العلامة محمد إقبال شاعر نعرفه منذ نعومة أظفارنا، ومفكر نردد خواطره وألحانه بمدارسنا وبيوتنا، ويحكي لنا الأجداد والخطباء حدة شاعريته وثقابة قريحته وصلابة فلسفته، ويزركشون كلامهم بجواهر نظمه وشعره، شاعر في قلبه أجنحة لا تكسر وأحلام لا تتحطم ولا تنهار، فيلسوف غير وجه التاريخ الإسلامي وبعثه من الجمود والجحود والعقم الفكري، وقدم صفحة تنبض بالحيوية الإسلامية ونادى إلى تعزيز الوطنية.
طبعت حياة محمد إقبال على الحب والطموح والنظر العالي إلى الكون والعالم، كصقر يحوم فوق ركام السحاب ويحلق على الآطام والآكام.
طبعت حياة محمد إقبال على الحب والطموح والنظر العالي إلى الكون والعالم، كصقر يحوم فوق ركام السحاب ويحلق على الآطام والآكام، وقد ارتاض هو نفسه ميادين الفكرة الواسعة واجتال حول قباب الفلسفة والعقيدة، وعزف بنا إلى أوتار الحب والعشق الخالص.
فكل من تصفحه وبحثه عبر سطوره وحياته الحافلة بالمغاورة والاستماتة في كشف الحقائق،جاشت خواطره وثارت عواطفه وأصبح قلبه شغوفًا برشحات قلمه وحريصًا على ضوء علمه، ولاحت له تلك النظرة العميقة والشاعرية المترسخة، وهو يقول عن نفسه”لقد اقتطفت من منهل الغرب علومًا كثيرة، وتناولت من تلك النشوة شيئًا فشيئًا، لقد عايشت علماءه وأدباءه، يا لها من فترة عاتمة ملبدة عليَّ، وساعة رجوت طيها من مرآة قلبي”.
رسالة صقر إلى حمائم بيت الله
الصقر، الأسرع من الطيور الجارحة، العاشق للمباني الشامخة، والذي لا يعشش إلا في الشموخ والقمم، لقد عاش إقبال وعاش معه الصقر وبصره، ودائمًا ردد أبيات عن همة الصقر التي لا تتوهن دون الصخرة ولا تنكسر مهما عصفت الريح وهبت الإعصار، وتمضي حثيثا حتى في الانحدارات والزوايا القوية، مخالب حادة وبصيرة مسددة تؤشر إلى بطشته الكبرى، هكذا احتل فينا الصقر وبصره في طيات قلوبنا.
وقد نشر هذا الصقر الشرقي جناحه ونفض ريشه ومضى قادمَا في سماء الحكمة وقوة الإرادة، وطن في قلبه معنيات الحماسة الدينية والنخوة العربية مع أنه من أصل هندي براهمي، ونصح العرب واستدعى دانيهم وقاصيهم ونبههم عن خطورة الأمر الذي تصدى للعالم الإسلامي، وهو من تلك الزمرة الثائرة والشخصية النادرة التي نبتت إثر تدهور الخلافة العثمانية، وتبلورت دبر تلك الحادثات الأليمة التي نود لطيها ومحوها من التاريخ البشري.
كنا أمة ترعى الغنم، فجاء إلينا الوحي فأصبحنا نسوق الأمم، حتى طلقناه فأصبحت الأمم تسوق خير الأمم
في قلبه نبضة إيمانية ولمسة ربانية، يعيد مرجع الأمور إلى الله ورسوله ويستمد من كتابه وحديثه وهو القائل: “الإنسان كان كومة من التراب، خالية من اللب واللباب، حتى كرمه بالوحي والرسالة، وأتحفه بالولاية والكرامة، فالإنسان أغلى شيء في الوجود، وهو يحمل الرسالة الأخيرة”، بل صرح بقوله عن مجد العروبة وعزتها، وعن فخر العرب وتاجه بين الأمم” كنا أمة ترعى الغنم، فجاء إلينا الوحي فأصبحنا نسوق الأمم، حتى طلقناه فأصبحت الأمم تسوق خير الأمم”، هكذا ضيعنا عنوان الشرف في الطريق.
فمبنى رسالته يقوم على أساس الأخوة في الله والعشق المحمدي، يذكر الأمة بأن الحرم واحد والكعبة واحدة والرب واحد ولكن الأمة تتعدد، فرسالته رسالة حب وغرام لكنها تتوجه دائمًا إلى تلك المضيقات المتعوجة نحو المدينة، وهو يئن ويحن كلما ذكرت المدينة وأطلالها، وديارها وجبالها، وطرقها وأوديتها، لأنه لم يرى المدينة ولم يصادف تلك الدار المباركة، بل نقش في عمق قلبه آلاف التصاوير عن المدينة وصفتها، ورسم لمستها وتفنن في بيان غدوها وأصيلها. إنه إقبال، الذي أحس بنبضة المجتمع وحرك خيوطا لأجله، وأشاد بماضيه الفاخر وتراثه التليد، بل تمركز في الوعي الشبابي وإيقاد هممهم وإنارة قلوبهم، فاستنهضهم بذكريات قرطبة الأندلس، وببغداد وبالقدس، وبالنيل والفرات ودجلة، وبالمغول والخلافة، دفاعًا عنهم وتأييدا لهم.
إقبال شاعر أم ثائر
ربما أزعج هذا العنوان خلايا الفكر وأثار سيلاً من السؤال، لأن شخصية أربكت حساب الفكر والفلسفة لا بد من توازن في معيار عقله وموقفه، إلا أن الشاعر إقبال كان مهمومًا ومهتما بشؤون الأمة الإسلامية وقلبه يدق بالإيمان والوحي والمدينة، حقًا إنه كان مجاهد اللسان وفارس الميدان، في كفه ميزان شعر وديوان ثأر، وانتهز كل فرصته لتفجير انتفاضة ومجد أبطال المسلمين وعمالقتهم وأسس منها قواعد لا تزول وأعمدة لا تنهار.
الإنسان كان كومة من التراب، خالية من اللب واللباب، حتى كرمه بالوحي والرسالة، وأتحفه بالولاية والكرامة، فالإنسان أغلى شيء في الوجود، وهو يحمل الرسالة الأخيرة.
فشعرهيحقق هذا الوصف الثائري، ويجعله فارسًا مغوارًا وأسدًا محتالاً وصقرًا شامخًا، يدفع القوم إلى الميدان ويحثهم على إعادة المجد والرحلة إلى فراديس الجنان وإلى حور الأعيان،بلغة منسوجة الخيال ولفظة ممزوجة بالبصيرة وعمق النظر، إنه شعر شعاره وحدة الأمة ومقره علو القمة، إنه الذي حرك نسائج الوطنية الهندية وصفق حركة الخلافة لأجل الاستقلال والحرية وأظهر بشاعة قوات الاستعمار وفضاحة الاحتلال البريطاني،لم يزل واقفًا في الصعيد الوطني كأنه هو الأسد الباسل ونشرت رسائله التي تدعو إلى دعم القومية وتنظيم حركة الخلافة بين العوام بشكل مجاني، واستطارت عبر الآفاق حاملة بطارية الاندفاع والثورة السريعة الانفجار.
بين القومية والإسلامية
عاش إقبال ظروفًا قاسية وأوضاعًا حرجة، من جانب واحد يدعوه العالم الإسلامي ويقلقه تركيا المجد العثماني ومن جانب آخر هو وسط براثن الاستعمار والتشريد والاضطهاد، على أي حال تسهره هذه الواقعات الوخيمة، لكنه اتخذ موقفًا متوازنًا بين القومية الخرساء والإسلامية الجوفاء، قومية لأجل الحرية وترقية الوطن وإسلامية لأجل السلم والعدالة، إنه مستغرب أن تجتمع في هذا الشاعر هذه السمات المقابلة والملامح المتضادة، لكنه مد قلمه لأجل الوطن وكتب له أناشيدًا بقالب الحب وبذل الثمن، ولم يضن في بيان وصفية الهند وتاريخها وفي تقديسها وتنزيهها.
فما هي إعجازية إقبال، إنه استمد من التاريخ وفتح من جوانبه مكامن الفخر والإباء والشموخ، ثم نظم منه شعرًا وفخرًا وقد سار على هذا الدرب في شأن الأمة أيضًا، بعث من آثار الفتوحات الإسلامية أحلامًا لا تتقطع وأحيا من مدنها وشوارعها آمالا لا تنتهي وأفكارا لا تنمحي:”المسلم هو قائد العالم ومدير الكائنات، بيده ناصية الأمور، وعنده زمام اليوم والغد، فإذا انبثقت فيه زهرة الإخلاص والإيمان فلا ظلام يبقى ولا ظلم يحيى”.
وقد قصم ظهر القومية التي تنقب قلب الديانات والمعتقدات بل نددها بوجه عبوس حيث كان يعلم مدى جرح الأمة الإسلامية التي بعدت رويدًا رويدًا من سواحل الأخوة والإسلامية الصادقة.