يصف أفلاطون الفرق بين الفلاسفة والعامة في الجزء السابع من كتابه “الجمهورية” من خلال قصة الكهف الشهيرة، حيث يطلب منا سقراط أن نتخيل أناسًا يعيشون في كهف منذ طفولتهم وهُمْ في وَضْعٍ بحيث لا يرون أمامهم سوى جدار الكهف، ولا يعرفون أن وراءهم ممرًّا طويلاً يقود إلى خارج الكهف، ويوجد خلفهم ضوء ساطع يجعل ظلال الأشياء مِن خلفهم تسقط على الجدار أمامهم. ويعيش هؤلاء الأشخاص حياتهم وهم ينظرون إلى الحائط، ويتعاملون مع الظلال الساقطة على الجدار كما لو كانت أجسامًا حقيقية، ولا يدركون أنها ليست في حقيقتها سوى ظلال أو صور للأجسام الحقيقية. وعندما يسمعون أصداء الأصوات تتردد داخل الكهف، يعتقدون أن الظلال هي التي تصدر تلك الأصوات، وتبدأ عقولهم في نسج قصص حول تلك الظلال، ويصبح لها معنى لديهم، فهذه الظلال هي “الحقيقة” بالنسبة لهم.
الخروج من الكهف
وذات مرة، تمكّن أحد هؤلاء الأشخاص -بشكل أو بآخر- من التحرر من هذا الوضع الثابت، واستدار ليرى ذلك الضوء الساطع والظلال التي يكوِّنها، والممر الذي يمتد لأعلى إلى خارج الكهف حيث يوجد نور أكثر سطوعًا، فقطع الممر والنورُ يؤلم عينيه حتى خرج من الكهف إلى ضوء النهار، إلى العالم “الحقيقي”.. ولم يستطع في البداية رؤية السطوع الكامل للحقيقة؛ فلا بد أن تعتاد عيناه عليها بالممارسة، إلا أنه في النهاية أصبح يرى كل شيء بوضوح، فعاد إلى الكهف ليخبر الآخرين بالظلام الذي يقبعون فيه والنور الذي يُمْكنهم الحصول عليه إذا تحرروا وتركوا تلك الظلال ومشوا عبر الممر إلى النور، فسخروا منه وتشاجروا معه، حتى قرروا قتله في النهاية بسبب أفكاره التي تبدو سخيفة للغاية ولا تمت بصلة للحقيقة.
فتح الله كولن ينادي بالكرامة الإنسانية والقيمة الأخلاقية المتأصلة في إطار النظام الفلسفي الديني للإسلام، والذين يعيشون غافلين عن تلك القيمة وذلك الوعد -أو مستخِفِّين بهما- يختارون أن يعيشوا حياة أدنى من الحياة الإنسانية
والشاهد في القصة واضح، وهو أن عددًا محدودًا من الناس هم الذين سيوجهون شخصياتهم بالكامل صوب نور الحكمة والحقيقة، ويهبون أنفسهم للبحث عنه رغم كل المصاعب، أما الأغلبية فسوف يفضلون كهف الظلام ويقضون حياتهم مشغولين بالأعمال اليسيرة والهينة التي تنتمي إلى عالم الظلال.
النور الساطع
يقول فتح الله كولن: “نؤكد أن هذه القوة كامنة بالفعل في روح الجميع. فالطريقة التي يتعلم بها كلٌّ منا تشبه ما يحدث للعين؛ فهي لا تستطيع الانتقال من الظلام إلى النور من دون نقل الجسم بأكمله، لذا فإن المرء -من خلال قدرته على المعرفة إضافة إلى روحه بأكملها- ينبغي أن يحوِّل وجهته من عالم الأشياء المؤقتة والزائلة إلى عالم الوجود الأزلي الدائم، إلى أن يتعلم في النهاية تحمُّل رؤية أكثر الأشياء سطوعًا في ذلك العالم. وهذا هو ما نسميه “الخير” أليس كذلك؟”.
إذن، صحيح أن القدرة على الحياة بحب الحكمة موجودة فينا جميعًا، إلا أن القليلين هم مَن يفعِّلون هذه القدرة الداخلية في حياتهم. وتحقيق ذلك يتضمن توجه الفرد بكل كيانه نحو “الحقيقة المطلقة” ومقاومة إغراء المتع الزائلة التي تكون في أحسن الأحوال مجرد صور لتلك الحقيقة. ويتفق أفلاطون مع كونفوشيوس في وجود نوعين أساسيين من الناس في هذا العالم: الأعمى، والبصير.
الإنسان المثالي
وبعد أفلاطون وكونفوشيوس، يأتي كولن ليحدد خصائص البشر المثاليين التي تميزهم عن القطاع العريض من الناس العاديين. وقد أعطى كولن في أعماله، أسماء عديدة للأفراد الذين يُعتَبَرون مثالاً للكمال الإنساني، منها “ورثة الأرض” و”الأجيال المثالية” و”الإنسان المثالي”.. وأيًّا كانت التسمية، فهؤلاء الناس يشتركون في سمات واضحة تميزهم تمامًا عن الناس الآخرين.
بعض الناس يعيشون دون تفكير، بينما البعض الآخر يفكرون ولكنهم لا يستطيعون وضع أفكارهم حيز التنفيذ.
ويرى كولن أن التجديد والنهضة سيَحدثان في العالم بشكل عام -وفي تركيا بشكل خاص- عندما يتقدم هؤلاء الناس المثاليون روحيًّا وأخلاقيًّا وفكريًّا لقيادة الإنسانية إلى عصر جديد، من خلال ما يقدّمونه من خدمات وأيضًا ما يمثّلونه من قدوة في حياتهم الخاصة. وبدون هؤلاء الناس سيستمر المجتمع في التخبّط وسط بحر من الشهوات والأيديولوجيات الانتهازية، ولن يَسْمُوَ الناس في مجتمع كهذا إلى مستوى يجعلهم يستحقون صفة “الإنسانية”.
إنسان الحكمة
يقول كولن: بعض الناس يعيشون دون تفكير، بينما البعض الآخر يفكرون ولكنهم لا يستطيعون وضع أفكارهم حيز التنفيذ. (…) ومَن يعيشون دون تفكير يكونون مادة لفلسفات الآخرين، وهم يتنقلون دائمًا من نمط إلى نمط ولا يفتأوون يبدلون قوالبهم وصورهم ويقضون حياتهم في سباق محموم من الانحرافات في الأفكار والمشاعر، والاضطرابات في الشخصية، وهم ممسوخون بصورهم أو أرواحهم، وليس بمقدورهم أن يرجعوا إلى ذواتهم. (…) هؤلاء يُشْبهون دائمًا بِركة ماء راكد آسن منتن، فبدلاً من يبعثوا الحياة فيما حولهم، يصبحون أشبه بمستعمرة للفيروسات أو مأوى للجراثيم”.
هذه هي كلمات كولن، ولكنها يمكن بسهولة أن تكون كلمات أفلاطون أو كونفوشيوس أيضًا؛ فـ”كولن” هنا يفعل ما سبقه إليه زميلاه في المحاورة من تحديد نوعين من الناس في هذا العالم، وهم المثاليون -أو من يدركون ما هو مثالي ويسْعون إليه- والدنيويون. وما يشترك فيه الدنيويون هو أنهم -عند مستوى معين- ينسون أنهم أناس لهم قيمة. ويكمل كولن فيقول:
وقد أعطى كولن في أعماله، أسماء عديدة للأفراد الذين يُعتَبَرون مثالاً للكمال الإنساني، منها “ورثة الأرض” و”الأجيال المثالية” و”الإنسان المثالي”.. وأيًّا كانت التسمية، فهؤلاء الناس يشتركون في سمات واضحة تميزهم تمامًا عن الناس الآخرين.
“ويبلغ من ضحالة أفكار هؤلاء الناس وسطحية آرائهم أنهم يقلدون كل ما يرون أو يسمعون -تمامًا كالأطفال- يسيرون كالإمّعات هنا وهناك وراء الجموع، ولا يجدون أية فرصة للإنصات إلى أنفسهم أو محاولة التعرف على قيمتهم، بل إنهم لا يدركون أصلاً أن لديهم قيمة تميزهم عن غيرهم، فيقضون حياتهم كعبيد للجسد، عبيد لا يرضون بالتحرر من أحاسيسهم الجسدية، ويجدون أنفسهم -بوعي أو بدون وعي- عالقين في واحد أو أكثر من تلك الفخاخ القاتلة، ويَذبحون أرواحهم مرة بعد مرة في أكثر أشكال الموت بؤسا”.
بين متعة الجسد ونشوة الروح
وكما هو الحال مع سكان الكهف في قصة أفلاطون، فإن الدنيويين -حسب رأي كولن- يعيشون حياة متمركزة حول المتع الجسدية المحدودة على حساب المتع العليا من النمو الفكري، والارتقاء الروحي، والمساهمة في بناء المجتمع، وهم بذلك يتنكرون لإنسانيتهم ويعيشون كالحيوانات. ويقول كولن فيما يتعلق بالوصول إلى الإنسانية الكاملة:
“إلا أن البشر بعيدون كل البعد عن الوصول إلى ذلك بسبب جسديتهم وشهوانيتهم، بل يمكن القول: إنه عندما يغفل البشر عن أنفسهم أو عن وجودهم وماهيتهم فإنهم قد يصبحون أدنى من المخلوقات الأخرى. غير أن هؤلاء البشر في الوقت نفسه -بعقولهم ومعتقداتهم وضمائرهم وأرواحهم- شهود على الأسرار المقدسة الكامنة بين مسارات الحياة. ولذلك فإنه مهما بدا البشر تافهين، فإنهم يظلون “المثال الأسمى” ويظلون مميَّزين عن غيرهم. والإسلام لا يقدِّر قيمة البشر بطريقة مَسْك العصا من المنتصف، فهو الدين الوحيد بين كل المعتقدات الذي يَعتبر البشرَ كائناتٍ راقيةً خلقت لرسالة أو لمهمة خاصة، ولذا فقد أمدها الله بإمكانات ومواهب أعلى. فالبشر في الإسلام لهم السيادة لمجرد كونهم بشرًا”.
الكرامة الإنسانية
فتح الله كولن ينادي بالكرامة الإنسانية والقيمة الأخلاقية المتأصلة في إطار النظام الفلسفي الديني للإسلام، والذين يعيشون غافلين عن تلك القيمة وذلك الوعد -أو مستخِفِّين بهما- يختارون أن يعيشوا حياة أدنى من الحياة الإنسانية، وتلك للأسف هي الحياة التي يختارها أكثر الناس.
إنه عندما يغفل البشر عن أنفسهم أو عن وجودهم وماهيتهم فإنهم قد يصبحون أدنى من المخلوقات الأخرى. غير أن هؤلاء البشر في الوقت نفسه -بعقولهم ومعتقداتهم وضمائرهم وأرواحهم- شهود على الأسرار المقدسة الكامنة بين مسارات الحياة.
ولكن من بين الجموع الغفيرة، يظهر قلة من الأفراد الاستثنائيين يرون ما هو أبعد من المتع الوقتية الزائلة ومشاغل الحياة الدنيا، وهؤلاء -رغم تنوع وصفهم لدى كونفوشيوس وأفلاطون وكولن- يصلون إلى المثالية الإنسانية، وبالتالي يمثلون القدوة الساطعة لما هو ممكن في عالم الحياة الإنسانية. وبالنسبة للمفكرين الثلاثة، ينعقد الأمل على هؤلاء الناس في تحقيق حياة إنسانية طيبة على المستوى الفردي والاجتماعي أو السياسي، لذا يرى كلٌّ من المفكرين الثلاثة -بطريقته الخاصة- أن هؤلاء الأفراد المثاليين ينبغي أن يأخذوا مكانهم كقادة في المجتمع.
(*) كاتبة أكاديمية في جامعة “رايس” الأمريكية / الولايات المتحدة الأمريكية. وهي مؤلفة كتاب “محاورات حضارية”.