كثيرة هي التساؤلات التي تطرح هذه الأيام حول ظواهر العنف التي انتشرت كالنار في الهشيم، منهم من يقول: “إنها تحصيل حاصل نتيجة عوامل متداخلة؛ سياسية واقتصادية وثقافية ودينية…إلخ، والبعض يرد بالقول: “إنها بداية وعي الناس بهويتهم وتدينهم مستشهدين بالرعيل الأول الذي لم يتخاذل يوما في رد العدو، وعليه، ف”السيف أصدق أنباء من الكتب”.
إن قتل إنسان شيء في منتهى الفظاعة” وعليه، فالإسلام في حاجة ماسة إلى “إنسان جديد”، لأن الغلط ليس في الإسلام كدين ظهر لأزيد من خمسة عشر قرناً، وليس فيما هو مكتوب من نصوص، كما هو الأمر في القرآن والحديث، بل الغلط في طريقة التفسير..
غير أن المؤكد هو إلصاق تهمة العنف بالإنسان المسلم، فقد أصبح هذا الأخير بعبع يجب الحذر منه، وفي أي لحظة يمكن أن ينفجر، إنه قنبلة موقوتة. ومما لا شك فيه أن هذه الخرافة أصبحت حقيقة، رغم أن الغالبية العظمى الذين يحملون صفة “مسلم” يستنكرون مثل هذه الأعمال المدمرة؛ غير أن الترسانة الإعلامية لها كل القدرة لجعلها حقيقة. فمن يملك الإعلام يمتلك الحقيقة، بل يصنعها ويتحكم في تفاصيلها.
قد يقول قائل إن مفهوم العنف كوني ولا حدود له، وهذا لا يختلف عليه عاقلان، لكن عندما يتعلق الأمر بالمسلم فهو “عنف إرهابي”، وإضافة مصطلح “إرهابي” له دلالة خاصة في نظري، مواده متوفرة في الشرق ومختبره في الغرب، قياساً على كل المصنوعات.
إن السؤال الذي ينطرح بقوة؛ لماذا هذا الخوف وهذا التوجس من الانسان المسلم (الإسلام)؟ ما أسبابه وما جذوره؟ هل المشكل في الإسلام، أم أنه لا مشكلة له، وإنما الخلل في الانسان الذي يحمله؟
جذور وأسباب الخوف من الإسلام / الإسلاموفوبيا
يمكن القول: “إن الصراع بين القيم المسيحية – اليهودية والقيم الإسلامية يرجع إلى بداية ظهور الدين الإسلامي كبديل؛ غير أن الخوف من الإسلام كدين منافس في العالم الحديث على المستقبل المعاصر، يرجع إلى انتصار الثورة الإيرانية وكذا نتائج الانتخابات الجزائرية لسنة 1991. وأثناء هذه الفترة سطع مصطلح جديد على الساحة الفكرية “إسلامي / إسلاموي”. وإذا تتبعنا هذه الكلمة في “القرآن الكريم” و”الأحاديث النبوية” والأدبيات الإسلامية قد لا نجد لها أثراً إلا فيما ندر. ففي القرآن الكريم لا نجد إلا كلمة “مسلم” و “مؤمن”. وعليه فإن المصطلح هو اختراع حديث من لدن غير المسلمين، فهو كما يقول الدكتور المهدي المنجرة، “تحريف لغوي وتاريخي اعتمد عن قصد”.
إن الإسلام ليس جامداً أو متخشّباً كما يزعم البعض، وإنما دين دينامي يعتمد المقصد كغاية وعليه؛ فالمشكلة لا تكمن في مستقبل الإسلام لأنه لا مشكلة له. فهو سيظل يزدهر كما كان لقرون، وكما تؤكد على ذلك كل المؤشرات.
وإذا تتبعنا جذور الكلمة في اللغات غير العربية، نجد في اللغة الفرنسية مثلا أن مصطلح “إسلامي” مرادف “إسلاميك”، وفي اللغة الإنجليزية نجد “الإسلاموي” ويقصد به الإسلام الأرثوذكسي، طالب أو محصل الدراسات الإسلامية. كما أن الكلمة استخدمت بشكل محدود عند الإمام الشافعي، وهو أول من استخدمها؛ حتى يميز بين أسلوب الشعر ذو مرجعية إسلامية وأسلوب المعلقات.
إن هذا السياق يظهر أن الكلمة ليست بريئة وإنما تحمل في طياتها حملاً ثقيلاً، ويتأكد هذا المعنى من خلال ما ينشر من كتب ومقالات تحت هذا الاسم، “إسلاموي” و”إسلامي متطرف”.
إن هذا الانتشار الواسع للكلمة وخاصة في أوساط لمن نُحِتت من أجلهم يخفي وراءه جهلاً بالأسباب، مما يعني أننا ما زلنا لم نع بعد قضايانا، فراهننا ما زال مرهون بيد الأخرين، ومثقفونا لم يفقهوا بعد ما” للحرب السيمانطيقية” من قوة وتأثير، ويمكن أن نتساءل سؤالا ً استنكارياً؛ لماذا لا نتحدث عن “مسيحياوي” أو “يهودياوي”؟
إن هذا النهج الذي ينتهجه “الآخر” تجاه أول “دين” على الصعيد العالمي، غايته تشويه صورة كل من يحمل هذا الدين، وفي هذا الصدد ستظهر العديد من الحملات الإعلامية المنظمة تجتهد في ربط “التطرف” و “العنف” و”الإرهاب” والمساس “بحقوق الانسان” بالإسلام. فهذا الربط اللامنطقي أصبح اليوم مكشوفًا ولا يخفى على أحد، في ظل انتشار الإعلام البديل. غير أن المشكل في اعتقادي لا يكمن في الجلّاد، وإنما في أداة الجلد.
وتأكيدًا لما سبق فإن الخوف من الإسلام أضحى من الهواجس الرئيسية لدى الانسان الغربي، بحيث أصبح الخوف هو العامل الأساسي والمحرك لخطوات أصحاب القرار في العالم الغربي، ومن ثم ممارسة “سياسة الحكم بالترهيب”.
إذا كان الأمر كذلك، فهل المسلمون اليوم غير واعين بمشكلاتهم وحلولها؟ الجواب حسب الخبراء ليس بالسلب وإنما بالإيجاب، فهناك وعي تام بهذه المشكلات وحلولها في نفس الآن، لكن تماشيا مع الطرح الذي أنهيت به الفقرة أعلاه “إن المشكل ليس في الجلاد وإنما في أداة الجلد نفسها”.
أي مستقبل للإسلام في ظل التحديات الراهنة؟
إن تقديمي للمحور السابق بهذا البعد، يدفعنا إلى التساؤل عن أفق الإسلام ومستقبله؟ فهذا الأفق مرهون ب “الإنسان الجديد“ الذي يحمل هذا الأمر عن وعي عميق وبأساس راسخ، ولن يتأتى هذا بدون الرجوع إلى الذات وتملّكها وبدون وجود “أولئك الذين يتمتعون بدراية لوجودهم، ويقدرون على قراءة الوجود وفهمِه بشكل صحيح…، ففي عالم أُهمل فيه العقل، وجُنب القلب، وأُخمدت نار حب الحقيقة، وانطفأ لهب الشوق للمعرفة”، أيمكن الحديث عن هذا الانسان. إن العقل الفارغ لا ينتج إلا الفراغ. وإن أقوى فراغ اليوم، هو ذلك الذي نجده في صفوف شباب يفجر نفسه باسم الله. ونسي قول الله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)(المائدة:32).
نعم، “إن قتل إنسان شيء في منتهى الفظاعة” وعليه، فالإسلام في حاجة ماسة إلى “إنسان جديد”، لأن الغلط ليس في الإسلام كدين ظهر لأزيد من خمسة عشر قرناً، وليس فيما هو مكتوب من نصوص، كما هو الأمر في القرآن والحديث، بل الغلط في طريقة التفسير، وفي الاستلاب الذي استولى على الأمة الإسلامية وفي الاستعمار الثقافي الذي يريد القضاء على قيم المسلمين وعلى قيم مجتمعات الجنوب.
إن هذا الخوف لا شك أنه يخفي وراءه قوة جامحة، فالإسلام كدين عظمته تكمن في ذاته، وليس في خارجه. إنه دين الحوار والتعدد والاختلاف والتسامح…، فالإسلام في الوقت الذي يطلب من الأفراد أن يكونوا أحرارًا غير معتمدين على أي شيء غير الله، فإنه أيضًا يقبل الأفراد كأعضاء في الأسرة والمجتمع والأمة وكل الإنسانية بناء على احتياجاتهم المتبادلة. فكل فرد يحتاج أن يعيش مع غيره من البشر ولا يمكن أن يستغني عنهم، وبهذا المعنى فإن المجتمع يصبح مثل الكائن الحي: الأعضاء فيه مترابطة وفي حاجة بعضها إلى بعض. فقد ذكرت في أحد المقالات بأن غاندي الأب الروحي للهند الحديث، قد عزا نجاح دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، إلى “عظمته الأخلاقية”، وإن هذه العظمة تنبع من صلب الإسلام كدين، وما إن تتوفر الشروط والظروف حتى تبرز كبديل، “فعظمة الفكرة لا يضارعها إلا عظمة أخلاق حاملها والمبشر بها والداعي إليها” والعكس صحيح.
كثيرة هي التساؤلات التي تطرح هذه الأيام حول ظواهر العنف التي انتشرت كالنار في الهشيم، منهم من يقول: “إنها تحصيل حاصل نتيجة عوامل متداخلة؛ سياسية واقتصادية وثقافية ودينية…إلخ
وإذا قلنا بأن الإسلام هو دين المستقبل فهذا ليس حلمًا وإنما هو واقع الحال، فالإسلام ليس دينا فحسب وإنما هو – أولا وقبل كل شيء – رؤية ومشروع مجتمعي، ونظام لقيم مجتمعية ثقافية. إنه نظام يدافع عن مبدأ التعددية الثقافية كما ذكرنا آنفاً، وهذا أحد الأسباب التي ساهمت في نجاحه وسرعة انتشاره، فالإسلام أبداً لم يدع إلى فرض نظام ثقافي متجانس. بل دعا إلى التنوع الذي يفضي إلى الوحدة، ويتأكد هذا من خلال قوله عز وجل: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الآية 13 الحجرات).
وتأكيدًا على مستقبلية الإسلام ذكر الدكتور المنجرة رحمه الله وهو خبير في الدراسات المستقبلية، أنه بالرغم من هذه المظاهر أو التوعكات، التي اعتبرها عرضية وتشكل مرحلة مؤقتة، فإنه يؤمن بأن الإسلام هو الديانة المستقبلية للإنسانية جمعاء. معتمدا في ذلك على مؤشرات إذ يقول: إن العنصر العربي لم يصبح يشكل داخل ديانة الإسلام سوى 20 في المئة؛ بحيث إننا عندما نذهب إلى أسيا مثلا، نجد الإسلام فيها يتقوى يوما بعد يوم، نتيجة القضاء على الأمية في تلك البلدان…، ومما يظهر سرعة انتشار وتفوق دين الإسلام، أن عدد المسلمين اليوم أصبح يفوق 10 ملايين مسلم بأمريكا لوحدها.
إن الإسلام ليس جامداً أو متخشّباً كما يزعم البعض، وإنما دين دينامي يعتمد المقصد كغاية وعليه؛ فالمشكلة لا تكمن في مستقبل الإسلام لأنه لا مشكلة له. فهو سيظل يزدهر كما كان لقرون، وكما تؤكد على ذلك كل المؤشرات. من بينها أن صورة الديموقراطية الغربية اهتزت في العالم، ولم يعد هذا الخطاب الشعري يطرب أحداً.
إن هذه الرؤية طبعًا تنبني كما أسلفنا بالقول؛ على الإسلام التحرري الدينامي وليس كما يفسره البعض حتى يصيرونه منغلقاً. فالإسلام لم يأت عقيدة فقط، بل فلسفة حياة وتركيب عقلاني، ومعاملات وأخلاق…الخ.
إن هذا النجم بدأت بوادره تبزغ وسيتلألأ مشِعّاً في “اليوم الذي سنرى فيه قيمة الكرامة وقيمة الحرية وقيمة التعددية وقيمة احترام الآخر وقيمة العدالة الاجتماعية“؛ نحيا بها ومن أجلها. حينها يتحقق الحلم.
إن الله مع الصابرين