ناط الإسلام بكل فرد من أفراده مسؤولية وتبعة نحو نفسه وأهله وأمته، وعلى قدر منزلة الشخص وما وُكل إليه من مهام تكون مسؤوليته. وإن فقه المسؤولية ينبع من كون الإنسان صاحب رسالة في هذه الحياة، ولذا فهو مسؤول عن جميع أقواله وأعماله، قال تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)(الصافات:24)، فكل إنسان مسؤول عن أعماله أمام الله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الحجر:92-93).

وبيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنوع وشمول المسؤولية في المجتمع، وعدم اقتصارها على شخص دون آخر أو جهة دون أخرى؛ لأن هذا الأمر مشترك بين الناس، ففي الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعيةٌ على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” (رواه البخاري).

قال الإمام ابن حجر العسقلاني: “قال الطيبي في هذا الحديث: إن الراعي ليس مطلوبًا لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك، فينبغي ألاّ يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه”.. “وقال: دخل في هذا العموم، المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد، فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه حتى يعمل المأمورات، ويجتنب المنهيات فعلاً ونطقًا واعتقادًا، فجوارحه وقواه وحواسه رعيته”(1)؛ ويُفهم من هذا الحديث أن المسلم مسؤول مسؤولية عينية عن مصلحة المسلمين في دوائر قد تتسع وقد تضيق بحسب الموقع الذي يكون فيه.

إن استشعار المسؤولية مأمور به في الإسلام؛ ليعمل الإنسان قدر طاقته للنهوض بتبعات ما أُلقي على عاتقه، ويحذر التهرب من مسؤولياته ليُلقى باللائمة والتبعة على غيره. إن القيام بالواجبات والمهام مسؤولية مشتركة، كل امرئ بحسبه؛ هذا بتعليمه وكلامه، وهذا بتخصصه، وذاك بماله أو وجاهته، ودائرة كل راع تختلف في السعة والضيق حسب وضع الراعي ومكانه الذي يتبوأه.

والرعاية التي يفرضها الإسلام على الراعي في دائرة الأسرة، ليست رعاية الإنفاق وتدبير الأمر فقط عمن يرعاهم الراعي في أسرته، بل مع ذلك رعاية التوجيه لهؤلاء، والملاحظة الدقيقة المستمرة لسلوكهم. والإسلام إذ يوصي بقيام كل راع بأمر رعيته وبالتعاون في هذه الرعاية، يقر أيضًا المسؤولية الشخصية والفردية على كل راع؛ ليؤكد أمر القيام بهذه الرعاية وبالتعاون فيها، وهذه المسؤولية الشخصية تعطينا “أن الإسلام يطلب من المؤمنين به، أن يكون كل واحد منهم بَنّاء في أمر نفسه، وفي أمر أسرته، وفي أمر مجتمعه”(2).

واقع الأمة وغياب المسؤولية

تحولت الأمة إلى طوائف ومجموعات تتمرس خلف أفكارٍ وآراء تنم -أحيانًا- عن عصبية وتشدد لدى بعض الفئات التي تكتفي بقراءة ذاتها بمنأى عن عالمها، مع التعصب لرؤيتها ونظرتها واعتبار تدينها دينًا مقدسًا لا يمكن إعادة النظر فيه، وقد حذر القرآن الكريم من مغَبّة الوقوع في هذا المستنقع، قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(الروم:31-32). إن آيات القرآن صريحة في بيان دور الإنسان وإعطائه الحرية، ورُتِّبت على هذه الحرية مسؤولية الثواب والعقاب، فلا مسؤولية بلا حرية، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11).

إن الله تعالى ربط تغيير الحال بإرادة الإنسان ونشاطه، ولذا فإن أيّة محاولة للتغيير في واقع الأمة، لا بد وأن تبدأ بالإنسان وتركز على بنائه الفكري؛ لأننا بحاجة إلى الاهتمام بعقل الإنسان وفكره، فهو المفتاح الحقيقي لأي تقدم، وهذا ما جعل مالك بن نبي يقول: “إن الحضارة لا تنبعث -كما هو ملاحظ تاريخيًّا- إلا بالعقيدة الدينية -هدايات وبلاغات الوحي- فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شرعةً ومنهاجًا، وهي -على الأقل- تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام، فكأنما قدِّر للإنسان ألا تُشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية، أو بعيدًا عن حقبته، إذ حينما يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي تشكل له مركز الرؤية تتفاعل معها عبقريته”(3).

إن الإسلام جعل مسؤولية التغيير الاجتماعي تضامنية وفرضًا من فروض الكفاية، وجعل مسؤولية السقوط جماعية أيضًا، وشرع مسؤولية الحراسة والرقابة العامة للمجتمع، قاله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)(آل عمران:110).

لقد كانت خطوة الإسلام الأولى، هي تغيير ما بالأنفس وممارسة التحول الثقافي(4): “إن أسباب ارتقاء المسلمين في الماضي كانت عائدة في مجملها إلى الديانة الإسلامية، التي تحولت قبائل العرب بهدايتها من الفُرقة إلى الوحدة، ومن الجاهلية إلى المدنية، ومن القسوة إلى الرحمة.. وتبدلوا بأرواحهم الأولى أرواحًا جديدة، صيَّرتهم إلى ما صاروا إليه من عزوة ومنعة”. فالسبب الذي به نهضوا وفتحوا وبلغوا هذه  المبالغ كلها من المجد والرقي يجب علينا أن نبحث عنه وننشده.. أهو باق؟ أم قد ارتفع هذا السبب من بينهم ولم يبق من الإيمان إلا اسمه، ومن الإسلام إلا رسمه، ومن القرآن إلا الترنم به دون العمل بأوامره ونواهيه، إلى غير ذلك؟

لقد فقد المسلمون السبب الذي ساد به سلفهم، إن السبب الذي به استقام هذا الأمر، قد أصبح مفقودًا بلا نزاع وإن كان بقي منه شيء كباقي الوشم في ظاهر اليد.

فلو وعد الله تعالى المؤمنين بالعزة بمجرد الاسم دون الفعل لحقّ لنا أن نقول أين عزة المؤمنين من قوله تعالى: (وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(المنافقون:8)، ولو كان الله قد قال: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(الروم:47)؛ بمعنى أن ينصرهم بدون أدنى مزيّة فيهم سوى أنهم يعلنون كونهم مؤمنين، لكان ثمة محل للتعجب من هذا الخذلان بعد ذلك الوعد الصريح بالنصر. لكن النصوص التي في القرآن هي غير هذا، فالله غير مخلف وعده، والقرآن لم يتغير، ولكن المسلمين هم الذين تغيروا(5)، والله تعالى أنذر بهذا فقال: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

إن الأمة الإسلامية اليوم تعيش مرحلة “القصعة” التي أخبر عنها النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”، فقال قائل: ومِن قلّةٍ نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوَهَن”، فقال قائل: يا رسول الله وما الوَهْن؟ قال: “حبُّ الدنيا وكراهية الموت” (رواه أبو داود).

فمؤشرات الوهن الحضاري ومسبباته كما أشار إليها الحديث، حب الدنيا والإفراط الضخم في الاستهلاك، والتزاحم على المطالبة بالحقوق والهروب من القيام بالواجبات وعدم الشعور بالمسؤولية الخاصة والعامة، وكراهية الموت والرغبة في الإخلاد في الحياة.

ولن يتحقق أي نهوض أو بناء إلا بتصويب تلك المعادلة، وذلك إنما يكون بإعادة بناء الشخصية المسلمة اليوم، وصنع الإنسان المنتج، والتركيز على إنسان الواجبات لا إنسان الحقوق، فالأمة تحتاج إلى من يعطي ويتفانى في العطاء.

لقد أدى ضعف الشعور بالمسؤولية إلى حالة من الاضطراب في الموازين والخلط في الأوراق، فمن أبجديات المنطق الأولى أن الحكم على الشيء فرع من تصوره، وأن من أبرز سمات العصر الذي نعيشه تقسيم العمل والتخصص، بل التخصص الدقيق في فروع المعرفة الواحدة، أما واقع المسلمين فلا يزال الرجل الملحمة الذي يدعى أنه فهم كل شيء هو الشخص المميز، فهناك من المشتغلين بالعلوم التجريبية من يقتحمون ساحة التخصص الشرعي الدقيق التي لا يبلغها إلا من أفنى عمره في بحثها، وعلى الجانب الآخر نرى بعض المشتغلين بالأمور الشرعية يُصرون على اقتحام ساحات العلوم التجريبية الدقيقة.

إننا نرى فئة ممن اختاروا طريق العلوم التجريبية من المتدينين، يشعرون بعقدة الذنب الداخلي بسبب اختيارهم لتوهُّم أن هذا التخصص لا يقع في دائرة العبادة، لذلك نجد مجموعة منهم تتحول من ممارسة التخصص العلمي سواء كان في الطب أو الهندسة أو غير ذلك للعمل في مجال الدعوة إلى الله، وكأن الكسب العلمي الذي يؤدي إلى تمكين الأمة، ليس من الدعوة إلى الله!

والأغرب من ذلك، أن يعتقد البعض بأن الله جعل الكفار -على حد زعم من يقول- في خدمتنا، فهم يتولون الصناعة لاستهلاكنا، أما نحن فنتفرغ للعلوم الشرعية وكأن معرفة الحرفة والصنعة والإنتاج ليس من العلوم الإسلامية والتكاليف الشرعية! وما من الأنبياء نبي إلا كانت له حرفة وهُم في موقع الأسوة والقدوة. وكيف يقرأ هؤلاء قوله تعالى في بيان نعمه على سيدنا داود: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)(سبأ:10)، (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ)(سبأ:11)، (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ)(الأنبياء:80)، وكيف يقرأون قصة ذي القرنين في القرآن، الذي مكّن الله له في الأرض باتّباعه للأسباب(6).

إن القرآن الكريم عمل على صياغة الفكر الإسلامي صياغة واقعية جعلت له منهجية عملية متميزة في تاريخ الفكر الإنساني، حيث وجّه العقل في سبيل إدراك حقيقة الغيب وسنن الكون، إلى مظاهر الطبيعة المادية وواقع النفس الإنسانية، قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(فصلت:53).

لقد استشعر المسلمون المسؤولية فنشأت لديهم خاصية في الفكر جعلت الواقع الكوني والإنساني منطلقهم لكل معرفة، وبرعوا في العلوم الطبيعية، وتميزوا في المجالات الشرعية، وكانت هذه الواقعية أساسًا للمنهج التجريبي الحديث الذي قامت عليه الحضارة الغربية حينما نقله “روجر بيكون” (Roger Bacon) عن التجريبيين الإسلاميين(7).

إن وعي المسلمين وإدراكهم لدورهم الإنساني والحضاري، جعلهم على درجة عالية ودقيقة من الفهم والاستيعاب، فتكونت لديهم صفة المقارنة والنقد، واستطاعوا أن يستوعبوا علوم الأوائل، وأن يخضعوها للبحث والتمحيص والمقابلة مع التعاليم الإسلامية، دون أحكام مسبقة أو استعلاء أو تعصب.. فكانت لهم رؤى نقدية ثاقبة، وقد ظهر ذلك واضحًا فيما كتبه حجة الإسلام “أبو حامد الغزالي” في “مقاصد الفلاسفة، وتهافت الفلاسفة”.

ولكن عند ضعف الوعي وضعف الشعور بالمسؤولية، يضيق الأفق ولا تتسع العقول للآراء المخالفة في العقيدة أو المذهب أو الفكر، ويحدث الرفض للآخر. يقول الشيخ محمد الغزالي: “لقيت متعصبين كثيرين، ودرست عن كثب أحوالهم النفسية والفكرية، فوجدت آفتين تفتكان بهم، الأولى العجز العلمي أو قلة المعرفة؛ هؤلاء يحفظون نصًّا وينسون آخر، أو يفهمون دلالة للكلام هنا ويجهلون أخرى، وهم يحسبون ما أدركوه، الدين كله.

والآفة الثانية في التعصب المذهبي، سوء النية ووجود أمراض نفسية دفينة وراء السلوك الإنساني المعوج، ويغلب أن تكون آفات الظهور والاستعلاء أو رذائل القسوة والتسلط.

أرأيت إلى الشخص الذي قال لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- “اعدل، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله”! إنه -والله- ما يغار على عدالة، ولا يأبى على جور، إنه طالب ظهور عن طريق الغيرة على القيم، يريد أن يقال عنه: لفت معلم الإنسانية إلى ما فاته، وأدرك ما لم يدركه، وهو صاحب الرسالة العظمى.

إنه هو وأمثاله كما قال رب العالمين: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(غافر:56). ولقد تألم رسول الله –رسول الله صلى الله عليه وسلم- لهذا الكلام وقال لصاحبه: “ويحك! من يعدل إذا لم أعدل؟ خبت وخسرت إن لم أعدل”.

والواقع أن بين المتعصبين لبعض الآراء والمذاهب ناسًا حظهم من الإيمان بالغ التفاهة، ولذا اجتمعت الآفتان معًا على افتراس الأمة الإسلامية المغلوبة.

“إن القرآن الكريم عمل على قدح زناد الفكر البشري بنقاشه ثوابت الجاهلية، وهكذا في كل القضايا الاعتقادية والخلقية والاقتصادية، مما أوجد مفاهيم وحقائق وأحاسيس لها أدب يعبر عن وحيها”(8). ولكن عندما غُيِّب وعي الإنسان وضعُف شعوره بالمسؤولية نحو نفسه وأسرته ووطنه ودينه -بسبب التعصب والغلو والتشدد- انتشر التكفير والتفجير، وأصبح القتل يمارس باسم الإسلام، واستغلت النصوص الشرعية لاستحلال إزهاق الأرواح والأموال والأعراض، مما أدى إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين.

(*) الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية / مصر.

الهوامش

(1) فتح الباري، 13/121.

(2) الإسلام في حياة المسلم، لمحمد البهيّ، ص:288.

(3) شروط النهضة، لمالك بن نبي.

(4) رؤية في منهجية التغيير، لعمر عبيد، ص:28-30.

(5) لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم، للأمير شكيب أرسلان، ص:41-42.

(6) تأملات في الواقع الإسلامي، لعمر عبيد، ص:34-42.

(7) تجديد الفكر الديني في الإسلام، لمحمد إقبال، ص:148.

(8) الحضارة والتمدن الإسلامي بأقلام فلاسفة النصارى، د. عبد المتعال الجبري، ص:141-142.