في سبيل بناء الفكرة التذوقية للتحف الفنية ضمن إطار الفنون الإسلامية تحضرني إشكالية الاستقراء من خلال الإجابة على السؤالين التاليين:
1- هل كل فن يتوجب إخضاعه للمرجعية الدينية التي يعتقد بها المجتمع المبدع لهذا الفن؟
2- خضوع مجتمع ما لدين جديد، هل يسمح باستقراء ممارساته الفنية داخل إطار هذا الدين؟
من خلال مقاربة بسيطة يتّضح أن الإجابة على الإشكال الأول تكون في مجملها بالإيجاب؛ فبدءً بالمجتمعات البدائية ومرورا بالحضارات المتمدنة يبرز الخضوع الإجمالي للمبادئ والمرتكزات العقائدية / الدينية بشكل لا يحتاج لتمحيص.
أما فيما يخص الإشكال الثاني، فقد تبقى الأعمال الفنية بمقوماتها ومفاهيمها الـ”ما قبل خضوع المجتمع للدين الجديد”، لكن هذا الأخير قد يؤطرها بنظرياته فيخضعها للتحوير الكلي أو التجديد، وقد يتركها على ما هي عليه إذا كانت لا تتعارض مع مبادئه العقائدية. وعليه تصبح هذه الإبداعات مصهورة في بوتقته ولا يسع القارئ إلا ركوب الفكر الديني للاستقراء الصحيح والتأويل المضبوط للطرح الفني لهذه الإبداعات.
فيما يخص الفن الإسلامي، ففكرة التسامح والتعايش الاجتماعي من صلب العقيدة الدينية، طَبعت الممارسات الفنية بميزة التحويط؛ أي تأطير العمل الفني -حتى إذا كان بأيد غير مسلمة- بمسلّمات العقيدة ومرتكزها الأساسي (التوحيد). وبهذا المبدإ تتجلى فكرة الوحدة في الفنون الإسلامية رغم شساعة الرقعة الجغرافية للامتداد الإسلامي الشيء الذي كذلك طبع هذه الفنون بطابع التنوع.
والعمل الفني كليةً، هو إبداع إنساني تتوارثه الإنسانية بغض النظر عن معتقدات الإيمان أو درجات التطور والرقي، كل حسب منظوره. وبهذا لا يمكن التخصيص في الأشكال والنماذج الزخرفية الفنية، وربطها بحضارة أو دينٍ ما. وكمثال على هذا قد نجد أن النجمة السداسية أو الثمانية استعملت بشكل ما في الممارسات الفنية لحضارات قبل ظهور الإسلام، ولا زالت تستعمل في إبداعات الفن الإسلامي الذي انفرد وتميز بسلوك نمط التجريد التخيلي (الزخارف النباتية أو التوريق كما يطلق عليها في المغرب) أو التجريد العقلاني (الزخارف الهندسية أو التسطير كما يطلق عليها في المغرب) وكذا الخط العربي بحكم أنه الشكل المنظور للغة القرآن، في ترسيخ فكرة التوحيد، بخلاف فنون الحضارات السابقة التي كان تركيزها بالأساس على نمط التجسيم لإيصال الفكر الديني.
فالفنان المسلم ومن خلال التوجهات الفنية الإسلامية المنبنية على الأنماط التالية بتأويلاتها:
• الزخارف النباتية (التوريق): الإسقاط التأويلي للعناصر النباتية من أوراق وأغصان وأزهار وثمار في تشكيلات إبداعية.
• الزخارف الهندسية (التسطير): الإسقاط التأويلي لتكوينات ومواقع النجوم والكواكب، والقراءة الهندسية للمعادلات الرياضية.
• الخط العربي (الكتابة): ركوب الحرف العربي (هو رسم للغة القرآن) لتبليغ عبارات الشكر والتبجيل أو المدح والتذكير.
الفنان المسلم يُخضع دائما إبداعاته للقناعة الدينية، بالتركيز على التدليل وإثبات أبدية وسرمدية الوجود الإلهي الواحد الأحد، مبتعدا عن فكرة مضاهات الخالق في الخلق، متقربا إليه من خلال تواصلية الخط وعدم انقطاعه كيفما كان، مُنحنِيا (الزخارف النباتية) أو مُستقيما (الزخارف الهندسية). فالناظر لأي إبداع من النمطين السالفين تسرح عينه في الشكل التواصلي لبنية التكوين النابع من خلال مرتكز “التكرار والتماثل”، وكذلك “الرؤية الجمالية الشاملة” للخط المؤسس لهذا الإبداع.
هذان المرتكزان في الإبداع هما أساس كل نتاج فني تتمحصه العين على امتداد الرقعة الجغرافية من أقصى الشرق إلى أدنى الغرب، ما يثبت التواجد المتكرر والرؤية المتماثلة لدلائل الفن الإسلامي (مبدأ الوحدة) مع اختلاف التقنيات (مبدأ التنوع).
وقد حرص الفنان المسلم على التزامه وركونه لخط جمالي موحد أخذت فيه تمثيل ثنائية الوجود (الظل والنور) المركز الأساسي. ففي مسار استقراء التذوق الجمالي للفن الإسلامي غالبا ما تَلبَس المتأملَ أحاسيسُ مشحونة بمتعة التعرف واكتشاف رمزية كنه المنظور من خلال لعبة الظل والنور، الأبيض والاسود، الكتلة والفراغ.. هذه المفاهيم التي تطلبت لترسيخها وجعلها كائنا ملموسا في الإبداع، الارتكاز إلى ما يلي:
1. المعرفة: وتنقسم إلى ثلاث تصورات:
أ- التصور الفني الكلي: المعرفة التامة بمادة الاشتغال، والتقنيات الضرورية لها، وكذلك المعرفة القبلية للشكل النهائي للتحفة المبدعة. فهناك على طول خطوط الإبداع والخلق الفني وجود حتمي لمفهوم التوازن.
بـ- التصور الاحتياجي: المعرفة التامة بالحاجة النفعية للقطعة الفنية. وعليه بناء التصور الجمالي مراعاة لذلك.
جـ- التصور الجمالي: المعرفة الكلية بارتباط التحفة والمكان. وعليه الاشتغال ضمن مساق إبداعي متكامل.
2. حَيثيّات الاشتغال: وهي على مرتكزين:
أ- المادة المشتغل عليها: نظرا لشساعة الرقعة الجغرافية للوجود الإسلامي ألم الفنان المسلم ومنذ البدايات الأولى بمعرفة التركيبات المفردة أو الكلية للكثير من المواد سواء كانت أرضية أو بحرية، واستطاع أن يستشف من الخامات بنيات تشكيلية زخرفية ممتطيا صهوة الرمزيات الدينية في كيفية الاستعمال وتراتبية التكوين الإبداعي.
بـ- النماذج الزخرفية: بالدخول في بنية التراكيب الزخرفية للفن الإسلامي لا يجد المتأمل نفسه إلا وكأنه في متاهة لا حدود لها، ففي هذا الفن الذي يؤسس له بمطلع القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي وإلى الوقت الحالي وما شاء الله من الزمن، هناك وحدةٌ في العناصر البنيوية للزخرفة وتنوعٌ في التراكيب المظهرية للنماذج / الأشكال الزخرفية، تطبع هذا الفنَّ بطابع الديمومة والتميز، وتعطيه دفعا ذاتيا متواترا.
3. التمكّن التقني: وهي ثقافة مكتسبة يتمكن منها الفنان بالتعلم والممارسة، دافعه الداعم دعوة الدين الحنيف وحثه على العلم والتعليم، وكذا تقدير اليد العاملة المجدة والمتقنة للعمل.
4. الأدوات الرمزية: للتعبير عن قناعات المتخيَّل الداخليّ، وللوصول إلى أرقى درجات السمو الروحي في محاولة لإدراج العطاء / الإبداع ضمن مقومات التقديس والتبجيل للذات الإلهية، وعلاقة الدنيوي بالأخروي، وكذلك علاقة الخلق بالخالق، جاء الارتكاز على مجموعة مفاهيم رمزية لتأويل كل مكون من مكونات الجملة الإبداعية، سواء كان الفعل عطاء (الابتكار والإبداع الفني) أو تلقيا (التذوق والاستقراء).
فبخلاف ارتباط الممارسات الفنية لما قبل الإسلام بالذات الإنسانية ومخاطبة الغرائز في البعض منها، وكذلك الارتكاز على العقل فقط في الاستقراء والتأويل، الفن الإسلامي له ارتباط وثيق بالتوحيد، والفعل ورد الفعل لهما نفس المنطلق ونفس المرجع (الوحدانية والتوحيد) ضمن توصيف مبني على:
• الإطار: محاولة التقرب من الخالق بالخلق في احترام النسب الجمالية والتأويل الرمزي.
• السند: كل مقومات الفكر الديني للوصول قدر الإمكان إلى قمة التوحيد والتبجيل للذات الإلهية.
• المادة: البحث والتمحيص للرقي بمادة الاشتغال من البساطة (الحالة الدنيوية) إلى الكمال (الحالة الأخروية).
• التقنية: مجموعة الأفعال ورداتها على كل إشكالية تعترض العملية الإبداعية.
• التاريخ: جدلية الخلق والابتكار، وعدم الخصوصية، فالقطعة الفنية هي ملك للتاريخ وليس للشخص المبدع.
• الفكرة الأساسية: طريقة التعبير عن التعبد والتوحيد وإلزامية اليقين بـ “لاإله إلا الله”.
• العمل الفني: قطعة إبداعية رغم تحديدها وتأطيرها هي انفتاح على اللانهاية للدلالة على السرمدية والأبدية.
• الإشكالية: تشخيص ثنائيات الوجود، وأخُصّ بالذكر -كما سلف- الظل والنور، البياض والسواد، الكتلة والفراغ لإلزامية ذلك في خلق التوازن الجمالي داخل الوحدة الصغيرة (القطعة الفنية) لتكون امتدادا للوحدة الكلية (الكون) دون نشاز.