قبيل غروب الشمس خلف تلال الأفق وانتشار حمرة الغسق التي تميز الغروب في قريتي وعلى مصطبة مرتفعة أمام دكاننا، كنا نجتمع نحن الصغار أولاد الحارة وقد اشترى كل منا بخمسة قروش كمية من التمر وضعها البائع على قطعة من الورق ولفها متحولة إلى صرة نمسك بها في يدنا جالسين وعيوننا تـنظر باتجاه سطح ذلك المنزل، منزل حسين السليم ننـتظر صعود الحاج ياسين لرفع آذان المغرب، وما أن يصعد درجات المنزل حتى تبدوا لنا عمامته من بعيد ترتفع شيئا فشيئا فنصيح فرحين ومنبهين : طلع طلع الحجي ياسين، حتى إذا صار فوق السطح نظر باتجاه الغرب، يراقب الأفق ويتأكد من تمام الغروب توجه باتجاه القبلة واضعًا يديه على أذنيه ويرفع آذن لمغرب بصوته الخافت دون مكبر الصوت فنسمعه نحن الصبية ويفتح كل منا صرته نتناول منها حبة من التمر وننطلق فرحين كلا إلى بيته صائحين ومنبهين أهلنا الذين لم يسمعوا الآذان إلى أن الحجي ياسين قد أذَنَ وحان الإفطار ..

تكون شوارع القرية لحظة الإفطار خالية تمامًا من الحركة والمارة إلا ممن أتى متأخرًا، ثم تعود إليها الحركة وتعود سهرات الشباب واجتماعهم أمام الدكاكين وصيحات الأولاد وهم يلهون ويلعبون بعد أن ذهب الظمأ وابتلت العروق وعاد إليهم نشاطهم.

بعد منتصف الليل ما أن أسمع تلك الدقات الرتيبة على التنكة التي يحملها مسحَر الحارة أبو يوسف وصوته المميز وهو ينادي: “إصحا يا صايم .. يا نايم وحّد الدايم”، وينادي على أهل الحارة بيتًا بيتًا كلما اقترب من باب بيت صاح على صاحبه: “اصحا يا أبو فلان إصحا يا أبو محمد”، حتى أنهض مسرعًا منتظرًا والدتي أن تناولني أرغفة من الخبز لأناولها له قبل أن يبتعد في ظلمة الليل وأعود فرحًا بعد أن يتناولها مني شاكرًا ضاحكًا، نلتف حول مائدة السحور في سهرة عائلية يسودها الطمأنينة والألفة والخشوع ونحن نستمع إلى الدعاء الذي كان يقدمه الشيخ علي الجمّال بصوته المميز في فترة السحور من إذاعة دمشق، ومع اقتراب الشهر من نهايته واقتراب العيد حتى تبدأ العائلات بالتحضير لخبز وكعك العيد، وشراء الملابس الجديدة للأولاد، أما نحن الصبية فكان لدينا هم آخر وهو شراء لعبة العيد وعادة ما تكون مسدس الفلين أو الطابة الملونة التي كانت معروفة بجمال ألوانها ولمعانها، وفي ليلة العيد وقبل أن يتسلل صوت تكبيرات العيد إلى آذاننا لتوقظنا، كانت الرائحة الزكية لكعك العيد وخبزه تتسلل الى أنوفنا فتحرك حواس الشم والذوق، وتحرك العصارات الهاضمة في معدتنا فننهض فرحين مسرورين نتحلق من جديد حول أمهاتنا وخالاتنا وأخواتنا وقريباتنا، وجاراتنا اللواتي اجتمعن منذ المساء وقد حضرّن العجينة ورحن يصنعن منها خبز العيد باستخدام ذلك القالب الخشبي بنقوشه الجميلة التي تنطبع على قرص الخبز، وبعضهن يصنعن كعك العيد المحشو بالعجوة وبهاراته المميزة التي أكسبتها طعما ونكهة عطّرت شوارع الحي وسماء القرية.

كنت أجد سعادة في مساعدة والدتي التي كانت في غرفة فرن المنزل، فرن التنور أحمل لها طبق القش وقد اصطفت عليه أقراص العجين من غرفة الأسرة حيث اجتمعت ورشة إعداد الأقراص والكعك، فتـتناوله مني وتـناولني طبقًا آخر عليه أقراص وكعكات ناضجة خرجت للتو من الفرن تفوح منها تلك الرائحة الزكية التي لا تفارق ذاكرتي، أوصله إلى غرفة الأسرة وهناك يتم تذوق بعض ما أنتجنه وتخزين الآخر لتقديمه مع الشاي لضيوف العيد.

في صباح العيد يكون رجال القرية قد لبسوا أفضل ما عندهم من الثياب وحضروا صلاة العيد وخطبته في مصلى القرية، أما نحن الصغار فنكون قد لبسنا ثيابنا الجديدة وحملنا مسدساتنا وعلبة من طلقات الفلين ورحنا نكمن لبعضنا في لعبة بوليسية أو حربية، كل يوجه مسدسه نحو الآخر متحينا الفرصة المناسبة للإطلاق، وتنفجر طلقات الفلين مصدرة صوتا دون أذى وتتناثر متحولة إلى ذرات أشبه بتراب الفخار، وعندما تنتهي الذخيرة نجتمع سوية ونعود إلى بيوتنا لنتناول من العيدية التي عادة ما تكون سكاكر ناشد إخوان والغريبة والبرازق بأحجامها الكبيرة والبسكويت لمطبق بالراحة الدرعاوية،  إلى جانب كعك وأقراص العيد ويكون آباؤنا وأخوتنا الشباب قد أدوا صلاة العيد وزاروا بعض بيوت القرية وحضروا لاستقبال الزوار فنسارع إلى معايدتهم وتقبيل يد الوالد والوالدة ويناولونا العيدية البسيطة وهي عادة خمسة أو عشرة قروش ونادرًا أكثر حسب الحالة، ثم ننطلق نحن فرحين بالعيدية إلى شوارع وساحات القرية ودكاكينها نشتري طلقات الفلين ونعاود اللعب من جديد بينما ينطلق الكبار يتابعون زيارة البنات والأخوات والأرحام والجيران متناسين كل أنواع الخلافات التي قد تكون حصلت خلال الأشهر السابقة، والتي عادة ما تكون على حدود أرض أو حصة أو طريق مار من أرض فلان أو سلسلة حجرية انحرفت فأخذت شبرا من أرض مجاورة، يالك من شهر عظيم يا رمضان فيك تتهذب النفوس وترتقي وتسمو وبعيدك تتآلف وتتسامح وتصفو.