تنسحب أشعة القمر الباهتة من الأشجار المتناثرة على مرمى البصر. يظل النور منتشرًا، يوشح صوت المؤذن السكون، يعلو قويًّا واضحًا، أصوات الديكة تكبر في تناغم. تتقلب في فراشها، أذرع الدفء تحيط جسدها بإغراء، يتسلل الهواء الربيعي من النافذة المفتوحة على الحقل، تتنشقه، يتواطأ مع الدفء. يكمّل المؤذن الأذان، تحرّك شفتيها بالدعاء، تسمع نداء يتصاعد من أعماقها، تختلط رائحته بالرائحة المحيطة بها، تفر بقايا النوم من أهدابها، تحس بانتشاء، تقفز خارجة إلى البئر لتتوضأ، وجدت صاحبتها سبقتها وأنهت وضوءها، بادرتها قائلة بمرح:
– هيا لم يعد متسع من الوقت.
تنفرد بربها في ركعتي الفجر، تنكشف طاقات النور والطهارة في أعماقها، تمسح غبارًا مازال متراكمًا. حين انتهت، وجدت الصفّ متراصًّا، كتفا الأم ملتصقتان بابنتيها، تلتحق بهنّ، تكاد تلمس أحاسيس الطمأنينة والسلام بيديها.
تترقرق الكلمات القرآنية جداول، تسقي جفاف الزمن القاسي، تركع، سبوح، قدوس، رب!.. تسجد، سبحان ربي الأعلى. قشعريرة منعشة تسري في كيانها كله، تتبلل الأرض بدموعها. تدعو، تغتسل، ترجو، تحس بنفسها خفيفة، تطير وتطير.
دعتها صاحبتها لقضاء أيام معها في قريتها المطلة على البحر. امتنعت في البداية، قالت لها؛ إنها مشتاقة إلى التلفزيون والسهرات العائلية الليلية التي تطول إلى أن تشرق الشمس، وأنها في حاجة إلى نسيان إحباطها وفشلها في النجاح، وفي الحب وفي المصالحة مع نفسها ومع من حولها، في حاجة إلى الغرق أكثر في محيط عائلتها.
والدها رجل أعمال وتجارة، ويقيم -بين الفترة والأخرى- سهرات يبرم فيها الصفقات برعاية أمها وقطرات أنوثتها التي توزعها على الجميع بالتساوي. في كل سهرة معهما كانت أمها قد علّمتها الرقص، وكانت تطلب منها أن تتفنن فيه كل ليلة معها. في البداية، أحسّت بالقرف حين تسلطت نظرات الساهرين على جسدها الذي يتلوى كراقصة محترفة، لكن بعد أن ذاقت أول كأس، تعلمت كيف تتجاهلهم، أو إذا أعجبها أحدهم بدأت تعرف كيف تجرجره طول الليلة وراءها.
كانت وحيدة والديها، وكانا يغرقانها في الترف، في الدلال… طلباتها أوامر، أصبحت تأتي بأصحابها إذا أرادت السهر، يحوم الجميع حولها. ومع كل هذا، كانت تحس بالضياع بعدم الأمان خاصة بعد أن سلّمت جسدها لمترف يتصابى، لم تفطن لذلك إلا بعد أن طارت أثر الخمرة من رأسها، أحسّت من بعد بمزيد من القرف والقلق، أرادت أن تبتعد عن هذا الجو بانغماسها في الدراسة الجامعية، إلا أن معظم أصدقائها التحقوا بالكلية نفسها، فانجرفت مع ممارسات أخرى أضافت إلى رصيدها من القلق والقرف والتوتر أضعافًا. سكنت مع صاحبتها الشهر الأخير من هذه السنة الجامعية في الحي الجامعي، بعد أن تشاجرت مع صاحب البيت الذي كانت تقيم فيه وطردها.
إلحاح صاحبتها ومعاملتها الطيبة معها -رغم الاستعلاء الذي واجهتها به حين انتقلت للعيش معها في الغرفة نفسها-حفّزاها على هذه الزيارة. لم تندم، فمنذ أن وطأت قدماها صحن البيت المتواضع، وطالعتها ابتسامة والدة صاحبتها المرحّبة، أحسّت أنها ستمضي أيامًا طيبة. واظابت على الصلاة في أوقاتها مع العائلة الصغيرة، كما واظبت على الجلسات العائلية. بعد صلاة المغرب مباشرة، يجلسون متحلقين حول الطيفور يتسامرون. الأب يحكي عن ذكرياته في مقاومة الاستعمار بافتخار واعتزاز، يذكر أنه رغم حداثة سنه، كان يساعد والده وجده، يقول كل مرة:
– مات والدي شهيدًا، لم يتلق جدي فيه العزاء، قال يوم دفنه: عزائي الوحيد هو خروج الاستعمار. حين بكته أمي، قال لها: بدل البكاء عليه، ارعي ولده واحرصي على تربيته وعلى عدم التفريط في شبر من أرضه.
وكانت الأم تحكي تفاصيل محبّبة عن حياة القرية، عن مواقف حاسمة وقفتها في تربية بناتها. ويدخلون في حوار شيّق ومتشعب إلى أن يسمعوا أذان العشاء، فيتفرق الجميع ليلتقوا مرة أخرى في الصلاة.
كانت تتأمل حياتها الماضية تحت الشجرة الكبيرة المتدلية الأغصان على باحة المنزل الأمامية، ترفرف حولها كلمات صاحبها: “لا تطوي الصفحة قبل تنظيفها”.
كانت الحمرة على مرمى البصر تغطي الأفق، والنوارس تحوم فوق البحر الممتد أماماها. تشاهد أفواجًا من الصيادين يتجهون بقواربهم نحو الشاطئ، تصلها أصواتهم الصاخبة، المتعبة. تتناثر الكلمات، الضحكات، النداءات، تصلها المعاني بعيدة متقطعة: “الرزق.. اليوم، الحمد الله، عشرة، تعبت، لن أبيع بأقل”.
تتأمل ضوء النهار المنتشر حولها، لم تعرف هذه السكينة وهذا الهدوء من قبل، تهمس بداخلها:”حياة بسيطة لكنها غنية بالقناعة والأمل، أرجو ألا تتشوه تطلعاتهم”. تراقب الشمس المتصاعد من البحر، زورق وحيد يتمايل على سطحه، ونورس واقف على مجدافه، ذرات متلألئة تحيل الصورة إلى لوحة رائعة متناغمة، متوحدة مع الكون، السكون المتماوج يضفي عليها صفاء عميقًا…
أحسّت أنها جزء من تلك الواحة تنخرط في تفاصيلها. فطيلة الأيام العشرة التي أمضتها مع صاحبتها في هذه القرية هي، تحاول إعادة ترتيب حياتها، استرجاع الصفاء الطفولي الذي تناثر بين رغبات متمردة أو شهوات مسيطرة. هتفت تناجي ربها في تضرع: “أحمدك يا إلهي إذ أذقتني حلاوة الإيمان بك بعد أن كانت الدنيا قد سدّت أبوابها في وجهي، لَكَم أنت رحيم يا ربي، هيّأت لي سبيل الرجوع إليك من غير حول مني ولا قوة سوى عطفك ورحمتك، فأتمم علي يا رب نعمتك وألهمني الصواب في كل أعمالي، فما لي سواك من يأخذ بيدي، أعنّي على المضي في طريق رضاك”.
كانت الدموع تسيل من عينيها على وجهها تحس بها، تتساقط دافئة في أعماقها، تغسل همومًا وأوجاعًا كانت قد بدأت في التناسل. الكلمات البسيطة ترفرف حولها كفراشات ربيعية تلوّن وجودها الجديد بألوانها نقية مشعة، تتنبه على حركات ضاجة من حولها، أصوات متداخلة تردد عبارات الترحيب. تفاجأت بوالديها يقفان أمامها، تسمرت في مكانها تتطلع نحوهما بذهول: كيف وصلا إلى هذا المكان؟
تقدمت نحوها والدتها مرددة “اشتقنا إليك”. تحتضنها، تشعر بدفء أمومتها الغائبة عنها منذ زمن طويل، تضمّها بشوق كما لم تفعل منذ مدة بعيدة، تتشبث بها، تحس بكتفيها العاريتين، يتشنج جسدها، يركبها الحياء من عري والدتها… تتطلع إلى وجه صاحبتها المشرق ابتسامتها الهادئة تقول لها: “هذه بداية الطريق فاصمدي، وهذه مهمتك فاثبتي”. تبادلها ابتسامتها، تهمس في أذن والدتها: “وأنا أيضًا اشتقت إليكما”، ثم ترتمي في حضن والدها بعد أن أثبتت الغطاء على رأسها.