نفخ الروح.. متى تبدأ حياة الإنسان؟

تعد محاولة تحديد النقطة التي تبدأ عندها حياة الإنسان واحدة من أكثر الموضوعات التي احتدم الجدل حولها في الأخلاقيات والعلم والفلسفة الحديثة. والحقيقة أن نتائج هذه المناقشة من الأهمية والحيوية بمكان، لأنها تمكننا من صياغة الأسباب الحقيقية حول بعض المسائل الخاصة بالأخلاقيات العلمية مثل الرؤية الأخلاقية بل والقانونية تجاه الإجهاض وبحوث الأجنة.
ولقد أطال علماء وفلاسفة كثيرون وأطنبوا في الحديث حول تعريف الشخصية ومتى تبتدئ حياة الشخص الحقيقية، وبالرغم من هذا فلم يخرج لنا أحد بتعريف مقبول حتى الآن.
والحقيقة أن هناك دافعا ما في هذا المجال يدفعنا أن نلتمس من العلم اختيار تفسير من بين التفاسير المستقاة من الآراء المختلفة، وبين تلك التي تقوم على أساس المعتقدات. بيد أن كلا من الاثنين لا يعارض أحدهما الآخر؛ أما نحن فقد قادنا التفكير إلى الاعتقاد بأن الإجابة على السؤال عن بداية الحياة يتطلب تعاونا بين شتى مناحي المعرفة. وهذا الاعتقاد -بطبيعة الحال- قادنا إلى نقطة وجدنا أنفسنا فيها بين الدين والعلم وهو ما يحتاج إلى استكشاف واعٍ؛ لذا كان المقصد من هذه المقالة استكشاف الأمر من وجوهه المتعددة.
ويوضح ماسون وماكال سميث أن ما يعد بداية التحول إلى كائن حي هو قرار أخلاقي بالدرجة الأولى. فمعظم النصوص الدينية تذهب إلى أن ما يجعل الجنين إنسانا حيا هو نفخ الروح فيه، وحين تلتقي الروح بالجسد يتخلق منهما الكائن الحي الذي تجب له كل الحقوق وأبسطها حق الحياة.
في ضوء هذه الاعتبارات كان علينا أن نبحث عن الوقت الفعلي لنفخ الروح حتى يتسنى لنا منع أنفسنا من قتل “أشخاص أحياء” سواء بالإجهاض أوبالبحث في مجال استنساخ الأجنّة؛ فالغرض من الدراسة الحالية هذه إذن تحديد موعد بدء سريان الحياة في جسد الإنسان في أثناء مراحل تطوره.
إن توفر الخلايا الجذعية(1) الجنينية والتي تؤخذ من الكائنات الثديية ربما يفتح آفاقا جديدة لعلاج الأمراض المستعصية. فهذه الخلايا لها قدرة التأثير على أعضاء مختلفة، وباستطاعتها توليد أي خلية -باستثناء خلايا المشيمة- كما أنها باقية (أي لا تهلك)؛ غير أن توليد هذا النوع من الخلايا يتطلب التدمير المبكر للأجنة البشرية، وهنا تبرز لنا الأسئلة الأخلاقية نفسها، وتصعد على السطح الصراعات التي تسمع غالبا حين توضع أخلاقيات الإجهاض على طاولة المناقشة. فأغلب الناس المنخرطين في حركة “مع الحياة” يعتبرون الجنين إنسانا كاملا له روح وله حقوق كتلك التي تجب لأي مواطن ومنها حق الحياة. لذلك كان أي عمل يجرح أويقتل الجنين بمثابة جريمة قتل. وعلى الرغم من هذا يرى الكثيرون من أعضاء حركة “مساندة الاختيار” أن بداية الحياة تتم في مراحل متأخرة من الحمل. وعليه فإن قتل جنين تم تخصيبه حديثا لا يعد في عرفهم قتلا لإنسان.
لكن ما حال الجنين الذي عمره أيام معدودة إذن؟ هل هذا الجنين حي؟

الجنين متى يكون حيًّا؟

نعم، فمنذ بدايته يعتبر الجنين حيا وليس لأحد أن يعترض على هذا؛ لكن هل يعد الجنين حينئذ كائنا حيا كاملا؟ إذا استطعنا أن نمسك بالجنين في مراحله الأولى قبل أن يصبح كائنا، سيكون بمقدورنا أخذ الخلايا الجذعية دون أي قلق. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن سريان الحياة يبدأ في الجنين حين تبدأ أنظمة هذا الجسد في العمل كوحدة متكاملة، قرب انتهاء المرحلة الجنينية. وباعتبار أن عملية الانقسام (التوأمة) تحدث بعد حوالي 14 يوما بعد الإخصاب، وأن هذه العملية تنتج لنا شخصين وليس مجرد شخص واحد، فيمكن أن يسمي هذا بمرحلة ما قبل الجنينية، أي المرحلة التي لم يتحدد فيها الجنين الواحد بعد؛ وفي هذا الإطار تعرّف لجنة الأخلاقيات التابعة للجمعية الأمريكية للخصوبة “الجنين” على أنه ما يتميز عن “ما قبل الجنين” تأسيسا على العلوم الطبية والسوابق القانونية.
وطبقا لهذا التقرير إضافة لتقرير “وارنوك” الذي كان خلف تشريع التخصيب البشري وعلم الأجنة في عام 1990م، تستمر مرحلة ما قبل الجنين لمدة 14 يومًا بعد التخصيب، ويجب احترام هذا الكيان دون إعطائه الحماية المطلقة.
والآن وتأسيسا على هذه التقارير والتشريعات التابعة لها يسمح بإجراء البحوث على الأجنة حتى اليوم الرابع عشر فقط وحتى تتكون ما يسمى بالخط البدائي أو بداية الجهاز العصبي والذي يستحيل بعده حدوث التوأمة أو عملية الانقسام.

النظرة المسيحية

والحقيقة أن المراجع النصرانية في هذا المضمار غنية وشيقة، غير أنها يمكن قراءتها بطريقتين؛ فيعد الإجهاض في أي مرحلة من مراحله كبيرة من الكبائر؛ غير أنه وعلى مدى قرون عديدة اعتبر إنهاء الحمل في مرحلة مبكرة أخف جريرة منه في مراحل تالية. وتم عزو هذا إلى الرؤية القائلة بأن الروح لا تدخل الجسد إلا بعد أربعين يوما من الإخصاب وهو المفهوم المستقى من أرسطو.
لذلك يمايز العديد من النصارى بين الموقف الأخلاقي من الجنين المخلق وغير المخلق، ويعتقدون أن الكائن الحي لا يكتمل إلا بعد نفخ الروح والتي تتم في مرحلة تالية؛ أما بالنسبة لبعض النصارى الآخرين، فالتخصيب هو النقطة التي تبدأ عندها الحياة أصلا.

النظرة القرآنية

وبينما كنا نبحث وننقب عن الوقت الذي تبتدئ فيه الحياة حقيقة وجدنا قول الله تعالى يخبرنا بوقت نفخ الروح في الجسد حيث يقول سبحانه: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾(المؤمنون:14) وتبين هذه الآية أن مرحلة الجنين تتكون فيها العظام أولا، ثم تتشكل العضلات ويتم هذا طبقا لتطور علم الأجنة حيث تبدأ العظام في التكون كبنيان قوي في الأسبوع السابع، ثم تتشكل العظام وتغطيها في الأسبوع الثامن من مراحل تطور العضلات التي تخرج من الخلايا البدنية الوسطى. يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾.
ويبين هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة أن تكوين العظام والعضلات ينشأ عنه خلق آخر وهو ما قد يشير إلى بداية نفخ الروح بعد نهاية الأسبوع الثامن.
وفي هذه المرحلة يملك الجنين خواص بشرية مميزة وتتكون لديه صور بدائية لجميع الأجزاء والأعضاء الداخلية والخارجية، وبعد الأسبوع الثامن يطلق على هذا المخلوق “جنين” ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَاْلأَبْصَارَ وَاْلأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾(السجدة:9) وتؤكد هذه الآية ما سبق بيانه في الآية السابقة، وهو أن الروح تنفخ في الجنين بعد أن يتشكل؛ كما يبين هذا أن الحواس الخاصة كالسمع والبصر تبدأ في التطور بهذا النظام أي بعد نفخ الروح وهو ما يتفق أيضا وعلمَ الأجنة، وتتشكل الأذن الداخلية قبل بداية تشكل العينين، ويكون ذلك في حوالي الأسبوع العاشر أو الحادي عشر في مرحلة التطور. ومن المهم هنا أن نلفت النظر إلى أن الله تعالى يتحدث عن الجنين بضمير الخطاب ﴿لَكُمْ﴾ بعد نفخ الروح، بينما يشير إليه بضمير الغائب “الهاء” قبل نفخ الروح، وكأنه يشير من طرف خفي إلى أن الجنين في هذه المرحلة ما هو إلا شيء أو عنقود من الخلايا فقط.
لذا فنحن مع الرأي القائل بأن بداية الحياة الحقيقية تتم حينما يصل الجنين إلى الأسبوع التاسع، أي بعد اليوم السابع والخمسين، بعد أن تتشكل العظام وتتكون العضلات وقبل تشكل السمع والبصر؛ في هذا الحين فقط يتكون لدينا كائن متعدد الخلايا وليس فقط مجرد كتلة من الخلايا الحية المتلاصقة بعضها إلى بعض. فالروح تتطلب وجود مادة فردية. ولا يوجد مثل هذا كائن بشري له أعضاء؛ فالحيوان المنوي أوالبويضة اللذان يعيشان مستقلين في عزلة عن بعضهما البعض لديهما القدرة على إنتاج كائن، كما أن الجنين الذي هو عبارة عن مادة حيوية تحتوي على الحامض النووي الـ “DNA” له قابلية التحول إلى إنسان، وهو ما يعني أنه لم يصبح إنسانا حقيقيا بعد.
شيئان يمكنهما أن يصيرا شيئا آخر ولكن واحدا من هذين الشيئين أقرب لتحقيق هذا التحول من الآخر؛ لذا يقال إن الجنين أقرب إلى أن يكون كائنا حيا من مجرد الحيوان المنوي والبويضة. من هنا يمكننا القول إن القدرة المعلوماتية للبويضة الملقحة (Zygote) والجنين في مراحله الأولى لا تكفي لتوجيه أي شيء خاص بالكائنات الحية ولا تكفي كمادة جينية ثابتة لكائن حي.

الجسم البشري والروح

أما “جوزيف زايفرت” فهو يتعامل مع الجسم البشري والروح كمادتين غير كاملتين (أي نجد هنا فكرة “الثنائية” Dualism) واللتان تكتملان في الكائن البشري كمركب. وكأن هذه الرؤية تتطلب أن الروح بالنفخ في مادة ستكون هي المعدن لكائن بشري أو جنين تتطور أغشيته بما يسمح لوظائفه الإدراكية بالعمل. وتتوافق هذه الرؤية مع قولنا بأن الروح تضاف إلى جسد مادي موجود أصلا حين تبدأ الأعضاء والأنظمة الجسدية حديثة التشكيل في العمل سويا.
وإذا كان للروح أن تعمل عملها بعد أن تقوم العمليات البيولوجية بإنتاج حياة بشرية جديدة، في وقت محدد تمامًا لا تتأخر عنه ولا تتقدم عليه، فسيكون من الطبيعي أن يستتبع هذا حدوث النفخ في آخر المرحلة الجنينية والتي تنتج فيها بدايةُ عمل الجسد ككل -إضافة للمخ حديث التكوين الذي يعمل كنقطة مركزية لتبادل المعلومات- مستوى جديدا من الحياة، وتمكن العمليات التي تؤدي إلى كائن حي أن تأخذ طريقها في العمل.

الفهم الأرسطي

ورجال الدين هؤلاء يقولون بأن الروح لا توجد في الجسد حتى توجد مادة منظمة ملائمة. وبالرغم من هذا فإن بعض النصارى يعتقدون أن عيسى عليه السلام كان بشرا منذ لحظة الحمل، وعليه فكل جنين يصبح كائنا حيا منذ لحظة الحمل؛ بيد أن آخرين يرون أن عيسى عليه السلام كان استثناءً، بل إن الاعتقاد هو أن الأحداث التي صاحبت الحمل بعيسى عليه السلام ونموه سيبينها هو نفسه عند نزوله.
وعدم اعتبار الجنين كائنا حيّا له دلالته ومغزاه في مدى أخلاقية ومشروعية الاستخدامات المختلفة التي يمكن أن تؤثر على وضع وحال الجنين مثل حبوب الصباح (منع الحمل)، والوسائل التي توضع داخل الرحم وتكفي لمنع الحمل عن طريق إيقاف التخصيب، والتخلص من الأجنة الزائدة، والتي تتكون أثناء عملية التخصيب المعملي، بالإضافة إلى أبحاث الأجنة.
ومن الصعب حقيقةً تبرير القيام بالإجهاض بعد حدوث الحمل سواء كان الكلام من وجهة نظر دينية أو غير دينية؛ بيد أن قضية الحديث عن الاستخدام الممكن للأجنّة المعملية الزائدة تجعل من عملية نفخ الروح أمرا هاما. وحتى إن قيل إن النفخ لا يحدث إلا في مرحلة متأخرة من تطور الجنين فلا يكون هناك سبب لعدم استخدام الأجنة الأخرى طالما أن الغرض هو علاج إنسان لا يمكن علاجه إلا بطريقة استخدام الأجنة؛ وهو بالطبع أمر أخلاقي بغضّ النظر عن الجانب الديني، فإن كان نفخ الروح لا يتم حتى يبدأ الكائن الجديد في استخدام وظائفه كلية، فقرار عدم استخدام أجنة المختبر هذه لأغراض طبية سيكون مسؤولية كبيرة.
إن أبحاث الخلايا الجنينية لديها الكثير لتعطيه للبشرية كي تحفظ حياة أفراد وتنقذ آخرين وتعالج أمراضا مستعصية، وهو ما يجعل من الواجب بمكان أن نسبر آفاقها ونضع لها المعايير والشريعة الأخلاقية. وفي الأغلب ستموت كل الأجنة الزائدة في العيادات في النهاية نظرا لخطأ المختبر أوالآلة، وستهلك هذه الأجنة عن طريق تجفيفها أو بطرق أخرى.
ولكن ربما يقوم هؤلاء باستخدام هذا البحث في خدمة البشرية ويجلبون لها النفع من خلاله. وإذا صح هذا الأمر فلن يكون هناك فقْدٌ في الأرواح، فما يتم تدميره في هذه العملية هو المادة البشرية الحيوية التي لم تنفخ فيها الروح بعد، ويمكننا حينئذ استكشاف آفاق استخدام الأجنة ومساعدة الأشخاص الذين أنهكتهم أمراضهم المستعصية، ومن هنا ندلف إلى الطبيعة ونجعل العلم مطية لمساعدة الآخرين وتخفيف آلامهم وتحسين صحة الإنسان.
_______________
(*) الترجمة عن الإنكليزية: بهاء الدين إبراهيم.
الهوامش
(1) الخلايا الجذعية: بعد أن يتم تخصيب البوَيضة في الرحم تبدأ هذه البويضة المخصبة بالانقسام إلى 2، ثم إلى 4، ثم إلى 8…الخ. من الخلايا. وقد لوحظ أننا إن أخذنا هذه الخلايا الأولية وقبل أن تنقلب إلى خلايا مخصبة (مثل خلايا العين أو خلايا الجلد …الخ.) فإنها تدعى بـ”الخلايا الجذعية”، ولها قابلية لتوليد أي نوع من الخلايا في الجسم.