كانت ثقافة المدينة في الدولة العثمانية تولي اهتمامًا كبيرًا لكل جزء من الطبيعة؛ شجرةً كانت أم ووردةً أم نبتةً أم خَضارًا… ويظهر بجلاء هذا الاهتمامُ في “الجامع الأخضر” الذي أمر ببنائه السلطان العثماني محمد شَلَبي عام 1420 بمدينة بورصة الخضراء، ثم أمر بنقش زخارفه بعده السلطان مراد الثاني عام 1424.. فليس ثمة مكان أنسب للسكينة والراحة من هذا الجامع الفريد ببنائه وطبيعته؛ فمن زقزقة العصافير إلى خرير المياه الهادئ إلى حفيف أوراق الأشجار التي تنساب نغماتٍ على نافورة الميضأة الرخامية، ينشأ جو تبتهج به الروح وتنجذب إليه العقول والألباب.
إنه الجامع الأخضر الذي يلامس المشاعر والأحاسيس في كل موسم جديد. تنساب من بين الأوراق الكثيفة وقتَ الأصيل حزمُ أشعة الشمس الدافئة، لتحوّل الباحة والجناح الغربي من الجامع إلى خيمة تبعث الراحة والطمأنينة في قلوب ضيوفها الزائرين… يلعب الأطفال ويمرحون على عشبها، ويرتاح الشيوخ تحت أشجارها الوارفة… وإذا ما حلّ موسم الخريف، تتوشّح هذه الباحة اللون الأصفر، لتعرض لضيوفها محاسن الطبيعة بأبهى صورها.
يقول الأديب التركي “أحمد حمدي طان بينار”: “الجامع الأخضر بفنه المعماري البديع، هو دمجٌ بين خضرة الوديان الخلابة وزرقة السماء الأخّاذة”، أما الشاعر الفرنسي “بِيار لوتي” فيفصح عن أحاسيسه فيقول: “أثناء دخولي الجامع أجد نسمات الدفء تلامس وجهي، ثم أشعر وكأن الضوء الخافت اللطيف في الممر يفسح لي الطريق ويبيّنه، وفي حال دخولي العالم الداخلي تتحول هذه المشاعر إلى سكينة تسكن شغاف قلبي”.
تصاميم الواجهة الشمالية البديعة للجامع، تستقبل زوارها بحفاوة كبيرة ولا تدعهم يلِجون الجامع إلا بعد أن تقدّم لهم باقة أزهار مزخرفة تفوح منها رائحة تاريخ مجيد. لقد اعتنى المعماري “الحاج عيواض باشا” بتصاميم هذه الواجهة وزخرفها عناية خاصة، وكأنه أراد بذلك إدخال الزائر إلى الجامع بعد سياحة وجيزة في عالم التجريد والمعنى.
يتكون الجامع من طابقين.. عندما ندخل إلى الرواق نرى أربع نوافذ تحتية؛ اثنتان منها على اليمين والأخرى على اليسار، ويتوسط كل نافذتين من هذه النوافذ محراب خارجي أي صيفي. كما يوجد في القسم العلوي من الجامع، أربع شرفات اثنتان منها صناعية دون منْفَذ هوائي. إن هذه الواجهة بهندستها البديعة وخطوطها الكوفية المتشابكة المنحوتة، توحي بقصر متميز لا مثيل له. ومن الأمور التي تجلب الأنظار أيضًا التجاويف القريبة من السطح، والتي ربما تؤدي إلى اعتقادها خطأ معماريًّا، لا، بل إنها حُفرتْ بقصدٍ لإيواء الحَمام والطيور. ولعل هذا دليل على الشفقة الإلهية التي وُضعت في قلوب أجدادنا الأمجاد.
يتنقّل المرء بين جماليات هذه الواجهة ليستقر بصره في نهاية الأمر على الباب المتوَّج المنتصب أمامه بمهابة؛ يرى زخارف أركانه المنحوتة بسعف النخل والزخارف البيزنطية المُحَلْزَنة المتشابكة، ويرى كذلك زخارف حافّتَيه المنقوشة على الرخام والحجر الأخضر. إن هذا الجامع فعلاً، من أروع التصاميم التي شهدتها العمارة الإسلامية في العالم الإسلامي.
إن كتابات الجامع مع اسمه منقوشة على الباب المتوَّج بطريقة رائعة، يقول الرحالة التركي “أَوْلِيا شَلَبي” عن هذه النقوش: “إن الباب القِبلي مزخرف يمنةً ويسرةً بنقوش بديعة تمتد حتى الطابق العلوي، وبكتابات جذابة لا يستطيع أمهر الخطاطين خطّها حتى على الورق ولو بأحسن ريشة، ولكن الفنان الذي أتقن النقش على الرخام بالإزميل، استطاع خلال ثلاث سنوات أن يقدم فنه بأرقى الصور”. وإن الكتابات التي تحيط بالباب، هي آية قرآنية نُقشتْ في الأعلى، وأحاديث نبوية نُقشتْ على جانبي الباب.
مآذن الجامع الأسطوانية الجذوع، لا تعود إلى عهد بناء الجامع؛ فمآذنه الأولى -كما أخربنا الرحالة أوليا شلبي- التي كانت مزينة بخزف صيني أخضر، انهارت إثر زلزال وقع عام 1855م، إلا أن مآذنه الحالية تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر.
الماضي والحلم والحقيقة
بعد اجتياز الباب الخشبي الذي يبدو عليه فن نحت الخشب بأروع صوره ندخل الجامع… فأول ما نراه في المدخل، هما الإيوانان على اليمين وعلى اليسار، والتي نصعد عبر كلٍّ منهما إلى الطابق العلوي. إن النور الخافت فيهما يساعد الزائر على تبيّن طريقه، وبالتالي على إحساسه بالأبعاد الثلاثة للمكان. وما إن نجتز الإيوان ونصل إلى المركز، حتى نجد أنفسنا فجأة وسط فسحة واسعة مستنيرة، وهنا يعلق نظرنا بالميضأة الرخامية تلقائيًّا… يقال إن صوت الماء الذي يصدر من هذه الميضأة، يمنع وصول أصوات المتكلِّمين في المحفل العلوي إلى الطابق الأرضي.
تم وضْع مخطط الجامع الأخضر على شكل “T” المعكوس، وهذا الشكل كان منتشرًا ومزدهرًا في مدينة بورصة في تلك الآونة، حيث سماه أهل المدينة بـ”الشكل المجنح”، علمًا بأنه مستَلْهَم من الفن المعماري السلجوقي. إن معظم الجوامع في بورصة، مسقوفة بقبتين رئيسيتين متعاقبتين باتجاه المحراب، وتتصل هاتان القُبتان بقنطرة مقوّسة جميلة. أما حجر الزاوية المذهّبة الموجودة في وسط القنطرة الكبيرة، فتعدّ أهم عنصر في ربط القبة بالقنطرة. إن النافذة الثمانية الأضلاع أعلى القبة الأولى، تعكس أشعة الشمس على الجدران الداخلية بشكل نقاط متلونة. أما الإيوانات الجانبية التي يُصعد إليها عبر درجة واحدة والتي تشرح صدر الزائر بجوها الهادئ اللطيف، تزيد على المساحة الداخلية فسحة وَسَعَة روحية، تم زخرفة هذه الإيوانات بشكل مسدّس بالخزف الأخضر الصيني المذهّب، ثم ملئت الفراغت بين الخزف بمثلثات فيروزية لكي تبدو وكأنها “ختم سلمان”. وكما هو الحال في الجوامع الأخرى لمدينة بورصة، فإن هذه الإيوانات خُصّصت لمجالس الدروس أو مجالس الاستشارة أكثر من تخصيصها للصلاة.
ونحن غارقون في التأملات في عالم الزخارف والتصاميم داخل الجامع، يشد نظرنا فجأة محافل المؤذنين والمحفل السلطاني الذي يعلوها. زُينتْ جدران محافل المؤذنين بالخزف الأخضر الداكن السداسي الشكل، أما سقفها فزُين بالخزف الأخضر، والداكن الأزرق، والأصفر، وفي بعض الأماكن بالخزف الأحمر.
ولرؤية المحفل السلطاني ينبغي الصعود إلى الطابق العلوي، لذا نعود إلى المدخل، فنرى في هذا الممر الأعمدةَ البيزنطية ورؤوسَها، ثم يظهر أمامنا باب صغير فيه سلّم حلزوني عمودي ضيق، فلا يمكننا إلا أن نتسلّق عليه لنصل إلى المحفل السلطاني. وخلال السير نحو المحفل، نرى على اليمين واليسار غرفَ الديوان الأربع المنفتحة على الداخل والخارج، تبدو وكأن هذه الغرَف المربوطة بالممرات الضيقة، ترخي على هذا القسم من الجامع شيئًا من الغموض. ومما يشدّ أنظارنا هنا، هي الخزفُ والتنانير والجدران والمحراب والأبواب الخشبية المزخرفة. وأما المحفل السلطاني الذي يصلي فيه السلطان، فنرى أشكال نجوم منحوتة على جدرانه وسقفه لمحاكاة السماء الصافية في الليل. هذا وقد صُممتْ واجهة المحفل بطريقة تتيح للسلطان رؤية قسم كبير من أرض الجامع.
النور المتدفق من السماء
إن القسم الذي أقيم عليه المنبر والمحراب -وهو القسم لأداء الصلاة- يرتفع عن أرضية الجامع بثمانية وتسعين (98) سنتمترًا، كما يبلغ علوّ الجدران هنا ثلاثة أمتار ونصف (3.5)، وهي مزخرفة بالخزف الأزرق الداكن ذي الخطوط البيضاء. وقد نُقش على جهة اليسار من المحراب بيت شعر فارسي يلخّص فكرة إنشاء الجامع، مشيرًا إلى انقضاء أيام المحن والمصائب فيقول: “يظن الظالم أنْ بوضْع أغلال الظلم في أعناقنا قد ظلَمنا، ليته يعلم أن هذه الأغلال قد رُفعتْ عنّا منذ زمن بعيد ووُضعتْ في عنقه هو”. وقد نُقشت لوحتان دائريّتان على النافذة اليمنى واليسرى كُتبتْ فيهما سورة النبأ: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ). ولا شك أن نقش هذه السورة مع البيت الشعري، هو تذكرة للإنسان بحقيقة البعث بعد الموت، وإرشاده إلى الخير والصلاح.
يظل الإنسان مشدوهًا أمام تصاميم هذا الصرح وتزييناته البديعة… فأشعة الشمس المتسللة على الخزف، تضفي على عالم الزخارف المذهّبة ألقًا ولمَعانًا فريدًا، تشعر وكأن كل قطعة من الجامع تُنشد قصيدتها، أو تسبّح ربها وتدعوه بلسان حالها، لكن بصوت جماعي موحّد، يقول الأديب التركي “أحمد حمدي طان بينار”: “الجدار والقبة والمحراب والخزف… كلها تدعو وتسبح بحلّتها الخضراء”.
ولا يفوتنا في هذا المقام، أن نذكر محراب الجامع الذي يعدّ آية في الجمال؛ حيث نرى على جزء كبير منه أجمل فنون الخط الكوفي والثلث، ثم نرى إطارًا داخليًّا منقوشًا بالأزهار، وتاجًا مزخرفًا بأزهار الزنبق، وأنماطًا هندسية بديعة بأبهى صورها وأشكالها. ثم لفظَ الجلالة “الله” المنحوت داخل المحراب بمهارة… وكأن ذلك كله هو تذكرة للإنسان بعلاقته الوثيقة بربه، وأنّ فلاحه لا يتأتى إلا بالتوجه إليه والتمسك بحبله. والحق يقال إن لهذا المحراب صورة ساحرة خاصة به، فكأن أَمْهر الأيادي قامت بنقشه خطًّا خطًّا ونسجته خيطًا خيطًا، في مكان سريٍّ في الكون، ثم نُفخت فيه الحياة ووُضِع على الحائط القِبلي ليزيد على جمال الجامع جمالاً.
يبلغ ارتفاع هذا المحراب الجميل عشرة أمتار وسبعة وستين سنتمترًا (10,67)، وعرضه ستة (6) أمتار، ليرتفع بشكل منتظم حتى حافة القبة. وكأنه ارتفع ليجمع النور المتدفق على القبة، ثم يرسله بطريقة معيّنة إلى الأسفل لينتشر هذا النور كخط كهربائي إلى الأطراف… يمرّ على الخطوط المنقوشة فوق النوافذ ثم يواصل طريقه على زخارف خزف جدران الإيوان، ثم يعمّ كل جنبات الجامع، ومن هنا يُطلق فيوضاته إلى الحديقة الغناء ثم إلى أرجاء المدينة كلها.
ومع أن الجامع يبدو من الخارج بسيطًا متواضعًا، إلا أن شهرته اكتسبها من زخارفه ونقوشه الداخلية البديعة. ولقد عمِل أكبر وأشهر فناني ذلك العصر لكي يقدّموا الذوق الفني الرفيع في العمارة الإسلامية. فهنا نجد بجلاء امتزاج قدرة الفنان المعماري مع رقة الفنان التشكيلي، بل حتى مع العالـِم والشاعر في تشييد هذا الصرح الأخضر السامق بأسمى صوره.
يقول الرحالة “أوليا شلبي”: “أهل المدينة يقولون أنْ لا مثيل لهذا الجامع في بورصة، والسياح الأجانب يقولون أنْ لا مثيل لهذا الجامع في العالم”.