في تجديد الخطاب الدعوي (1)

ما تزال قضية الأسلوب في الدعوة إلى الله تعالى، تمثل همًّا مؤرّقًا من هموم الأمة الرئيسة، وما تزال تفرض نفسها على مسيرة العمل الإسلامي في أبعاده وأنحائه ومجالاته المتعددة، بسبب ضغط المتغيرات الكونية، والتحولات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تكتنف المجتمعات المسلمة في أوضاعها الخاصة والعامة، الأمر الذي يشعر المؤسسة الدعوية بالحاجة الماسة إلى مراجعة خططها وأهدافها وأولوياتها، ومراجعة موقعها من المجتمع، واستنفار طاقاتها الفكرية لمعرفة كيفية التعامل مع الواقع بأساليب وصيغ جديدة تنسجم مع أنماط واتجاهات التفكير فيه، وتتفتح على أسئلته وحاجاته، وتتفاعل مع مشكلات الأجيال الصاعدة وطموحاتها، وتستشرف المستقبل من بعيد، لتُحوّل الإستراتيجيات المضادة والاتجاهات المعارضة إلى اتجاهات ملائمة أو على الأقل مهادنة مصداقًا لقوله جلّ وعلا: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(فصلت:34-35).

وقبل أن أتحدث عن تصوّري لما ينبغي أن يكون عليه المشهد الدعوي عمومًا، أحبّ أن أنوّه بأن المناهج تتنوع، والأساليب تتعدد بتعدد أضرب الاجتهاد في هذا الباب؛ فالمجال واسع، والمهيع لاحب، والمجتهد فيه مأجور غير مأزور؛ (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً)(الإسراء:84).

والحقيقة أن أصل المشكلة -في تقديري-بخصوص أزمة الخطاب الدعوي، سواء كان في منبر الجمعة أو في غيره، إنما يعكس “أزمة فكرية” لدى أصحابه، أو على حد عبارة الأستاذ مالك بن نبي”مشكلة ثقافة”(1). ومشكلة الثقافة في العالم الإسلامي هي مشكلة حضارة بجميع أبعادها، لأن الملاحظة تهدي إلى أن حالة التخلف التي تعاني منها المجتمعات المسلمة، هي حالة بنيوية لا تمس قطاعًا دون غيره، بل تظهر على جميع الصّعد لدى المثقفين والمتعلمين والسياسيين والخطباء والعمال والفلاحين.. وهذا وجه تسمية هذه الحالة بـ”مشكلة ثقافة”، من حيث إن الثقافة لا تعني في مدلولها الأفكار فحسب، وإنما هي أعم من ذلك وأوسع؛ إذ تشمل أسلوب الحياة والسلوك الاجتماعي العام الذي يستصحبه الإنسان في مختلف تصرفاته ومواقفه وأحواله.

ومعلوم أيضًا أن الموضوع في خطابنا الدعوي الإسلامي يتميز بالسعة والشمول بقدر سعة رسالة الإسلام ومقاصده، فهو يشمل “الإنسان” الفرد بجسمه وعقله وروحه ووجدانه وحقوقه الضرورية، ويشمل الأسرة بعلائقها الرحمية والأبوية والزوجية، ويشمل المجتمع بطبقاته وعلاقاته السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ويشمل العالم قاطبة باعتباره دار تعارف وتبادل للمنافع؛ فهو يتوجه بالدعوة إليه، ويقيم العلاقات معه على أساس قوله تعالى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(الممتحنة:8).

وقد يتطرق هذا الخطاب لقضايا عقدية تتعلق بأصول الإيمان وأمور الغيب، وقد يتعرض لقضايا أخلاقية تتصل بالقيم العليا التي تشكل أساس اجتماعنا وهويتنا، وقد يتعرض لقضايا اجتماعية تتعلق بانتشال المجتمع من درك الدهرية المادية وحضيض الاستهلاكية النفعية، وحل مشكلاته من الفقر والجهل والمرض والفساد والظلم الاجتماعي.

فالخطاب الإسلامي إذن، ليس مقصورًا على شؤون الغيب وقضايا الروح -كما قد يتوهم بعض الناس- بل يتسع ويمتد ليواكب حركة الاجتماع الإنساني في شتى مجالات الحياة بمختلف أبعادها ومظاهرها.

وبعد؛ فإن هذه المقالة تروم التذكير بالمقدمات المحكمات الضرورية، والمقاصد الجليات القاطعة التي يجدر بالخطاب الدعوي والعمل الدعوي أن ينطلق منها في مبادراته التجديدية والترشيدية التي أصبحت ضربة لازب نتيجة التغيرات العميقة والتطورات الهائلة التي اعترت حياتنا الخاصة والعامة، حيث أصبحت تدار على مفاهيم جديدة كـ”التقدم” و”التنمية” و”الديمقراطية” و”المواطنة” و”حقوق الإنسان”، وتداخلت العلاقات الدولية، واشتدّ التمازج بين الثقافات والأمم، وأضحت الأنظمة والمواثيق الدولية، ونظم المبادلات والمعاملات جزءًا من التشريعات والقوانين الوطنية.. فغدت إدارة الحياة الاجتماعية تتبع الرؤى الفلسفية والعلوم السياسية وعلوم الإدارة والاقتصاد والحقوق من جهة، ومعرفة القيم السياسية والإنسانية المعاصرة من جهة أخرى.

واعتبارًا لما سبق، أودّ أن أعرض تصوري المتواضع، لإعادة هندسة الفعل الدعوي، وتجديد منهجه وأدائه وأثره، انطلاقًا من ثلاث شُعَب أو ثلاثة أصول لا يغني فيها أصل عن أصل، وهي:

الأول: وضوح الرؤية وتحديد القصد.

الثاني: العمل من خلال فقه “التوصيل” كما قال الله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(القصص:51). وهذا أصل له تعلّق بوسائل العمل الدعوي وتراتيبه وخططه ومؤسساته.

الثالث: المنهج الدعوي من حيث الأخلاق بقسميها أخلاق الفكر، وأخلاق الفعل.

1-وضوح الرؤية وتحديد القصد

هو أساس المنهج كله، وملاك الدعوة كلها، وإليه يشير قول الله تعالى على لسان شعيب رضالله عنه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(هود:88)، وقوله تعالى على لسان الرسل عليهم السلام: (مَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ)(يس:17)، أي الواضح البين الذي لا غموض فيه كما قال العباس رضي الله عنه موقوفًا: “لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترككم على طريق ناهجة”(2) أي بينة واضحة.

فبداية البدايات، أن يكون الداعية على بصر مما يدعو إليه، كما قال الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(يوسف:108)، أي على بيّنة من مقاصد أمره وشرعه. ومقصد الداعية إلى الله الأسمى هو الدعاء إلى الدار الآخرة؛ إذ هي دعوة الله عز وجل كما قال: (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ)(يونس:25)، ودعوة رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام. فمسؤولية أهل العلم وأهل الدعوة، تعبيد الطريق للناس للفوز برضا الله تعالى، فهذا هو الأصل الأكبر، والمقصد الأعظم للمشروع الدعوي الإسلامي؛ دلالة الخلق على الحق -أي على الله تعالى- وتوحيدهم له، وتعظيمهم إياه، حتى يكون الله أحبّ إليهم مما سواه. وهذا الأصل قاضٍ على كل ما ينبني عليه، ولا يجوز إلغاؤه أو التقليل منه بتضخيم فروعِه وتقديمِها عليه، أو حتى مساواتِها به.

وزيادة في توجيه هذا المعنى وتوضيحه، أستشهد بكلمة للشيخ سيدي عبد السلام بن مشيش رحمه الله، حيث قال: “من دلّك عَلى العَمَل فقد أتعبَك، ومن دلّك على الدنيا فقد غشّك، ومن دَلّك على الله فقد نَصَحَك”(3)؛ لأن الدلالة على الله تعالى، هي دلالة على معرفته بما يليق بجلاله وجماله، والترقي في مقامات عبوديته، إسلامًا وإيمانًا وإحسانًا. والدلالة على العمل، قد يُنسي العاملَ في ربّ العمل ويَشغَله عمله عن أن يكون له ذاكرًا. وهذا الضرب من العمل في الشرع، لا فائدة من ورائه ولا طائل؛ “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع” (رواه الإمام أحمد). ولهذا قال ابن أبي جمرة الأندلسي: “وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك”(4).

ويمكن القول بأن بعض الأنماط من الخطاب الدعوي المعاصر، نسي أنه خطاب دعوة ودلالة على الله تبارك وتعالى، وصار من حيث يدري -أو لا يدري- خطابًا سياسيًّا أو إعلاميًّا أو فكريًّا، وقد نأت به هذه النعوت والعوارض أحيانًا عن أن يقيم الحجّة، ويُبلّغ الرسالة، واشتغل عنها بالتجاذب والتناوش مع الخطابات السياسية والإعلامية والثقافية المخالفة.. وغالبًا ما تطغى الحظوظ على النفوس في غمرة التناوش والصراع.

ومن مقاصد الدعوة، بذل الوسع في إقامة الحجّة على الناس بسلطة البيان لا بسلطة الإكراه، ذلك لأن البيان هو المرتكز الأول والركن المعتبر الذي ينبني عليه التكليف والمسؤولية، ويترتب عليه الحساب والجزاء، ويعوّل عليه في تحقيق المقاصد العليا لهذا الدين؛ وهو الذي تقوم به الحجة، ويتم به البلاغ، ويوصّل به ما في خطاب الله لعباده من الهدى والبينات؛ والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)(إبراهيم:4)، (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(الشعراء:193-195)، (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(النحل:44)، (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)(آل عمران:138)، (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)(المائدة:67)، (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(النساء:165).

وهذا الأصل له شرائط ومقتضيات كثيرة، أقتصر منها على مقتضيين مهمّين وهما:

أ- القدرة على تقصيد الخطاب

ينبغي إنشاء القول على وزن الرسالة التي نريد توصيلها للناس، وأن تصاغ المقاصد والمعاني بعبارات سهلة وكلمات واضحة ودقيقة بقدر الإمكان، بحيث يكون فهمها موحّدًا، وأن تصاغ على شكل نتائج متوقعة. وبهذه الطريقة سيجد الداعي نفسَه يتحرّى القول البليغ، والعبارة الجزلة، والكلمة المناسبة، والأساليب المعتدلة والملائمة في الخطاب. ولا يخفى أن القدرة على التقصيد متوقفة على وضوح الرؤية، ووضوح المعاني وحسن تنسيقها وتنظيمها في ذهن المتكلم.. وإذا كنا نعتب على بعض الدعاة الجسارة على مخاطبة الجمهور بطريقة عشوائية و”لفظية” وغير منظمة؛ فلأنهم في الغالب لا يملكون وضوح الرؤية، ولا يدرون ما الأهداف ذات المدى القريب أو البعيد التي يريدون الوصول إليها.. وقد ترى أن كثيرًا من القضايا التي يتعرضون لها، مبنية على سوانح وخواطر شتيتة تطرأ على أذهانهم من هنا أو هناك، بل ترى أحيانًا أن بعضهم لا يبذل أدنى جهد في تحرير منهجه وبرنامج أهدافه، ولهذا تراه يجتر كثيرًا من أقواله وأقوال غيره بدون بصيرة.

إن وضوح الرؤية والمقاصد يُسعف بالاعتبار بالماضي، واستبصار تحديات الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل، ويدفع المرء إلى رسم خرائط واضحة يعرف فيها بدقة: ما الموضوعات التي سوف يتحدث عنها.. وما المبادئ العليا والقواعد الكلية التي ينطلق منها.. وما “الرسالة” الأساسية التي يريد توصيلها.. وما الأمراض الفكرية والسلوكية التي يقصد معالجتها.. وما أنسب السبل لتحقيق ذلك.. ويستبين الأولويات التي ينبغي البدء بها، ويحدد طريقة المعالجة ونحو ذلك مما يعدّ من بدائه الأمور التي لا غنى عنها.

بـ- تحصيل المعرفة العلمية الضرورية واعتمادها والانطلاق منها في صياغة أي خطاب أو معالجة

وهذا بدوره يقتضي جمعًا واطلاعًا واستقراء للمعلومات والأفكار والدراسات الأكاديمية والبحوث الميدانية، وتوثيقها وتنظيمها لتيسير الاستفادة منها بحسب الموضوع الذي يراد الكلام فيه.

علاوة على ذلك، فإن توضيح المقاصد وتحديد الأهداف، يفيد العمل الدعوي فوائد جمّة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، الآتي:

• فائدة تحصيل الرؤية الكلية المنهجية: فالملاحظ أن كثرة من الأدبيات السائدة في المجال الدعوي، تركز مجهودها على الاشتغال بالفروع والجزئيات والمختلف فيه أكثر من الاشتغال بالأصول المحكمة، وتُعنى بالمشكلات والتفاصيل والحوادث اليومية والطارئة أكثر من الاشتغال بالمفاهيم الكلية المؤسسة للوعي والسلوك، وقد تجد عيونها مصوبة نحو قضايا من التراث أكثر من نوازل العصر ومشكلات البيئة المحيطة بها. إن هذا النمط من الرأي والتصرف، يضعف إمكانية الوعي المنهجي بمختلف القضايا والظواهر والمشكلات النازلة، ويشجّع على اتباع مسالك الارتجال والتخبّط والتقليد، والاعتقاد بأن “اللفظية” أو “التنميق البلاغي” يمكن أن يحلّ مشكلة، أو يشفي داء!

• فائدة وضوح صورة الدعوة في الوعي الجمعي العام: وهذا أمر في غاية الأهمية، لأن الدراسات المتخصصة في علم الاجتماع، تفيد أن الناس لا يتحمّسون لمساندة أي دعوة أو تيار والثقة به، إلا إذا تحقق فيه شرطان: الأول، أن يفهم الناس مقاصد التيار وأهدافه. والثاني، أن يجد الناس لدى التيار حلاًّ للمشكلات التي تشغلهم ويعانون منها.

من هنا، ينبغي لمؤسسة الدعوة أن تعرض نفسها على العالم وعلى الناس بطريقة واضحة ومفهومة، وأن تكون عملية التوصيل والتوضيح ميسرة ومحُبِّبة، كما قال تعالى: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ)(الحجرات:7)، وبأسلوب جذّاب لا فظاظة فيه ولا غلظة ولا أستاذية ولا استعلاء، وأن تكون القضايا التي تتبناها الدعوة، قضايا مفهومة ومدروسة وذات شأن في نظر الجمهور وميزانه وتقديره.

وهذا من باب قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)(إبراهيم:4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله” (أخرجه البخاري)، وقوله: “أنزلوا الناس منازلهم” (أخرجه أبو داود). فهذا الأمر شديد الموقع، عظيم النفع، غاية في الأهمية، لأنك تجد أعداء الدعوة عادة ما يتربصون بالدعاة من هذه الناحية، ويبذلون قصارى جهدهم لتشويه صورتهم ورمزيتهم في عقل الأمة وتطويقها في زاوية حادة من التهم والأراجيف، مما يتطلب منهجًا واضحًا ودقيقًا في معالجة القضايا وتحليلها، ووضع خارطة شاملة ومتكاملة لإعادة هندسة الفعل الدعوي وأولوياته ومقاصده، بما يوازن بين الخصوصيات الاجتماعية والثقافية المحلية، وبين عالمية الخطاب وكونية الرسالة الخاتمة التي جاءت لهداية الناس على اختلاف أصولهم وبلدانهم وأديانهم وألسنتهم وأعرافهم.. وهذه المهمة تستلزم من خطاب الدعوة، أن يبني رؤيته الثقافية الكونية المتسقة مع كليات الوحي الخاتم، وقيم الفطرة الإنسانية المشتركة.

 

(*) عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء / المغرب.

الهوامش

(1) انظر في هذا الصدد كتاب “مشكلة الثقافة”، لمالك بن نبي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان. ودار الفكر، دمشق، سورية، الطبعة الرابعة، سنة 1984.

(2) مصنف عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، سنة 1403هـ، 5/434.

(3) إيقاظ الهمم في شرح متن الحكم، لابن عجيبة، نسخة إلكترونية، 1/6.

(4) المدخل، لابن الحاج المالكي، دار الفكر، سنة 1401هـ، 1981م، 1/6.