الإنسان محور التربية والإصلاح رؤية في فكرة الأستاذ فتح الله كولن

يعدُّ الإنسان مركز الحياة فيما تدور عليه الأحداث وتتشكل به المواقف، ويسعى كثير من المفكرين والمثقفين في جميع جهودهم ونشاطاتهم، إلى ربطها بالإنسان محورِ الحياة. وليس ذلك بغريب، فإن الأنبياء منذ بعث الله آدم عليه السلام، قد كانت جهودهم متجهة نحو الإنسان؛ في بنائه وإعداده وتكوينه وتربيته وإصلاحه وتقويم سلوكه ومعالجة انحرافاته… وكيف لا يكون ذلك والإنسان هو خليفة الله في الأرض، حمّله الأمانة، وأناط به التكليف، فلا بد من الاهتمام به، والسعي نحو تحقيق قدرته وصلاحيته للقيام بهذه الأعباء.

وقد امتدت هذه الجهود واتصلت بخاتم الأنبياء والمرسلين سيّدِنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث استطاع بناء جيل نموذجي أسسه وفق هذه المنطلقات، وأعده ليكون النموذج الذي يمثّل الإنسان المستخلَف. وامتدت جهود العلماء والدعاة والمصلحين على خطاه وهديه صلى الله عليه وسلم، كلما ابتعد الإنسان عن هذا النموذج احتاج إلى من يعيده إليه ويقوّمه عليه، ولذلك كانت حاجتنا، لأن يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة دينها.

والتجديد ليس في الدين أحكامًا وقيمًا ومبادئ، ولكنه تجديد في هذا الإنسان الحامل لهذه القيم والمبادئ والأحكام. إنه تجديد تعميق وتغميق هذه الصبغة الإلهية؛ (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً((البقرة:138).

وفي هذا السياق، يأتي دور العَلَمين المصلحين المجدّدين؛ أمثال الشيخ الطاهر بن عاشور، والأستاذ المفكر فتح الله كولن. وإذا كان لكل علَم منهما تخصصه ومجاله واهتمامه وأفقه وعلمه وفكره، إلا أن القاسم الأكبر الجامع بينهما، هو الإنسان في تجديد دينه وفاعليته. لذلك كانت الروح التي تسري في أعمالهما ونتاجاتهما، هي تلك الروح البانية للإنسان، الناهضة به من رقدة الغفلة إلى نهضة الإيمان، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم، ومن سلطة الخمول والكسل إلى قوة النشاط والفاعلية، ومن تخمة العبثية والسلبية إلى قمة الجدية والانبعاثية، ومن جبن الهمة إلى علو الهمم وسموّها.

ولسنا هنا بصدد المقارنة أو الموازنة بين العلمين، لنقول إن فتح الله كولن عاش زمانه بهمومه ومشاكله فصنع لها الحلول النظرية والعملية، وأن الطاهر بن عاشور ضرب في جذور التراث الإسلامي فعاش فيه وبعثه من جديد ليعيش فيه جيل اليوم من بعده؛ فمن حيث أحسن تلامذة الأستاذ “كولن” ظُلم الشيخ الطاهر. لكننا نريد التأكيد على حقيقة واضحة جلية ظهرت في جهود الشيخ الطاهر، وتعمقت وتجذرت وتمكنت عند الأستاذ فتح الله كولن؛ تلكم هي صناعة الإنسان الخليفة.

أكد الأستاذ فتح الله كولن أن أهم مشكلة في المدنية المعاصرة، هي مشكلة تعليم الإنسان وتربيته وإعداده. ولأجل ذلك كان نتاجه العلمي والعملي منصبًّا في هذا الجانب، لتحقيق نظرته الأساسية لهذا الإنسان محورِ الحياة.

وإذا أردنا أن نفهم تصور الأستاذ حول هذه القضية، فلا سبيل -بعد قراءة نتاجه وجهده- إلا بالتركيز على ثلاثية فكره وعلمه، مضيفًا إليها إلهامه من كتاب “النور الخالد: محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية”، ويمكن رسمها على الشكل التالي:

وأقصد من ذلك، لفت انتباه الباحثين والدارسين لإعادة النظر في كتابات الأستاذ “كولن”، وتشكيل أبعادها الموضوعية، ليسهل تقريبها للعالم وتمكينُها في نفوس الناس، فهم اليوم بحاجة إليها حاجة الماء والطعام.

ونظرتي في كتبه عمومًا وكتبه هذه تحديدًا، هي ما أوحي لي بعنوان هذه المقالة التي قصدت منها أيضًا تقريب تصوره عن الإنسان محورِ التربية والإصلاح. ومن الضروري الحديث عن التربية وعن الإصلاح، هذين العنوانين الرئيسين اللذين يمثلان صلة فكر الأستاذ بالإنسان. لكن الأمر لا يتسع هنا، لذلك سأقتصر في حديثي هنا على أمور ثلاثة:

1- الإنسان في عالم الأستاذ كولن

يقدم “كولن” هنا صورًا أو نماذج أربع للإنسان:

أ- الإنسان الجديد؛ وهو من يسعى جاهدًا أن يتربى بهويته الذاتية، ويتزين بمقوماته التاريخية. الإنسان الجديد يملك طاقة بنّاءة وروحًا مؤسِّسًا، يبتعد عن النمطية بشدة. يعرف كيف يجدد نفسه مع الحفاظ على جوهره، ويعرف كيف يروّض الأحداث فتأتي لأمره طائعة خاضعة. يسبق عصره فيسير أمام التاريخ قُدمًا على الدوام؛ بهمّة تتجاوز حدود إرادته، وشوق عارم، وحب عميق، واعتماد بالله عظيم.

بـ- الإنسان المثالي أو الكامل؛ وهو المتحلّي بصفات ملائكية، هو بطل البصيرة وفارس الإدراك، هو المتنبه إلى الحقيقة الكبرى التي عبّرت عنها الآية الكريمة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ((التين:4). هو المدرك يقينًا أن الباري عز وجل قد خلقه في أجمل الأشكال المادية، وسوّاه في أروع الصور المعنوية، فكان بديع الصنع، متفرد الهيئة، تصدُق عليه حقيقة “أحسن تقويم” بكل ما يعنيه التعبير.

ومن أبرز سمات الإنسان المثالي -كما يرى كولن- أن عقله يموج موج الدّوامة بألف سؤال وسؤال، ويواصل التنقيب عن الحقيقة بنهم عجيب، ويغذ السير قدمًا لكي يفكّ شفرة ألف لغز ولغز؛ فتراه متوقّد الذهن، متوثّب البحث عن أجوبة للأسئلة الكونية الكبرى: ما الحياة؟ وما الموت؟ وما حقيقة الكون؟ وما علاقته بالإنسان؟ وما معنى العبودية لله؟ وماذا تعني الطاعة له؟ وما الإثم؟ وما الثواب؟ وما حقيقة المحن التي تلم بالإنسان؟ ولماذا تلمّ به؟.. في الوقت ذاته، تراه مشتعل الفؤاد قد شيّد من بوارق الحكمة التي لا تكفّ عن الوميض في سماء وجدانه، ومن نسمات الإلهام التي لا تنقطع عن تجلياتها في أرجاء روحه، صروحًا نورانية شامخة، ثم سما حتى بلغ قمة تلك الصروح فأبصر كنه الأشياء، واكتشف ملكوتها، وأدرك ما طوي منها وراء ستار المنظور، فاتجه إلى المصدر الحقيقي للروح، يغمره الحبّ وتهزّه الهيبة نتيجة تقلبه بين مدّ الحيرة وجزر الانبهار، ثم ذاب في نشوة من السكينة لا توصف، ولذة من الطمأنينة تسمو على كل تعبير.

جـ- الإنسان الداعية؛ ويشبه كولن الداعية كلوحة اتجاه ثابتة، يعلّم الصدق والصواب دائمًا. فكل من يعاين حياته ومعايشته يرى الصدق بسهولة ويجده على سيماه. والداعي المسلم الصادق يظهر أثر صدقه في وجهه وصوته. ولا شك أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعي وصوته، يؤثر في المخاطب ويحمله ذلك على قبول قوله واحترامه، إلا إذا كان عمى القلب قد بلغ منه مبلغًا عظيمًا.

إن الذي يريد أن يكون داعية فلا بد أن يلتزم بهذه القاعدة: أن يحيا المبلّغ بما يبلّغ، ويبلّغ بما يحيا، ذلك لأنه على الصراط السوي للمؤمن الحقيقي. والمؤمن الحقيقي يعني مَن بلغ إلى تكامل الظاهر والباطن، فلا تخالف بين الظاهر والباطن في هذا المؤمن. أما الحياة الازدواجية فهي صفة النفاق.

د- إنسان الفكر والحركية؛ إن أهم شيء وأشده ضرورة في حياتنا هو الحركية، فمن الضروري أن نتحرك على الدوام في ظروف قاهرة، نضع أنفسنا تحت ثقلها بأنفسنا لنحمل فوق ظهورنا واجبات ونفتح صدورنا أمام معضلات الحركية المستمرة والفكر المستمر… ومهما ضحينا في هذا السبيل، فإن لم نتحرك وفقًا لهويتنا الذاتية الأصلية، فسندخل في تأثير الدوامات الفكرية والبرنامجية لأمواج هجمات الآخرين وأعمالهم الحركية، ونضطر إلى تمثل فصول حركاتهم. والإسلام كان وما يزال حيويًّا وحركيًّا من كل جهة، كان يتوسع وينبسط في واقع الحياة ولم يؤجل النظر إلى أي مشكلة واجهته، كان يدخل أضيق المعابر في الحياة الفردية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

2- الركائز التي تقوم عليها تربية الإنسان

وفي جانب الركائز التي تقوم عليها تربية الإنسان عند الأستاذ فتح الله كولن يمكن أن نجملها فيما يلي:

أ- الإيمان الصادق بالله.

بـ- العبادة والذكر؛ والعبادة المقصودة تلك التي يتوجه بها الإنسان لله صادقًا مخلصًا، ومعناها قضاء الحياة بامتثال أوامر الله وتكاليفه. والذكر نوعان: الأول وجداني؛ أي أن يذكر الله بجميع أركان الوجدان. والثاني بدني؛ أي تحويل الأوامر الإلهية ونواهيه إلى حياة تمارس وتعاش.

جـ- العمل والعطاء والبذل؛ وأساسه التضحية والصبر.

د- الأخلاق بكل دلالاتها وقيمها؛ إذ هي ميزان الإنسان.

3- معوقات تربية الإنسان

والذي جعلناه في معوقات تربية الإنسان وسبل مواجهتها:

أ- التقليد والتبعية؛ ويقوّم بالرجوع إلى الذات الإيماني والاعتزاز بالإسلام.

بـ- الغربة والانفصال عن الهوية؛ ويقوّم بالرجوع إلى الذات الإيماني والاعتزاز بالإسلام.

جـ- الكسل وحب الراحة؛ ويقوّم بالهمّة والعزيمة.

د- الأنانية؛ وتقوّم بالعمل والإنجاز.

وهذه المعالجات تأتي تحت إطار “القابلية للإحياء والانبعاث”.

إذن، الأستاذ فتح الله كولن، يعطي هذا السر لتحويل الإنسان إلى كائن فاعل إيجابي، فيقول: “لا نقضي على حب الشهرة والمنصب الذي أودعه الله في الإنسان إلا عن طريق مشروع” فكانت الخدمة.

 

(*) كلية الشريعة ، الجامعة الأردنية / الأردن.