أيتها الأقدار الجميلة الحانية، لا تدعي قلبي في مهوى نسائم الحسن، لا تتركيه فريسة لسيطرة الجمال، لا تدعي جاذبية الطبيعة تعلق فيه أرسانها وتلجمه بخلابتها، فتجذبه متى شاءت لأن فيه روح المنجذب، وتعصره متى شاءت لأن فيه روح الليونة، وتشرّده متى شاءت لأن فيه روح الهيمان، وتصنع أحزانه الجديدة من أحلامه القديمة لأن فيه روح الغربة الروحية.

لكنكِ فعلت وأسلمتيه إلى فاتنة مسحورة، لأنها جنة.. ساحرة لأن في لمساتها روح الحب والصبابة.. تركتيه يهيم على وجهه في منفلق طودين أخضرين عظيمين، وراء كل منهما جنات معروشات، تصطف فيها أشجار غيناء فينانة وكأنها عذارى قائمات تحت جلال الكون، حافّات حول عرش الطبيعة المزدان. تركتيه يناجي ويقول: ها قد قدمت إليك مرة أخرى يا حبيبتي، متبعًا مكدودًا قد جف قلبه وغلظ فؤاده.. جئت إليك لتمسحي بجمالك أثر القسوة من حياتي، ولتسقي بقلبك الريّان قلبي الجديب، ولتبصِّ فيه من شعلتك الوهاجة شعاعة نور، تنير له الحياة وتشد من أطرافه المتداعية، فيمضي نابِهَ القلب بوفرة إيمان يتوقد.

تلك أشجار، وهذه ورود، وتلك سماء، وهذه قطعان سحب، وتلك شمس، وهذه رائحة الزهر.. فيا أيتها الأشجار أورقي في قلبي فإنه قد جف منذ أيام، وألبسيه من ضبابتك الخضراء فإنه عريان، واسقيه من عصارتك الحية عسى أن يورق بالإيمان ويثمر بالسعادة الحقة.

يا أيتها الورود انفحيه بمسك الخلود العاشق، وامنحيه من ابتسامتك الفتية، ولوّني قلبه بنضرتك الزاهية، عسى أن يرى أيامه ورودًا تليها ورود.. ويا أيتها السماء الصافية الأديم، إن زرقتك الزجاجية الراكدة سيل جمال، يصب من الغيب إلى قلوب العشاق، فامنحينا منها قطعة يتنضر بها فؤادي، ويتغير بها شعوري نحو الوجود، وأكسب من صفائها صفاء العيش في رحلتي الأرضية المحدودة.. ويا قطعان السحب المرحة في جو السماء، أما تمنحيني دفقة من مُزنك الطاهر يغسل خواطري، ويشعرني بروح الماء العذب في هجير الحياة؟ ويا أيتها الشمس المشرقة بنور ربها، ما أسعدني لو منحتني شعاعة من نورك المبتسم، تعلق بفؤادي ليقتات منها إيماني، ولتكون حياتي مبصرة أمام كل دجنة سوداء.. أما أنت يا رائحة الأزهار فحسبي منك أن تكللي نشوتي بأفراح روحي.

تلك مظاهر الحسن في حبيبتي المسحورة، حقول وراء حقول، أشجار وراء أشجار، ورود وراء ورود، طيور في السماء وراء طيور.. حتى أشعة الشمس الضاحية قد انساحت بنورها، وانبسطت في فتنة ودلال تغازل أفراحها منثورات روضتي البديعة.

في كل نظر منظر، وفي كل منظر فكر، وفي كل فكر شعور، وفي كل شعور سعادة إيمانية، وتحت السعادة الإيمانية يجري نهر السر الأعظم: (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)(طه:7).

 

(*) شاعر وأديب مغربي.