تولستوي والمعرفة المُنصفة

يعتبر “نيقولا يفينتشي تولستوي” (1828-1910) الروائي والكاتب والأديب الروسي من عمالقة الروائيين الروس ومن أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، ويُعد من أعظم الروائيين على الإطلاق. ولد تولستوي في عائلة كبيرة تنتمي إلى النبلاء الروس وكانت لهم أراضي واسعة ككل الإقطاعيين في هذا الزمان وكان أبوه يحمل لقب “كونت” أما أمه فكانت من طبقة الأمراء وهذا يعني أنه كان من أصل عالي المستوى في روسيا بل يجيء في المرتبة التالية للعائلة المالكة، ويعد تولستوي من أكبر المصلحين الاجتماعيين في التاريخ وداعية سلام ومفكر وفيلسوف، ومن أشهر أعماله روايتي “الحرب والسلام” و”أنا كارنينا” وهما يتربعان على قمة الأدب الواقعي، فهما يعطيان صورة واقعية للحياة الروسية في تلك الحقبة الزمنية.

حِكم النبي محمد

كتب “تولستوي” تعريفاً بالنبي “محمد” صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة ثم انتشار الإسلام في كل بقاع الأرض، وقال:”قد امتاز المؤمنون كثيرًا بتواضعهم وزهدهم في الدنيا وحب العمل والقناعة وبذلوا جهدهم لمساعدة إخوانهم في الإيمان لدى حلول المصائب بهم ولم يمض على جماعة المؤمنين زمن طويل حتى أصبح المحيطون بهم يحترمونهم احترامًا عظيمًا ويعظمون قدره وغدا عدد المؤمنين يتزايد يومًا فيوم” واستطرد قائلاً:”ومن فضائل الدين الإسلامي أنه أوصى خيراً بالمسيحيين واليهود، فقد أمر بحسن معاملتهم ومؤازرتهم حتى أباح هذا الدين لأتباعه الزواج من المسيحيات واليهوديات مع الترخيص لهن بالبقاء على دينهن. ولا يخفى على أصحاب البصائر النيرة ما في هذا من التسامح العظيم”.
ما دفع “تولستوي” إلى تأليف كتابه باللغة الروسية “حِكَم النبي محمد” الصادر عام 1909م، ما رأه من تحامل البعض على الدين الإسلامي ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونسبتهم إلى صاحب الشريعة الإسلامية أموراً تتنافى مع الحقيقة، وتصور للروس تلك الديانة الإسلامية وأعمال معتنقيها تصويرًا يغاير حقيقتهم وواقعهم، فهزت “تولستوي” الغيرة على الحق الذي يعرفه، وشعر في أعماقه بأن السكوت عن البيان ليس من سمات الكاتب الحر، والمفكر الأصيل، فوضع رسالة صغيرة تخير فيها من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقال هذه تعاليم صاحب الشريعة الإسلامية الواضحة وهي عبارة عن حكم عالية ومواعظ سامية تقود الإنسان إلى سواء السبيل،كما أنها تتسق مع تعاليم الديانات الأخرى التي ترشد إلى الحق وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر..
والجدير بالذكر أن “تولستوي” نظر إلى شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة كلها احترام وتقدير، فنراه يقول: “ومما لا ريب فيه أن النبي محمدًا من عظام المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة ويكفيه فخرًا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق وجعلها تجنح للسكينة والسلام وتفضل عيشة الزهد ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية وفتح لها طريق الرقي والمدنية وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أوتي قوة، ورجل مثل هذا جدير بالإحترام والإكرام”. و وأطلع تولستوي على كتاب أعده  العالم الهندي “عبد الله السهروردي” وفيه ترجم بعض الأحاديث النبوية إلى اللغة الإنجليزية، فقام تولستوي بترجمتها إلى اللغة الروسية، وقدم لها مقدمة تتسم بالإنصاف التام، والإعجاب الكامل برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. وقد قام “سليم قبعين” بترجمة كتاب “تولستوي”، وأضاف إليه مقدمة عن أوضاع المسلمين في روسيا في أوائل القرن التاسع عشر، وذكر بعض آراء المنصفين للإسلام، والمتعصبين ضده.

لقد آمن “تولستوي” بأهمية العلم لإصلاح الأمم فأقدم في التاسعة عشرة من عمره على تنظيم مدرسة في قريته “ياسنايا بوليانا” و قد استفاد من سفره الطويل إلى ألمانيا و فرنسا و سويسرا و إيطاليا في دراسة المؤسسات التربوية فيها إلى جانب دراسة أدبها و فنونها و قد ألف كتابًا سماه “الأبجدية” صدر عام 1872 الذي صار حدثاً عظيم الأثر في التعليم الروسي، طور تولستوي “أبجديته” حتى أقرت الدولة “أبجديته” في جميع مدارس الدولة. ودرس “تولستوي” الأدب العربي في كلية اللغات الشرقية (قسم اللغتين التركية والعربية) بجامعة قازان وقد اهتم الأدباء العرب بتولستوي وإبداعاته حتى نعاه كثير من الشعراء والأدباء العرب حين وافته المنية ومنهم أمير الشعراء أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومصطفى لطفي المنفلوطي.