العودة إلى الله تعالى، وإحياء موات القلوب بماء القرآن العذب الرقراق، والتدبر في آي الله تعالى المبثوثة في الأنفس والآفاق، بما يزيل القسوة وأسبابها عن القلوب.
ومن حلمه تعالى أنه ينادي على قلوب المؤمنين التي ربما غطاها الران فصارت قاسية لا تخشع ولا تتدبر آي الله تعالى، حتى أصبحت أقسى من الحجارة في باطن الجبال. ولعل هذا النداء الرباني يجد في القلوب قطرة أو رشفة من إيمان، يقول تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)(الحديد:16).
هناك من يستجيب لهذا النداء فيحيا ويسعد، وهناك من يتنكر ويستنكف عن الإجابة فيشقى، وهذا في نظر القرآن الكريم ليس له قلب أو حياة حتى وإن كان حيًّا ظاهريًّا. ولأن الله تعالى هو العدل الحق، فإنه يبعث إلينا برسالة تبث الثقة واليقين في وعده.

(*) باحث وكاتب مصري.