أكثر من مرة تثاءب، تمطَّى، فرقع أصابع يديه، فرك عينيه.. وهمّ بالنهوض وتركِ الفراش.. غير أن شيئاً ما كان يمسك بتلابيبه ويمنعه من الحراك.. أُوه.. هذه أمي.. أسمع وقع خطواتها على السلّم.. وكالعادة ستنهال عليّ توبيخاً وتوقر سمعي بمواعظها.. ما أطيبَ الفراش وما أطيب الدفء الذي يشيعه في نفسي وجسمي.. ها هي تقف قبالة سريري:
– انهض يا بنيّ.. ما هذا الكسل؟ نحن الآن في الظهيرة.. أنسيتَ أم أرى أنك تتناسى.. الامتحانات على الأبواب.. قم وذاكر دروسك يكفيك كسلاً…
– حسناً يا أمي استمعتُ إليكِ.. اتركيني الآن، دعيني أكمل نومي، وسأنهض بعد ذلك وأذاكر كما تريدين!..
عادة “التسويف” هذه صارت طابع حياته، لم يستطع نبذها وراء ظهره حتى وهو طالب جامعي، حيث كانت سبباً في تأخره عن زملائه في كل شيء. وفي أحد الأيام رجاه أحد زملائه أن يصحبه إلى الجامع لأداء فريضة الجمعة، فوجئ بهذا الرجاء. وعلى الرغم من أنه يدرك أن “الموت” إذا جاء فلا يمكن أن يقول له: انتظر قليلاً، أو من فضلك تعالَ غداً حتى أستعدّ لاستقبالك.. فقد ردّ على زميله:
– اذهب أنت اليوم، ولكني أعدك أني سأباشر الصلاة في وقت لاحق وربما أصطحبتك وقتذاك إلى الجامع…
وغادر كليته بعد فشله سنتين متتاليتين، وهام على وجهه لا يدري ماذا يفعل، ولكن واحداً من زملائه اصطحبه إلى صديق له من رجال الأعمال ورجاه أن يلحقه بعمل ما ليعتاش منه.
مضت الأيام والسنون فإذا به يتزوج ويرزق بأطفال يقوم بتربيتهم ورعايتهم. وحين نصحه صديقه أن يزيد من اهتمامه بأطفاله ويوجههم الوجهة الحميدة تعلّل -كما هو شأنه دائماً- بأن أطفاله لا زالوا صغاراً وأنه سيفعل ذلك عندما يكبرون قليلاً. وعندما كبر هؤلاء الأطفال وباتت تؤرقهم أسئلة كثيرة لا يعرفون جواباً عنها، ويسألون ويلحون بالسؤال على والدهم، اكتشف الوالد نفسه، وعرف أنه لم يكن على دراية ليجيب أولاده عما يختلج في أذهانهم من إشكالات في الدين والحياة، وأنه خالي الوفاض لا يكاد يعرف شيئاً مما ينبغي أن يعرفه كلُّ أب للأخذ بأيدي أبنائه إلى الطريق المستقيم. لم يجد بداً من التردد على المكتبات والاستعانة ببعض الكتب التي يمكن أن تزوده بما هو يفتقر إليه من علم وثقافة. اختار بعضاً من هذه الكتب وأراد أن يدفع أثمانها، توقف قليلاً وتردد وقال في نفسه: “إن ما معي من النقود لا تغطي ثمن هذه الكتب، إذن سأشتريها عندما تتوفر لي النقود اللازمة”، ثم ترك الكتب ومضى لشأنه. وعندما توفرت له النقود لم يخطر بباله العودة إلى المكتبة واقتناء الكتب التي اختارها في المرة الأولى.
وبعد فترة طويلة، وبينما كان ذاهبا لعمله، شاهد متسولا معاقا، وفكر في إعطائه بعض النقود إلا أنه قال في نفسه: “أستطيع أن أعطيها له عند العودة”.
وبينما كان يقترب من عمله سمع صوت المؤذن، وكان أحد أقربائه قد توفي.. اغتم من داخله وفكر قائلا: “إن الموت سوف يصيبني ذات يوم، والعمر يمر بسرعة..” ثم سأل نفسه: “ألم يحن الوقتُ بعدُ لدفع متطلبات روحي المعذبة؟”.. كان رده بلا تردد: “نعم، ولكن المشاغل في هذه الفترة كثيرة للغاية، ليأت فصل الصيف ونتخفَّف من مشاغلنا عندها نفكر، كما أن أيام الله لا تنتهي”!
وبينما كان يمر في طريقه بين الأكواخ أثناء العودة من العمل شعر في داخله بمرارة، وتذكر سنوات المشقة، “يا إلهي! ما سبب تلك الدموع؟”.. لم يتحمل ثقل المشاعر أكثر من ذلك، ففاضت عيناه بالدموع، وعندما نفدت طاقة تحمله جثا على ركبتيه واستمر في البكاء.
وتصدعت روحه بأحاسيس لا يمكن وصفها.. مسح عينيه وتمتم قائلا: “لعلي أستطيع تدوين هذه المشاعر والأحاسيس على الورق لأنها تشكل صفحة مهمة من تاريخ حياتي” ولكنه أردف يقول: “ذات يوم سأفعل ذلك”.
كان يوما يساوي ألف شهر، ولكن عليه أن يعلم أنه لكي يتمكن من الوصول لذلك اليوم، يجب أن يعرف قدر كل يوم، وأن يبذل جهده في كل خطوة.
وذات يوم خرق صوت المؤذن سكون الحي، فأقبل الأصدقاء من كل مكان حتى امتلأ صحن المسجد بهم لحضور صلاة الجنازة. كان معروفاً لدى أهل الحي.. ذاك الرجل الذي فقد حياته أثناء ذهابه لعمله نتيجة ارتطامه بسيارة كان يقودها سائق مستهتر.. اصطفوا للصلاة عليه، وأثناء الصلاة فكر صديق له كان يحبه وينصحه دائما بأن لا يؤجل عمله لغد.. ذكر الرجل الذي لم يعط لأيامه أهمية وأمضاها بقوله دائما: “يوما ما”.
وعندما بدأت الجماعة في التفرق اقترب صديقه من التابوت، ووضع يده عليه بالرغم من نظرات الإمام وهمس قائلا: “أواه يا صديقي ألم تكن تعلم أن الموت يطاردنا وأنْ لا مناص منه، وها أنت اليوم تلقاه كما سنلقاه نحن من بعدك”..
ــــــــــ
الترجمة عن التركية بتصرف: د. سمير زهران، أديب إبراهيم الدباغ.