الرفض والمعارضة عند الطفل بين الصحة والمرض

مما لا شك فيه أن الأطفال ليسوا صورًا كربونية مطبوعة من بعضهم البعض، فكل طفل يحتاج إلى أسلوب معين في التربية حتى ينشأ صحيح البدن صحيح النفس، كما يختلف الأطفال عن بعضهم في طاعة الوالدين؛ فهناك الطفل الذي يطيع وهو في كامل الرضا، وهناك الطفل غير المطيع الذي يتبرم لأتفه الأوامر ويرفض كل ما يقال له.. ما الدافع الحقيقي إذن وراء معارضة الأبناء للآباء؟ ما الأسباب التي تؤدي إلى عصيان الأطفال ومعارضتهم المستمرة لكل المطالب؟

1- تكيف الطفل مع مرحلة جديدة

كل الأطفال يستخدمون المعارضة إما ليتكيفوا مع مرحلة جديدة من حياتهم، أو ليكتسبوا استقلاليتهم. وإظهار الطفل معارضته شيء ضروري، فالمعارضة هي انعكاس لمرحلة جديدة من حياة الطفل، وبالتالي يعاني الأهل بشكل دائم أشكالاً من المعارضة تستمر عمومًا حتى استقلالية الابن وتركه المنزل الأسري.

إذا أردنا أن نربي أبناءنا بالطريقة الصحيحة، علينا أن نبعدهم عن الجبن والخور، ونؤصل فيهم معرفة الخطأ من الصواب، وننمي لديهم حرية التفكير والتوصل إلى أهدى السلوك وأصوبه.. كما أن علينا علاج أسباب الغيرة التي تنشأ لدى الطفل وتدفعه إلى السلوك العدواني أو العصيان والرفض.

وقد تكون هذه المعارضة عبارة عن موقف رفض عام؛ حيث تتواتر الصراعات بشكل يومي، وتتعدد مواضيعها وتتنوع. يمكن التمييز هنا بين شكلين من الرفض؛ الرفض الناشط والرفض السلبي العدائي، وهما غير متماثلين من حيث الدلالة أو من حيث المظاهر أو النتائج، أي ما ينجم عنهما من انعكاسات.

أ- الرفض الناشط: هو الذي يتم التعبير عنه بـ”لا” واضحة؛ ببكاء أو غضب، أو عدوانية لفظية.. ومن مظاهره الأكثر توترًا، نذكر رفض الأوامر والتعليمات، ورفض القيام بالفروض والواجبات، والتعبير عن مظاهر غضب مع حركات عنيفة، والقيام بسلوكيات ظاهرة خارجيًّا.. وتجدر الإشارة هنا إلى أن معظم الرافضين الناشطين لا يذهبون بعيدًا من حيث المشاكسة والصراع، فهم غالبًا أطفال يجادلون، ويجب المجادلة معهم ليقوموا بتنفيذ ما يُطلب منهم، وتعتبر بعض مراحل الطفولة مولدة لهذا النوع من الرفض.

بـ- الرفض السلبي العدائي: هنا يقول الشخص “نعم” بهز الرأس و”لا” بالقلب. فالرافضون السلبيون عدائيون، يتجنبون الوضعيات غير السارة دون الدخول في صراع رسمي، فهم دائمو الموافقة لكنهم يتدبرون أمرهم ليفعلوا ما قرروا فعله في البيت، يقولون بأنهم يملُّون يضجرون ومع ذلك، لا يمكن التحدث معهم إن كانوا يشاهدون التلفاز -مثلاً- مع رفاقهم، يندمجون مع رفاقهم في مرحلة أولى، لأنهم دائمو الموافقة على ما يقال.. وقد يَعِدُون -مثلاً- بقرض أشيائهم لرفقائهم، وإن لم يكونوا يريدون ذلك فإنهم يستنبطون الأكاذيب لتبرير عدم جلبهم لذاك الشيء، وأكاذيبهم هذه سرعان ما تؤدي -في مرحلة ثانية- لرفض الرفاق لهم، حيث تكون ردة فعل هؤلاء قوية بمقدار ما كان تقديرهم الأول قويًّا.. وفي فضاء التعليم يعاني هؤلاء -عمومًا- إخفاقًا مدرسيًّا من تدن في احترام الذات، لكنهم لا يفعلون شيئًا لتغيير موقفهم.

2- السلطة والإسراف في استخدامها

هناك مجموعة من الأسباب الأخرى تؤدي إلى الغضب والرفض عند الأطفال وهي:

  • سوء استعمال السلطة قد يكون السبب الرئيس لبعض مظاهر العصيان الحاد، وقد يحدث هذا إذا كان الوالدان على غير اتفاق بصدد نوع التعليم الذي يجب أن يتعلمه الطفل، أو إذا كان بينهما نوع من الشقاق العاطفي.. وبذلك يضطرب الأطفال وتتبلبل أذهانهم، فيحاولون وسط هذا الخضم أن يحققوا -في أنفسهم- الوسيط العادل بين أفكار الأب والأم المتعارضة، ولكنهم في النهاية لا يفلحون إلا في الميل إلى تنفيذ ما يرغبون ويحبون، وبذلك لا يطيعون أي سلطة تفرض عليهم.

يؤكد التربويون أن الغيرة في الطفولة المبكرة تعتبر شيئًا طبيعيًّا؛ حيث يتصف صغار الأطفال بالأنانية وحب التملك وحب الظهور لرغبتهم في إشباع حاجاتهم، دون مبالاة بغيرهم أو بالظروف الخارجية. 

  • اتصاف بعض الآباء بالضعف وعدم التصميم والحزم على طاعة الأوامر رغم ما يبدو عليهم ظاهريًّا من مظاهر القوة والصرامة، على الرغم من أن الشخص ذو السيطرة والسلطة الحقيقية، ليس بحاجة إلى هذه الحركات الظاهرية ليملي إرادته على الآخرين.
  • تقنين حرية الأطفال وعدم منحهم أوقاتًا ينطلقون فيها على سجيتهم، وينفسون عن طاقاتهم باللعب أو الرياضة أو بالترفيه الحسن.
  • استمرار السلطة المطلقة التي فرضت على الأطفال في سنواتهم الأولى، وعدم تحولها إلى لون من ألوان النصح متى كبروا وبصورة ترشدهم وتساعدهم على المضي في طريق النجاح والنضج والاكتمال.. ولا شك أن الإسراف في استخدام هذه السلطة التعسفية، يعقِّد نفسية الطفل ويعوق نشاطه وحيويته، فيلجأ الطفل إلى معارضة هذه السلطة ويعاندها، ويلبس ثوب التمرد والعصيان من أجل العصيان وليس من أجل شيء آخر ولو كان عصيان تلك الأوامر سيؤثر على مستقبله، بل نراه يفضل الفشل على طاعة الأوامر التي تصدر من قبل الأب والأم.
  • وجود الغيرة، إذ ليس هناك أكثر شقاء وتعاسة من الطفل الغيور؛ فهو يشعر بأنه أخفق في الحصول على الرعاية والحماية من شخص مولع به ولعًا شديدًا، لذا فهو يختزن أحزانه ويبالغ فيها حتى يشعر بأن الدنيا كلها تعمل ضده.

فالغيرة إحدى المشاعر الطبيعية عند الطفل، ويجب أن تتقبلها الأسرة كصفة واقعية، ولا تسمح في الوقت نفسه بنموها. فالقليل من الغيرة يفيد الطفل، والغيرة المفرطة تثير عند الطفل الحقد والحسد. وهي من أهم العوامل التي تؤدي إلى ضعف ثقة الطفل بنفسه، أو إلى نزوعه للعدوان والتخريب. وما السلوك العدواني والأنانية والارتباك والانزواء والتبول اللاإرادي، إلا أثر من آثار الغيرة على سلوك الأطفال. وقد تصل الغيرة إلى حد التحطيم والحزن، وأحيانًا إلى الاكتئاب، بل تؤثر عليه في المستقبل فيكون دائم الخلاف مع محيطه ومجتمعه.

ولا يخلو تصرف أي طفل من إظهار الغيرة بين الحين والآخر، وهذا لا يسبب إشكالاً إذا فهمنا موقف الطفل وعالجناه علاجًا سليمًا. أما إذا أصبحت الغيرة عادة من عادات السلوك تظهر بصورة مستمرة، فإنها تصبح مشكلة ولا سيما حين يكون التعبير عنها بطرق متعددة.

للغيرة أسباب كثيرة أخرى، وعلى رأسها التفاوت الشديد في المعاملة بين الطفل وإخوته، والمقارنة الهدامة بين طفل وآخر سواء كان بالصراحة أو بالسلوك.

ويؤكد التربويون أن الغيرة في الطفولة المبكرة تعتبر شيئًا طبيعيًّا؛ حيث يتصف صغار الأطفال بالأنانية وحب التملك وحب الظهور لرغبتهم في إشباع حاجاتهم، دون مبالاة بغيرهم أو بالظروف الخارجية. وقمة الشعور بالغيرة تحدث فيما بين 3-4 سنوات، وتكثر نسبتها عند البنات عنها عند البنين، وتزداد أيضًا في الأسر الصغيرة التي يكون التركيز فيها على الطفل من ناحية الوالدين، كما تقل الغيرة إذا زاد الفارق الزمني بين الطفل وأخيه أو أخته.

ما هي أهم أسباب الغيرة؟

للغيرة أسباب كثيرة أخرى، وعلى رأسها التفاوت الشديد في المعاملة بين الطفل وإخوته، والمقارنة الهدامة بين طفل وآخر سواء كان بالصراحة أو بالسلوك. فالمقارنة الخاطئة بين قدرات الطفل وقدرات إخوته، تثير فيه الإحساس بالنقص والعجز وعدم الثقة لدرجة قد تصيبه بمشاعر الإحباط والشعور بالنقص، وخصوصًا إذا كانت جوانب النقص هذه ترجع إلى عيوب جسمية أو عقلية، إضافة إلى الحرمان من العطف والحنان من الوالدين إلى الأبناء.

وتزداد غيرة الطفل عادة إذا ولد طفل جديد يستأثر بعناية الوالدين واهتمامهما، كما يشكل موضوع الاستهزاء بالطفل مسألة خطيرة وتؤدي إلى شعوره بالإذلال؛ فالأب الذي يستقبل ابنه عند عودته من المدرسة باستهزاء، لا يدرك الأثر النفسي الذي قد يتركه في نفس الطفل. وبالنسبة لمثل هؤلاء الآباء، دائمًا يجدون المناسبة لممازحة أطفالهم بأساليب غير تربوية، تحدث ردود أفعال غاضبة من قبل أطفالهم، وتجعل أجواء العلاقات الأسرية متوترة ومشحونة.

ويشدد خبراء التربية على جانب مهم، وهو أن الأطفال لا يحبذون الاستهزاء بأفعالهم وممازحتهم بأسلوب منفر حتى لو بعث أسلوب الممازحة هذا على ظهور الابتسامة على شفتي الطفل، وإذا أثارت الممازحة الضحك لدى الطفل، فإن ذلك من باب لفت الاهتمام به وشد أنظار الآخرين نحوه. فعبارات الممازحة المنفرة وعبارات الاستهزاء، لا تسهم في النمو السليم المتوازن للطفل من الناحتين النفسية والاجتماعية، بل تقود إلى تجريد الطفل من الإحساس القوي بثقته بنفسه، ذلك أن الطفل الصغير لا يميز بين المزاح والجدية، كما أن أسلوب الاستهزاء قد يؤدي إلى شعور بالإذلال والإهانة النفسية، ولا سيما إذا تمت ممارسة هذا الأسلوب أمام أقرانه. ويخطئ بعض المدرسين حين يقرؤون بصوت عال في الفصل أخطاء الطفل المنهجية وعيوب إنجاز واجبات المدرسة، مما يثير الضحك لدى أقرانه، فيحدث لديه صدمة نفسية، قد لا يستطيع التخلص منها إذا ما استمر الحال على هذا النحو.

كيف يتخلَّص الطفل من الغيرة؟

دائمًا بيّن للطفل الصغير الذي يفهم الكلام سبب رفضك لفعله؛ فقل مثلاً: لا تلمس الموقد لأنه سيحرقك. لا تفتح النافذة وإلا دخل الذباب.. وهكذا تتكون شخصيته بشكل سوي منطقي يربط السبب بالنتيجة، ويتعود على الطاعة المبصرة وليس على التبعية العمياء، كما أن في بيانك للسبب، إرضاء له بأنك لست متسلطًا. ولا تنس أنْ تقدِّم له البديل عمَّا تمنعه عنه؛ مثلاً، إذا أردتَ أن تعلِّمه احترام الملكية ومن أجل ذلك لم تسمح له بتصفح كتاب هام لك، يجب أن تمنحه قصة وتقول “هذه لك”.. وهكذا تنشأ شخصية مستقلة مدركة لحقوقه وحقوق الآخرين.

على الآباء، معرفة أن لكل طفل شخصية مستقلة لها مزاياها واستعداداتها الخاصة بها، كما يجب المساواة في التعامل بين الابن والابنة، لأن التفرقة تثير الغيرة وتؤدي إلى الشعور بكراهية البنات للجنس الآخر في المستقبل.

يؤكد علماء التربية على أن من الخطأ أن نقول للطفل “لا” عندما تكون رغباته سهلة التحقيق، فإذا أنهى واجباته المدرسية فيجب ألا يُمنع من اللعب، أما إذا لم ينته منها فيمنع مع إيضاح سبب الرفض بأن عليه إنهاء واجباته أولاً، إلا إذا كانت كثيرة فلا مانع من الفواصل المنشّطة بحسب عمر الطفل وحاجاته وقدراته.

التنشئة على الثقة بالنفس

بقي أمر أخير، وهو وجوب تنشئة الأطفال على الثقة بالنفس والجرأة في الحق بأن نعلمهم أن من حقهم قول “لا”، لئلاَّ يتعوَّدوا الطاعة العمياء وطأطأة الرأس وتقبيل الأيدي. ولنذكر مثالاً واحدًا من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم على جرأة أولاد الصحابة في قول “لا”، والاحتفاظ بالحق حتى لو كان مَن يطلب هو الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم: “أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرابٍ فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره أَشياخٌ، فقال للغلام: “أتأذن لي أن أُعطي هؤلاء؟”، فقال الغلام: لا والله لا أُوثر بنصيبي منك أحدًا. (وراه مسلم)

وعامة لكل طفل قدرات عقلية تختلف عن أقرانه، فهذا يستقبل الأوامر فينفذها على الفور حتى ولو كانت خاطئة، وآخر يناقش ويجادل ويمكن أن يتردد في تنفيذ أمر أو يرفضه.. ونحن كأولياء أمور ومربين، ينبغي أن نحاسب الطفل بقدر فلا نعاقبه أو ننهره إذا امتنع عن تنفيذ بعض أوامرنا.. فخيال الطفل يسبح وفكره قد يجره إلى تساؤل ما، أو خوف من طاعة أمر ما، فلا نهمل ذلك أبدًا، بل نقدره ونحسب له حسابه، أما إذا صدرت الأوامر إلى الطفل بفعل شيء ينافي الخلق القويم، فرفض ذلك فإننا نستحسن ذلك ونشجعه، بل ونكافئه على رفضه هذا.

ومن الجدير بالذكر أن الطفل قد يكون محقًّا في اعتراضه ومناقشته لما يصدر من بعض الأوامر، وهذا يؤصل في الطفل المعنى الحقيقي للحرية وينمي ويقوي شخصيته، ويجعله يحسن التفكير في ما يقول ويعمل.. وهذه المناقشة أو هذا الرفض لا ينبغي أن يكون على إطلاقه، بمعنى أننا لا نسكت على رفض الطفل أو عناده في تنفيذ وطاعة الأوامر التي فيها مصلحته الأكيدة، التي يترتب علي رفضها ضرر محقق للطفل، كأمره بعدم العبث في الأجهزة الكهربائية، وكمنعه من الذهاب إلى مكان ما، عندها يلام الطفل ويؤنب ويعاقب إذا رفض طاعة مثل تلك الأوامر.

إذا أردنا أن نربي أبناءنا بالطريقة الصحيحة، علينا أن نبعدهم عن الجبن والخور، ونؤصل فيهم معرفة الخطأ من الصواب، وننمي لديهم حرية التفكير والتوصل إلى أهدى السلوك وأصوبه.. كما أن علينا علاج أسباب الغيرة التي تنشأ لدى الطفل وتدفعه إلى السلوك العدواني أو العصيان والرفض، وهذا يتحقق بممارسة العدالة في الحب والمعاملة، فلا نظهر رعاية لأحد الأبناء على حساب الآخر، وإشعار الطفل بقيمته ومكانته في الأسرة والمدرسة وبين الزملاء، وتعويد الطفل على أن يشارك غيره في حب الآخرين، وبعث الثقة بنفس الطفل وتخفيف حدة شعوره بالنقص أو العجز، وجعل العلاقات القائمة أساس المساواة والعدل بين أفراد الأسرة دون تمييز أو تفضيل على آخر مهما كان جنسه أو سنه أو قدراته، وتعويد الطفل على تقبل التفوق وتقبل الهزيمة، بحيث يعمل على تحقيق النجاح ببذل الجهد المناسب دون غيرة من تفوق الآخرين عليه بالصورة التي تدفعه لفقد الثقة بنفسه.

على الآباء إذن، معرفة أن لكل طفل شخصية مستقلة لها مزاياها واستعداداتها الخاصة بها، كما يجب المساواة في التعامل بين الابن والابنة، لأن التفرقة تثير الغيرة وتؤدي إلى الشعور بكراهية البنات للجنس الآخر في المستقبل.

 

(*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.