الصَّحْو على فراش الخَلوة

الخَلوة أُسٌّ تنبني عليه أسراب الكلمات، تتحرّى أنسابها صدقًا وإكرامًا لعهد الوفاء، تخرج من بطونها عُصارة التَّخَنْدُق ممزوجةً ببِسِمَة الخفاء، في أسمى لحظات الصّفْو والصفاء.

الخَلوة تُرْدِيني فتيلا لا قتيلاً؛ تبزُغ من أعماقها أنوار الأسرار، فأستسلم لغارات الرؤى والأفكار. هي مربضي ومأواي، مبدئي لا منتهاي؛ أتصيّد في أفنانها لحظات التّطهّر منّي وممّا حولي؛ أتفيّأ ظلالها رجاء وغبطة، مشحونًا بنضال مستميت لانتزاع حقّ أضمن به كامل ارتوائي من نبْع الوضوح.

الخَلوة مملكتي الحصينة من رشق رماح المارقين ومن مقانص متربّصي الفرص؛العصِيَّة على أقزام الوقت وسفهاء البئر المسمومة، على سياجها تتمزّق أطماع الفضوليين، وعلى عتباتها تتكسّر أوهام متساقطي الأخبار، فتفشل الخطط وتندحر المزاعم. خلف جدرانها تنتعش الحقيقة آمنة بجوار السكينة؛ لا يقُضُّ مضجعها أنين ولا رنين، ولا يداهمني فيها شكُّ التشتت بِيَقِين البوصلة.

الخَلوة دِرْعي المُنْجية من كل مجمع، وتميمتي التي تنفع؛ هي خزْنة أسراري وخزانة أفكاري ومخزوني الروحي الذي لا ينفد؛ زورق إبحاري وطوق نجاتي نحو مرفأ المعرفة. أنا فيها حبيس الطّوع رهين الاختيار؛ عَصِيٌّ على منعطف الزاهدين.

الخَلوة تستدعيني فتستدْنيني؛ بسحرها تعتريني، إلاّها كلُّ شيء عليّ بِظَهْر حُمْرِ النَّعَم. أمُدُّ شباكي نحوها منقّبا في أحشائها عن حُلُم يحتمي بالأصداف، تستهويني زواياها مُزيحة عنّي غبار التلاشي، مُغدقة عليّ أطيب لحظات التنوير؛ لا يُسعفني معها إلا التّوَدُّدُ لها، ولا يقاطعني فيها سوى صمتِ الحكمة.

الخَلوة ركني القصِيّ الذي لا يشاركني فيه أحد؛ وحدي أملك مفاتيحه، كلّما ضاق حجمه اتّسع فضاء التفكير فيه. كلما توغّلتُ في عمقه انْمَحَى توجُّسي وانفتحَتْ أمامي نوافذ وأقواس.

الخَلوة حسامي القاطع بين ما كان وما سوف يكون، يقيني الذي يقيني السهام. حماستي الكبرى في استشراف أمنيات قريبة التحقق، فيها يتجدّد جمر الاحتراق، وتغدو موانع الإلهام فريسة لرجم الاختراق؛ أحث إليها راحلتي متحمّسا بذهن متّقد، متحسّسا وهَج اللحظة في ابتكار أبكار الأفكار.

الخَلوة منارة الرّصد، وجهي ووِجْهتي بإصرار النية والقصد، بُرْجُ أناتي في مخاطبة الذات، حوار الأصوات في لغة الأعماق، ترجمة الخوالج حروفا جواهرَ في جوهر، تَعْرِفُها في عِناق الناي والوتَر، مصقولةً بِمِشْحَذِ القلب والفكر على صراط الخيط الرابط والنسق الضابط. الخَلوة نبعي الأوّل، سندي المتّصل الذي عليه المعوَّل؛ معدن جرأتي على اقتحام المحال، مُجيرتي من رمضاء الضوضاء؛ ملاذي؛ حرَمُ عزلتي؛ انقطاعي؛ استغراقي؛ محرابي، قِبْلتي التي أرتضيها لتعظيم الشعائر وأداء المناسك في فريضة الكتابة؛ التأمّل فيها فرض، والصّمت سُنّة لولوج المقام.

الخَلوة حِرْزٌ ووِقاء ضد باديات التجمهر وخافيات اللقاء. تِرياقي المنقذ من نَزَق الغفلة ووَعْد السراب؛ حزامي الأخضر ضد جفاف الوقت وأرَضَة الفراغ. هي مَرْشَحِي الذي يعيد للذهن صفاءه. تجارة لن تبور، شعار الربح فيها: استورِدِ الاختلاء تُصَدِّر الامتلاءالخَلوة انزياحمِنْ مُخالفة ساحة الزِّحام، إلى مُحالفة واحة الوِئام. مِن مهالك بلاهة النّزال، إلى ممالك نباهة الانعزال، مِن مُماحكة مارد اللّذَّات، إلى محاكمة وارد الذَّات،مِنِ انْحِباس وسْوسة النَّوْح، إلى انْبجاس وشْوشة البَوْحمِن مُناورة زِينة الخلائق، إلى مُجاورة خزِينة الحَقائِق. الخَلوة محْيَايْ وملاذي، فيها يطيب التذاذي؛ أنتشي في حضرتها بفيوضات التأمّل، فأَعْقِدُ-على مَهَل- قِرانًا خلاّقًا، بين ألفاظ تَهَبُ صداقًا، ومعانٍ تَنْشُدُ عِناقًا.

* مراكش- المغرب