العِقد الأحمر

في لحظة عزلة وانفراد، وقف أبو الوفاء بن عقيل(1) يتأمل حاله وهو شاب أعزب، تتحرك في نفسه رغبة الاقتران بفتاة تبادله الحب وتشاركه أحوال الحياة بمسراتها وأحزانها، لكن كيف يبلغ مناه وقد حفت به أحوال الفقر والحاجة. لم يجد بدًّا من العفة والاشتغال بالعلم، فتناسى أمر الزواج وأقبل على طلب العلم الشريف. دخلت أشهر الحج فعقد العزم على الحج من عامه.

خرج أبو الوفاء من بلده “بغداد” وهو عالم شاب أعزب يأخذه الشوق إلى بيت الله الحرام… أحرم بالحج ودخل مكة ملبيًا، لا يكف عن ذكر الله تعالى وسؤاله من حسنة الدنيا وحسنة الآخرة. وبينما هو في الحرم المكي يؤدي المناسك، إذا به يجد على الأرض عقدًا أحمر من لؤلؤ نفيس جدًّا، فأخذه والتقطه… بعد لحظة سمع مناديًا ينادي: “يا معشر الحجاج، من وجد عقدًا أحمر فليأت به إلى مكان كذا وكذا وله مكافأة حسنة”. جاء أبو الوفاء إلى المكان المعين فوجد رجلاً وقورًا تبدو عليه آيات العلم والدين والورع والتقوى… وصف له العقد فعرف أنه صاحبه فرده إليه وترك المكافأة قائلاً: “إنما هو عقدك وليس لي منه ولا من مالك شيء”. شكره الرجل ودعا له بالخير وبـ”أن يعوضه الله خيرًا منه”.

قضى أبو الوفاء حجه ومكث بضعة أشهر بـ”مكة”، ثم عزم على العودة إلى بغداد… وفي طريقه إلى “بغداد” مرّ بمدينة “حلب” في بلاد “الشام”، فدخلها بقصد لقاء عالمها وإمام مسجدها الجامع وقد كان يسمع عنه وعن علمه وورعه… كان الزمان أول ليلة من رمضان، فأتى مسجدها الجامع فسأل عن إمامه فأخبروه أنه قد مات منذ بضعة أيام.

بعد يومين من مكوثه في “حلب”، وبينما أبو الوفاء يستعد لاستئناف سفره، جاءه نفر من أعيان البلد، بعد أن عرفوه وأخبروا بسعة علمه وورعه، فأشاروا عليه بالبقاء معهم في حلب يؤمهم في التراويح، ويعلمهم مما فتح الله عليه من علم ومعرفة.

أقام أبو الوفاء في “حلب” شهر رمضان يؤم الناس في المسجد الجامع، ويعقد درسًا للعلم والوعظ كل يوم… أعجب الناس بحسن تلاوته، وشدهم إليه سعة علمه وحسن وعظه، وقدرته على تحريك القلوب وتذكيرها بالله تعالى، فأحبه أهل حلب وتعلقوا به.

اجتمع أعيان حلب للتشاور في أمر المسجد الجامع وفي أمر إمامته، فاجتمع رأيهم على أن يستبقوا أبا الوفاء إمامًا لهم. وحتى تعظم رغبته في البقاء بـ”حلب” أشار أحدهم أن يعرضوا عليه الزواج من بنت إمامهم وقد تركها وحيدة لأنه لم يكن له من الولد غيرها.

في اليوم التالي وبعد صلاة العشاء رجع أبو الوفاء إلى منزله، فجاءه نفر من أعيان حلب، وبعد أن استأنسوا به واستأنس بهم تكلم أحدهم قائلاً:

– يا أبا الوفاء، جئناك لأمر عظيم عندنا نعرضه عليك ونرجو أن توافقنا عليه.

– خيرًا إن شاء الله.

– إن من فضل الله علينا أن جاء بك إلى “حلب” فأقمت عندنا شهر رمضان المبارك، وقمنا معك من الليل ما نرجو به لنا ولك الأجر العظيم عند الله تعالى، وأخذنا من علمك ما رغبنا في المزيد، وإن أهل حلب قد استأنسوا بمقامك بينهم وتعلقت بك قلوبهم.

– هل معنى هذا أنكم تطلبون مني البقاء في حلب؟

– أجل يا أبا الوفاء، يعز علينا فراقك، وأنت شاب أعزب، وإننا نشير عليك بالزواج، وإن شيخنا وإمامنا -رحمه الله- ترك بنتًا لم يكن له من الولد غيرها، وإن الله تعالى قد أتاها من الجمال والمال والدين والورع ما يرغب الرجال فيها، فإن شئت تزوجتها وأقمت عندنا وأنت بيننا صاحب الفضل الأسمى والمقام الأعلى.

– أشكر لكم حسن ظنكم وجميل عنايتكم، وأما ما طلبتم فلا جواب لي حتى أستشير وأستخير.

أقام أبو الوفاء أيامًا بعد ذلك يصلي صلاة الاستخارة يسأل ربه تعالى أن يلهمه الصواب، حتى أصبح يومًا وقد اطمأنت نفسه إلى الزواج، وتعلق قلبه بالفتاة التي وصفت له أشد ما يكون التعلق.

أبلغ أبو الوفاء الناس موافقته على المقام والزواج، فأعدوا له عرسًا يليق بمقامه وبدأوا في تجهيز العروس استعدادًا لليلة الزفاف.

دخل أبو الوفاء على عروسه… فلما نظر إليها سحره جمالها، وأخذ بقلبه استنارة وجهها وبهاء محياها وما يلوح من عينيها من سمات الحياء وعلامات العفة والصلاح. لم يشعر أبو الوفاء حتى سيطرت عليه دهشة الدخول… فإن لكل داخل دهشة كما يقال… فطأطأ رأسه فنظر إلى عنقها فإذا هو مزين بعقد جميل أحمر مثل الذي التقطه في “مكة”، فبدت على وجهه سمات العجب والدهشة! لما رأت العروس تغير وجهه فزعت وخافت أن يكون رأى منها شيئًا يكرهه. بعد لحظة صمت ووجوم، استعادت فيها العروس أنفاسها وتمالكت نفسها، فاستجمعت قواها لتسأله عن حقيقة الأمر.

– يا أبا الوفاء، أستحلفك بالله أرأيت شيئًا تكرهه؟ أرأيت مني شيئًا.

– ليس في الأمر شيء مما تقولين، وإنما عقدك هذا!..

– ما شأن عقدي هذا!؟

– لما رأيته ذكرت عقدًا مثله التقطته في “مكة” ورددته إلى صاحبه، وكأنه هو.

– أأنت هو!؟

فجعلتْ تبكي بكاء شديدًا… فلما هدأت من البكاء قال لها:

– أسألك بالله ما الذي أبكاك؟

– إن العقد الذي وجدته في مكة… والله إن هذا هو، وذلك والدي. وأما الذي أبكاني، فإنني ذكرت والدي وقد كنت بنته الوحيدة وكان يحبني أشد ما يحب الرجل ولده، وكنت كثيرًا ما أسمعه يدعو فيقول: “اللهم زوج ابنتي رجلاً صالحًا أمينًا، يكون في أمانته مثل الرجل الذي رد إليّ عقدي”… فكان الرجل صاحب العقد عندي في المقام الشريف أذكره كلما سمعت دعاء والدي فتعلقت به من غير أن أعرفه… وقد علمتُ الآن أن الله تعالى استجاب دعاء والدي فزوجني رجلاً أمينًا أحببته قبل أن أراه، فبكيت فرحًا من رضوان الله على والدي لما استجاب دعاءه، ومن رعايته تعالى لي بعد وفاته.

لم يتمالك أبو الوفاء نفسه من الفرح والسرور فانهالت دموعه، واحتضن عروسه، فجعلا يبكيان فرحًا باقترانهما على تقوى من الله ورضوان، ومودة بينهما وعناية الله تعالى بهما.

كان أبو الوفاء خير زوج لزوجته، وكانت له خير زوجة يجمعهما حب جميل ووفاء عظيم.

بعد بضعة أشهر من الزواج والعشرة الطيبة الجميلة، مرضت الزوجة ثم ماتت من مرضها. حزن أبو الوفاء أشد ما يكون الحزن، ثم سلم أمره لله تعالى.

لم يعد أبو الوفاء يطيق البقاء في “حلب”، فعزم على الرحيل إلى بلده “بغداد”… جمع الناس وطلب إحضار الورثة، فلم يكن لها وارث غيره. جعل أبو الوفاء ينظر فيما ورثه من الدراهم والدنانير وغيرها من المال والمتاع… ثم وقع نظره على العقد الأحمر فذرفت عيناه. فجمع العقد والميراث ثم رجع إلى بغداد.

ـــــــــــــ

الهوامش:

(1) هو أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 513 للهجرة. وهي قصة واقعية ليس فيها من زيادة ولا تعديل سوى ما يقتضيه فن القصص من استكمال الفراغ في بعض الأحداث.