تأملت ما صح في السنن من حديث بُريدة بن الحُصَيب رضي الله عنه أنه قال: خَطَبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل الحَسَنُ والحسين رضي الله عنهما، عليهما قميصان أحمران يَعْثُران ويقومان، فنزل رسول الله صلى الله علهي وسلم فأخذهما وصعد بهما إلى المنبر، ثم قال: “صدق الله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ)(التغابن:15)، رأيتُ هذين فلم أصبر”، ثم أخذ في الخطبة (رواه الترمدي).

 لا يصح لأصحابَ الجِدّ والمسؤوليات العظام  أن يسمحوا لجِدِّهم ولمسؤولياتهم بأن تقتل فيهم عواطفَهم، ولا أن تُغَيِّبها -ولو للحظة- ولو كانوا غارقين في أعماق الجِدِّ؛ لأن عواطفهم هي طَوْق نجاتهم من الغرق في لُجَّة جِدِّهم.

عنوان هذا الحديث الناطق، هو العاطفة الأبوية الآسرة التي كانت تملأ فؤادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكي نقف على بعض نواحي عظمة تلك الرحمة الأبوية في فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، علينا أن نتأمل المعاني الجليلة المتضمَّنة في هذا الحديث. فمن المعلوم أن لحظات الجِدِّ وأوقات الانهماك فيه من أبعد ساعات العمر عن العواطف، وخاصة العواطف المعتادة، كاستشعار الأبوّة دونما سبب قاهر أو حادث غير معتاد.

ويمكن أن نستحضر خطيبًا من الخطباء -في أيامنا هذه- قام في جمْع غفير ملقيًا خطبته، فالأنظار به متعلِّقة والأسماع إليه مصغية، وهو مستغرق في جِدِّ مواعظه البليغة التي تَهمَّمَ لها، يحاول أن يستجمع لها قواه الذهنية، وأن يستصحبها فؤادَه، فتفيض مشاعره بمعانيها لينطلق لسانه في بيانها مترجمًا عما في جَنانه، فتتكلّم بها جميعُ حواسّه: بنبرات الصوت المختلفة، وبإشارات اليد، والتفاتة الوجه، ونظرة العين، وحركة الحاجب.. انهماكًا منه في أداء هذا الواجب الكبير والشغل الجليل. هل سيجد بصره -فضلاً عن قلبه- مكانًا لنظرة أبوية في هذا الخضَمّ الهائل من الشغل؟ هل يمكن أن يتسلل إلى قلبه -حينها- أدنى شعور بدلال الطفولة وهزلها الفطري؟ والحاصل أن الجدَّ قد ملأ أفقه، والمهمات قد ملكت مشاعره.

فإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله في عظَم أعبائه التي لم يقاربها أحد من العالمين؛ لأنها أعباءُ إصلاح البشرية وهدايتها إلى قيام الساعة. فهي أمانة تبليغ الرسالة الكاملة والخالدة، والتي أدّاها صلى الله عليه وسلم على أتم وجه وأحسن طريقة.

وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله في تمحُّض عبوديته لربه  عز وجل، وسموِّ تألُّـهه لإلهه سبحانه، وشديد وَجَله وكبير رجائه وكامل حبه، لخالقه العظيم تعالى وتقدّس سبحانه.

وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله في زهده البالغ في الدنيا، وحقارة زينتها في قلبه أمام الآخرة، وتأخير أجلّ ملاذّها عن أي عمل يقربه من ربه عز وجل، والإعراض عن جميع مفاتنها في سبيل رضوان الله تعالى وجنته.

ما أعظمها من أبوَّة.. ينزل صلى الله عليه وسلم من منبره، ويقطع ما انقطعت القلوب لسماعه من خطبته، وما تفتت الأكبادُ منا حسرةً على عدم حضوره ومشاهدته.. من أجل أن يضم حفيديه إلى جناحه.

وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ رئيس الدولة الإسلامية الناشئة، والتي يؤسسها صلى الله عليه وسلم لتكون الدولة الخالدة إلى قيام الساعة، وهو يؤسسها ويسير بها كسفينة في محيط هادر من الأعداء هم أهل الأرض كلهم حينها. فما أشقّ كل مَهَمَّة من هاتين المَهمَّتين: تأسيس دولة فيها مقومات الخلود، وفي وسط هائج من الأعداء. فهي دولة تُنشأ على غير مثال سابق فيحتذى، وعلى ألاّ يكون بعدها ما يفوق كيانها المرتجى. فهي نمـط فريد لا قبله مثله، ولا يكون بعده مثله.

وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله الذي كان مع قيامه بتلك المَهَمّة الخارقة، وهي تأسيس الدولة الفاضلة الخالدة، فهو المسؤول عن جميع شؤونها من أجلِّها إلى أدقِّها، فمن حروبها ومعاهدات سِلْمها وعلاقاتها الدولية التي تجاوزت حدود جزيرة العرب إلى أعظم إمبراطوريات العالم حينها، إلى شؤونها الداخلية التي تصل إلى آخر التفاصيل وأضعف الدقائق كحمل همِّ الضعفاء، وسُقيا مواشي البدو، وحلِّ نزاعات الخصوم في توافه الدنيا، إلى آخر هذه القائمة التي ليس لها آخر.

وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله في كمال عقله، ورجاحة رأيه، وشَمَمِ جبالِ رزانته، ومضاء عزمه، وشدة حزمه، وقوة بأسه في مواطن البأس، واستقامة جِدِّه، مما جعل ابتسامته السخية لكل أحد حَدَثًا هائلاً يستوجب النقل والتدقيق في وصفه وبيانِ حدود انفراج شفتيه الكريمتين بتلك الابتسامة “حتى بدت أنيابه”، أو “حتى بدت أضراسه”، أو “حتى كادت تبدو نواجذه”، أو “حتى بدت نواجذه”، وأنه صلى الله عليه وسلم “في تبسُّمه ما رُئيت لَهَوَاتُـه”. وما ذاك إلا أنها ابتسامة من بين شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جِدِّه وحزمه وعزمه وعلو شأنه في ذلك كله.

وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله، والمنبرُ هو منبرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والذي هو في درجاته الثلاث أشرفُ منبرٍ عرفه الخطباء في تاريخ البشر، وأعلى منبر صُعّدت إليه الأبصار، وأسمى موضعٍ حفّت به قلوبُ المنصتين ما دام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لا يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ رأى حفيديه يمشيان ويعثران من الصغر، إلا أن يهبط عن منبره، وهو منبره.. فهو هبوط في كل درجة من درجاته الثلاث من السحاب إلى الأرض، والنازل الصاعد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن هذا الهبوط والصعود لهو كلحظة يتوقف فيها الزمن، أو تُحتبَس فيها الشمس عن الغروب، فهي لحظةُ هبوطِ وصعودِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منبر خطبته، ولحظةٌ توقفت فيها خطبته صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله في تمحُّض عبوديته لربه  عز وجل، وسموِّ تألُّـهه لإلهه سبحانه، وشديد وَجَله وكبير رجائه وكامل حبه، لخالقه العظيم تعالى وتقدّس سبحانه.

ما أعظمها من أبوَّة.. ينزل صلى الله عليه وسلم من منبره، ويقطع ما انقطعت القلوب لسماعه من خطبته، وما تفتت الأكبادُ منا حسرةً على عدم حضوره ومشاهدته.. من أجل أن يضم حفيديه إلى جناحه، ويشم عبق طفولتهما، ويطفئ حرارة شوقه إليهما.. وأمام ذلك الجمع الجليل الذي توقف الزمن لديه، وتجمّد الأوانُ عنده، حتى خشعت نبضات قلوبهم لذلك، وتسمَّرت أحداقُهم على هذا المشهد الجليل فلم تَطْرُفْ. إنه موقف لا يمكن أن تصفه العبارات، ولا أن تصوره الخيالات، ولا أن تستجمعه المشاعر.

إنها أبوَّة ورحمةُ مَن وسعت رحمته العالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107)، ثم تتجلى هذه الرحمة في هذا الموقف النبوي الأبوي الكبير، ليكون موقفًا يتعلم منه البشر أن الرحمة والأبوَّة لا يجوز أن تغيب في كل ساعات الحياة، ولا يصح أن تضيع بين زحمة الأعمال، بل لا ينبغي أن تخفُت جذوتها المتقدة في أي لحظة ولو كانت لحظة خُلقت للجِدِّ والحَزْم وخُلق الجدُّ والحزمُ لها.

وإنهما نجلا سيد الأولين والآخرين، وقطعةُ قلبه، وأخْذَةُ بصره، وفَيْضَةُ مشاعره.. كم طار لهما قلبه، وكم تلهَّف لرؤيتهما فؤاده، وكم نَعِمَ بضمِّهما إليه، وكم استنشق من طِيب نَفَسهما وهو يعانقهما، وكم قبَّلهما حتى كان مَبْسَمُهما ما تلألأ إلا ذُكرَ تقبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما. وكم أسعدا رسول الله صلى الله عليه وسلم بابتسامة، وكم أنسياه همًّا كان قد كَرَبَه، وكم تلذَّذ بمشاهدة لَـهْوِهما وتقافُزهما وتصارعهما، وكم رأى فيهما فرحة الطفولة فآنساه بها في رجولته، وكم لاحت له مخايل البطولة في توثُّبهما فاعتز بذريته، وكم خفَّفا عنه بخِفَّة ظِلِّهما ومُزاحهما ثِقَل دعوته. أوَلا يستحقُّ مَن ملأ قلب الحبيب صلى الله عليه وسلم بالسعادة أن يُحَبّ؟ إنهما الحسن والحسين رضي الله عنهما.

فإذا ما تجاوزنا حديث المشاعر إلى حديث الشعائر والأحكام والفقه المستنبط من هذا الخبر، فأقف عند استشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: (فِتْنَةٌ). فهل ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الأبوي من الفتنة التي حذّرت الآيةُ منها؟ لا يمكن أن يكون هذا، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من أن يفتنه عن رضوان ربه عز وجل شيء. ثم ما الفتنة التي وقعت في هذا الموقف الأبوي الرائع؟ هل نقص بلاغه صلى الله عليه وسلم ؟ هل فسد ما أصلحه صلى الله عليه وسلم ؟ هل تعطلت مصالح العباد؟ هل خربت البلاد؟ بل هل قطع صلى الله عليه وسلم خطبته بلا رجعة؟ كل ذلك لم يكن. فأين هي الفتنة؟

إن هذا الموقف الأبوي الرائع، نموذج من نماذج القدوة النبوية، وإنه أحد دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم في خُلُقه العظيم وكمال بشريته التي كان بها أفضلَ الخَلْق وأحبَّهم إلى الله تعالى.

إن هذا الموقف الأبوي الرائع، نموذج من نماذج القدوة النبوية، وإنه أحد دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم في خُلُقه العظيم وكمال بشريته التي كان بها أفضلَ الخَلْق وأحبَّهم إلى الله تعالى. ولذلك فهذا الموقف تشريعٌ وليس فتنةً يُحَذَّر منها؛ تشريعٌ يُذكِّر أصحابَ الجِدّ والمسؤوليات العظام بأنه لا يصحُّ لهم أن يسمحوا لجِدِّهم ولمسؤولياتهم بأن تقتل فيهم عواطفَهم، ولا أن تُغَيِّبها -ولو للحظة- ولو كانوا غارقين في أعماق الجِدِّ؛ لأن عواطفهم هي طَوْق نجاتهم من الغرق في لُجَّة جِدِّهم. تلك اللجة التي لو ابتلعتهم لأفقدتْهم إنسانيتَهم، لتُلقيهم بعد ذلك على ساحل الجفاف العاطفي وفي صحراء نُضوبِ المشاعر آلةً بشرية لا تستطيع الحياة إلا مع الآلات، لأنها لم تَعُدْ تعرف أحاسيس بني البشر، فقرارات جِدِّها أصبحت وبالاً عليها، لأنها قرارات غابت عنها خاصية الإنسان، بسبب جِدٍّ عزَبَتْ عنه المشاعر، وبسبب عقلٍ لم يلتفت إلى قلبه.

إن تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلك الآية، لا يعني أن ما وقع منه هو الفتنة التي حذرت منها، وليس ذلك بلازم من تلاوته صلى الله عليه وسلم لها، ولكنه أراد أن ينبه إلى أن الفرق بين الحُنُو الأبوي الذي ينبغي ألاّ ينضب، والفتنة بالولد إلى حد شلل التفكير وتعطُّلِ عمل العقل -فرق دقيق جدًّا- هو شَعْرةٌ تفصل بينهما.

كما أنه صلى الله عليه وسلم لعظيم إجلاله لربه عز وجل، ولكمال معرفته به سبحانه، كان يُكثر أن يقول في دعائه: “يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك”. فلا نستغرب من هذا القلب العظيم الوجل من تَغَيُّرِ الأحوال ومن هذه النفس التي لم تثق بغير مولاها عز وجل ولم تر لها حولاً ولا قوة إلا به سبحانه، أن تخشى من افتتانها بالولد إن لم يحفظها خالقُها ومولاها.. فتلا صلى الله عليه وسلم تلك الآية مستشعرًا تمام حاجته إلى عناية الباري وحفظه، في أن يقيه من فتنة الولد، وتلا صلى الله عليه وسلم تلك الآية لكي يذكِّر نفسه بضرورة الوقوف بحبه لحفيديه عند أعلى حدود الأبوَّة الحانية، دون أول حد الافتتان الذي يؤدي إلى التقصير في حق أعظم محبوبٍ على الإطلاق، ألا وهو ربنا عز وجل.

(*) كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى / المملكة العربية السعودية.