عقيدة البعث في الديانات القديمة وكتابات الفلاسفة

إذا ما قرأنا التاريخ من زاوية عقيدة البعث، نجد أن البشرية عامة قد تبنتها -بطريقة أو بأخرى- منذ الإنسان الأول إلى يومنا هذا، بدليل أن الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي “ويليام جيمس ديورانت” (1885-1981م) يذكر في كتابه (تاريخ الحضارة) فهومًا شتى لأقوام عديدة حول البعث بعد الموت، ويسجل ما نحتوه على الجدران من كتابات، وما رسموه في الكهوف من رسومات متنوعة حول طقوس دفن الموتى.

مصر القديمة

زد على ذلك أن الفراعنة -وهم من هم في حب الدنيا والتعلق بالمادة- كانوا يولون البعث بعد الموت أهمية كبرى، فبعد الحفر والتنقيب في قبور الفراعنة تم العثور على عبارات منحوتة على الجدران تقول ما يلي:

“سيموت الناس جميعًا، أما المجرمون فستتحول وجوههم إلى صور مشوهة، ويُقذَفون في أسفل الأرض ليذوقوا مرارة العذاب إلى الأبد، أما الأرواح الصافية الطاهرة فسيلحقون بالملائكة ويعيشون سعداء في علياء السماء”.

إذا قرأنا التاريخ من زاوية عقيدة البعث نجد أن البشرية قد تبنتها -بطريقة أو بأخرى- منذ الإنسان الأول إلى يومنا هذا.

لذلك كان الفراعنة يأمرون بأن توضع معهم في مقابرهم ألوان شتى من الطعام والشراب والملابس الجميلة والحلي الكريمة، صحيح أن الانحراف في العقيدة واضح، بيد أنّ الواضح كذلك أن إيمانًا بحياة أخرى كان الدافع لمثل هذا السلوك، وكانوا يرسمون على جدران مقابرهم وممراتها صور حيتان وثعابين اعتقادًا منهم بأن الآلهة تحب ذلك؛ مما يدل على أنهم كانوا يؤمنون بحياة أخرى تبدأ بعد الموت، وأنهم سينالون بهذه الرسومات مرضاة الآلهة، ومن ثم يضمنون الهناء والسعادة في العالم الآخر.

ثم هناك كتابات ووصايا دفنت مع الموتى تعرف بـ”كتاب الموتى”، وهي نصوص على شكل مناجاة وترانيم تم العثور عليها في المقابر، في هذه الكتابات يقول أحد الأموات في مناجاته:

“السلام عليك أيها الإله العظيم، أتيتُ إليك لأشاهد جمالك الأبدي، تكرّم عليّ برؤية جمالك، فذلك مطلبي ومرادي، لم أظلم أحدًا، ولم أخن أحدًا، ولم أكن سببًا في بكاء أحد، ولم أقتل أحدًا، ولم أكن جبارًا، ها قد جئت إليك ووقفت بين يديك، لا مراد لي سوى رؤية جمالك”.

كان هاجس البعث بعد الموت يقض مضجع فرعون ويحسب له ألف حساب، وكذلك زرادشت وأتباعه في إيران كان يؤرقهم الهاجس نفسه.

أجل، إن هذه الكتابة والكتابات المشابهة لها، تدل على أن عقيدة الآخرة كانت موجودة فيهم أيضًا، فلو ذهبنا إلى مراحل مختلفة ومناطق مختلفة وبيئات ثقافية مختلفة من تاريخ البشرية ونقّبنا في مقابرهم، وبحثنا في مساكنهم، فسوف نسمع منها نداء الماضي الصامت الذي يقول: الخلودَ الخلودَ أريد!

يحكي الشهرستاني نقلًا عن زرادشت أنه قال: “لقد أُرسِل الإنسانُ إلى دار الدنيا بمهمة، فمن أجاد القيام بها فسوف تصفو روحه وينضمّ إلى سكان الملإ الأعلى، أما الفاشلون فسوف يسجنون في أسفل طبقات الأرض إلى الأبد”.

ومن المحتمل أن العبارات قد فقدت كثيرًا من المعاني التي كانت تحملها الألفاظ الأصلية نتيجة الترجمات المتكررة، لكن المعنى العام واحد، وهذا هو المهم؛ مما يعني أن فرعون مصر -رغم أبهته وجبروته- كان يهمّه ويقض مضجعه هاجس البعث بعد الموت ويحسب له ألف حساب، وكذلك زرادشت وأتباعه في إيران كان يؤرقهم الهاجس نفسه.

ديانات آسيا

وإذا ما عرجنا إلى الهند، فسنجد فيها مئات من الأديان، وقد يكون سبب هذا التعدُّدِ سوء فَهْمٍ أصابَ أتباعَ الدين الواحد؛ إذ حسبوا اجتهادات بعض رموزهم الدينية وممارسات رجالاتهم الصالحين ديانات مستقلة، فابتعدوا نتيجة ذلك عن الدين الأصلي وتوزعوا إلى أديان لا تعد ولا تحصى، ولكن الديانات الهندية تلتقي جميعًا في نقطة مشتركة، وهي عقيدة استمرارية الأرواح، إن عقيدة التناسخ التي تتناقض مع روح الدين الإسلامي شائعة في الهند، وهي عقيدة يرفضها الإسلام رفضًا باتًّا، ولكن النقطة التي تهمنا في الموضوع إيمانُهم بخلود الأرواح، وتذهب بعض تلك الديانات التي تختلف عن الأخرى في تفسيرها لعقيدة التناسخ إلى أن عملية التنقل المستمر من جسم إلى جسم آخر، حالة خاصة بالأرواح الشريرة فقط، في حين يذهب البعض الآخر من هذه الديانات إلى أن كافة الأرواح خاضعة لعملية التناسخ والتنقل، ولكن القاسم المشترك بين تلك الديانات، أن الأرواح ستُتِمُّ في نهاية المطاف دورة التنقل من بدن إلى آخر، وتستقر في محطة أخيرة محددة.

لقد خلق الإنسان من أجل الفضيلة، وإن بلوغه قمة الفضيلة لا يتحقق إلا بابتعاده عن النزعات الحيوانية والرغبات الشهوية.

أما “بوذا” فلا يرضى بتلك المكابدة المستمرة للروح في سلسلة التنقلات المتواصلة تلك، فيرى أن الروح لا تتنقل إلى ما لا نهاية، ربما يحدث ذلك في البدايات، لكن الأساس أن تصل الأرواح إلى حالة “نيرفانا”، أي عودتها إلى الحقيقة المطلقة وتلاشيها فيها.

فلو درسنا الأدب الهندي بتأنّ وإمعان، واستخلصنا عصارته، فسنرى أن كل قطرة من قطراته تشير إلى عقيدة البعث بعد الموت، وكما هو معلوم، فإنهم يحرقون جسد الميت بدافع من عقيدة التناسخ التي يتبنونها، والغرض من ذلك ألا تعود الروح مرة أخرى إلى الجسد نفسه، وتتعرض للمحن التي تعرضت لها والويلات التي ذاقتها، وذلك دليل آخر على إيمانهم بحياة أخرى.

فلاسفة اليونان

إن المؤرخ اليوناني “هوميروس” قد تحدث أكثر من مرة عن منازل الأرواح، فهو يرى أن الأرواح التي تلبس لباس الأجسام في هذا العالم لكي تعبر عن ذاتها؛ لها منازل خاصة بها في مكان آخر.

وهناك الفيلسوف اليوناني “فيثاغورس” (570-495ق.م) تحدث أيضًا عن عقيدة البعث، فهو يرى أن الروح إذا كانت صافية زكية، فسوف ترتقي إلى العالم العلوي لتلحق بالكائنات العلوية، وإذا كانت خبيثة فستحيق بها النيران وتبقى حبيسة في سجن الأرض، إن البشر سوف يحشرون بذواتهم وشخوصهم، ولن يبعث أحد في جسم آخر، وإنما يبعث الناس جميعًا بشخصياتهم الذاتية، وسوف يتم البعث جسميًّا، سواء أكان ذلك الجسم لطيفًا أم كثيفًا.

لم يؤلف الفيلسوف اليوناني “سقراط” (469-399ق.م) كتابًا بنفسه، بل جاء “أفلاطون” فنقل كافة أفكاره ودوّنها، وإن أحد الأسباب التي قادت سقراط إلى الإعدام إيمانُه بحياة أخرى وغرسُه لهذه العقيدة في قلوب الشباب، ولقد انبرى أفلاطون مدافعًا عن مواقف سقراط وأفكاره من خلال أدلة كثيرة تؤكد صدق ما قال، وفيما يلي نذكر بعض تلك الأدلة:

دليل الطبيعة الفاضلة: لقد خلق الإنسان من أجل الفضيلة، وإن بلوغه قمة الفضيلة لا يتحقق إلا بابتعاده عن النزعات الحيوانية والرغبات الشهوية.

إذا ما عرجنا إلى الهند فسنجد فيها مئات من الأديان، ولكنها جميعا تلتقي حول نقطة مشتركة، وهي عقيدة استمرارية الأرواح.

دليل توالي الأضداد: إن الأضداد في هذه الحياة تتعاقب فيما بينها، فشتاء يتبع ربيعًا، وربيع يلي شتاء، ونور يعقب ظلمة، وظلمة تعقب نورًا، ونهار بعد ليل، وليل بعد ظلام، وحياة يعقبها زوال، وزوال تتلوه حياة… وكذلك فإن الحياة الدنيوية التي امتدت أمدًا طويلًا سوف تنتهي يومًا ما، ويتمخض عن وفاتها ولادة جديدة، وكما يعقب النورُ الظلامَ، فكذلك سيبزغ فجر الآخرة عقب ظلمة الدنيا.

دليل الذاكرة: يقع للمرء أحيانًا أنه يرى مشهدًا مَا؛ فيخطر في قلبه كأنه رأى ذلك المشهد من قبل، في حين أنه لم يسبق أن التقى بذلك المشهد في هذه الدنيا قطُّ، إن الحياة عبارة عن مقاطع مختلفة يعقب بعضها بعضًا، وذلك يعني أن ما نتذكره هنا هي أحوال سبق أن عشناها في عالم آخر قبل أن نأتي إلى هذا العالم، إذًا هذا العالم ثمرة لعالم سابق، وبداية لعالم لاحق.

قد يشتمُّ المرء من الدليل الأخير شيئًا من رائحة عقيدة التناسخ، وأفلاطون يؤمن بهذه العقيدة، لكن ما يهمنا هنا إيمانه بالآخرة والأدلةُ التي يستخدمها تدعيمًا لعقيدة البعث بعد الموت.

يقول فيلسوف يوناني آخَر “أرسطو” (384-322ق.م): “هناك كائن في جسم الإنسان منفصل عن الجسم، وذلك الكائن لا يموت”، معلوم أن أرسطو قد رَوّج له الماديون حتى أصبح أحد رموز الفكر المادي، مع ذلك فهو يتحدث عن كائن لا تقيده قيود ولا يؤثر عليه الموت، فالإنسان قد يموت جسده ويبلى، لكن القبر لن يستطيع أن يضم جميع كيان الإنسان ويسجنه بين طياته، فهناك جوهر لطيف في داخل الإنسان يتجاوز القبر والمادة والجسد والدنيا ويرفرف في سماء العالم الآخر، يقول “زينون” (335-263ق.م) إمام الفلسفة الرواقية: “يوجد في الكائن الإنساني نفس إلى جانب الجسد، وهذه النفس ستواصل حياتها بعد موت بدن الإنسان”.

إن درسنا الأدب الهندي بتأنّ وإمعان، واستخلصنا عصارته، فسنرى أن كل قطرة من قطراته تشير إلى عقيدة البعث بعد الموت.

والفلسفة الرواقية تلتزم ببعض المبادئ الأخلاقية الخاصة بها، وعندما نقرأ هذه المبادئ نجد فيها ما يلي: إن الذات العلية التي خلقت هذا الكون في حلَّتِهِ الجميلة تلك، وبثَّتْ في جوانبه نظامًا بديعًا إكرامًا للإنسان ومحبّةً فيه، يستحيل عليها أن تميت الإنسان ولا تبعثه مرة أخرى.

ويقول “هرقليط” (535-475ق.م) في الموضوع ذاته: “في النشأة الثانية سوف يبعث الناس على هيئة حلقات نارية منثورة حول الكواكب، وإن الأرواح المُنْتِنَة التي يتعذر عليها النجاة، سوف تقيم في عذاب تلك النار إلى الأبد، أما الأرواح الصافية فسوف تخرج من بين الأرواح المظلمة وترفرف نحو الملإ الأعلى، إن سماء العالم الآخر ستكون خالية من النجوم، لأن النجوم سوف تتساقط جميعًا وتحيط بهذا العالم وتشكل نار جهنم”.

إن الفلسفة الإشراقية لقيت قبولًا لدى فلاسفة الإسلام في الأندلس، ومن ثم انتشرت الأفلاطونية الحديثة في كافة العالم الإسلامي، وهناك شخصيات سامقة نشأت في رحاب المدرسة الإشراقية، مثل السهروردي، والحلاج، والإمام محيي الدين بن عربي، لقد أكدت هذه المدرسة -من خلال جميع تياراتها- أن البعث بعد الموت استمرار ضروري لهذه الحياة، ودعت إلى تبني هذه العقيدة.

إن المؤرخ اليوناني “هوميروس” يرى أن الأرواح التي تلبس لباس الأجسام في هذا العالم لكي تعبر عن ذاتها، لها منازل خاصة بها في مكان آخر.

ويتضح من هذا السرد التاريخي، أننا إذا استثنينا حفنةً من الفلاسفة ضيّقي النظر المتعصبين من أمثال “أبيقورس” (341-270ق.م) و”ديمقريطس” (460-370ق.م)، فإن تاريخ الفلسفة حافل بآلاف الفلاسفة الذين يؤمنون ببقاء الروح وعقيدة البعث بعد الموت، مؤكدين ذلك بمئات من الأفكار والرؤى والأدلة والتصورات.

فلاسفة التنوير

هناك كتاب لـ”ديكارت” الفيلسوف العقلاني والرياضي الفرنسي (1596-1650م) يتحدث فيه عن وجود الله وأبدية الروح اسمه “سانحة”، في هذا الكتاب -الذي سجل فيه بعض السوانح والإلهامات الواردة على قلبه- تطرق لأول مرة في مسيرته الفلسفية إلى مفهوم الروح، وأنها جوهر لطيف منفصل عن الجسد؛ كما حلل أبدية ذلك الجوهر تحليلًا عميقًا ودقيقًا، وقد وعد ديكارت قرّاءه بأن يخصص كتابًا آخر يتحدث فيه عن كيفية بقاء الروح، لكننا لم نجده قد عالج ذلك الموضوع بصورة مفصلة في كتبه الأخرى المنسوبة إليه، غير أن التحليلات التي قام بها في كتابه ذاك حول مباحث الآخرة، بلغت من الجودة مستوى يغني عن تأليف كتاب آخر في الموضوع نفسه.

وقد أعقب ديكارت فلاسفةٌ عقلانيون آخرون في مجال اللاهوت مثل الفيلسوف وعالم الطبيعة الألماني “لايبنتز” (1646-1716م) والفيلسوف البرتغالي “سبينوتزا” (1632-1677م)، حيث طرح لايبنتز “نظرية المونادات”[1] فقال: “إن من طبيعة المونادات أن تنمو وتمتد وتتفتح إلى ما لا نهاية، غير أن الزمان في هذا العالم محدود، لذلك يتعذر الامتداد والتفتح اللامتناهي، ينبغي أن يكون الزمان لا متناهيًا لكي يتم الامتداد اللامتناهي، وهذا يقتضي وجود عالم آخر لا متناهي الزمان، إذن فكل فرد مرشح للبقاء والخلود من أجل أن ينمي موناداته الخاصة به”.

أما “سبينوتزا” فيذهب في اتجاه التعميم حيث يقول: “إن الحياة الأبدية لن تقتصر على الشخوص، وإنما ستمتد الحياة بصورة متوحدة متكاملة، وذلك يعني وحدة الوجود”.

وإذا واصلنا تتبعنا لتاريخ الفلسفة، فسنجد أن “باسكال” (1623-1662م) و”برجسون” (1859-1941م)-وهما من الفلاسفة الفرنسيين المتأخرين- كذلك ممن آمنوا بعقيدة البعث بعد الموت.

أبو العلاء المعرّي من الشعراء الذين اختلطت عليهم بعض الأمور في العقيدة، ومن ثم تجده في بعض الأحيان يسخر من بعض القضايا الدينية، لكننا وبمجرد إطلالة سريعة إلى رائعته “رسالة الغفران”، نجد براعته في رسم مشاهد يوم الحشر بصورة دقيقة مؤثرة استلهامًا من مشاهد القيامة في القرآن الكريم.

إذا استثنينا حفنة من الفلاسفة المتعصبين فإن تاريخ الفلسفة حافل بآلاف الفلاسفة الذين يؤمنون ببقاء الروح وعقيدة البعث بعد الموت.

وكأنّي بـ”دانتي” (1265-1321م) ذلك الشاعر الإيطالي قد قرأ مشاهد المعرّي تلك، ثم نقلها في أعمالهِ الأدبيّة التي صور فيها مقاطع عجيبة من الجنة والنار ومواقف الأعراف.

أضف إلى هؤلاء أدباءَ وشعراء آخرين يحملون عداء شديدًا للدين، لكنهم لم يجدوا بدًّا في أعمالهم من الحديث عن البعث ومشاهد الحشر والحساب ومواقف الآخرة.

أجل، إن عقيدة البعث حقيقة لا شك فيها، وهي من الصدق بحيث أجبرت أعداء الدين على تصديقها والحديث عنها.

المصدر: نفخة البعث، شواهد الحياة بعد الموت، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠١٥، ص:٩١-٩٩

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

[1]  “المونادات” جمع “موناد” كلمة يونانية تعني الوحدة، استخدمها لايبنتز بمعنى الجواهر أو الخلايا المكوِّنة للكون.