أطياف الفكر الإنساني فوق عتمات الهواجس

العقل نور والفكر مصباحه الذي ينير عتمات الوجود، وهو فيض من النور الإلهي الأعظم الذي أنار صفحة الكون جمالاً وبهاء وجلالاً، يبصر به الإنسان الخطى وتتضح له مسالك الدروب، ويستيقظ به من سكرة الخيالات المتخمة بالشك والحيرة، كما يرتقي به من المطالب البهيمية التي لطالما حَجَرت على العقول وأذهبت لبها، وأتعبت الأجساد باستفزازاتها المستمرة للرغبات وتسعيرها المفرط للغرائز.
عقل الإنسان أعجوبة الزمان هبة ربانية فريدة، أودعها البارئ جل في عليائه في هذا الكيان الإنساني، وجعله يعمل وفق نواميس فُصِّلت على مقاسه ضمن حدود وقوالب محكمة، إذا تجاوزها أفل نجمه وقلّ لمعانه وفسد مطلبه وأفلست وظيفته.. وأيّ وظيفة للعقل سوى تبصر الأنوار الإلهية التي تشع في أرجاء الكون ما علــمنا منه وما لم نعلمه، وفقه دلائل صنع الله المعجزة الدالة على تفرده بالخـلـق، ووحدانيته في الذات والصفات.

ما هي وظيفة العقل؟

إن وظيفة العقل الفكر، ووظيفة الوحي الإلهي بجوار العقل إحياء وإعلاء وظيفته، وعليه فإن الحياة بلا فكر جوفاء عمياء، بل وجود الإنسان بلا فكر وتبصر وجود عدمي. إن الفكر هو الذي يعطي للوجود المعنى ويصحو في الإنسان فيبقيه متبصرًا فطنًا، والوحي يرسم معالم الوجود وينير الإدراك ويضخ فيه الحياة، بل هو الروح التي تسري في الفكر فتزهر الحياة.
هكذا هو الإنسان كائن مفكر -قبل أن يكون شيئًا آخر- يجاور كائنات أخرى، وما الفكر إلا عمل العقل وترجمان الروح وهواجس وخيالات وتبصرات وخواطر يكونها الإنسان من نظرته للوجود والحياة، وينسجها الوحي وتنظمها الفطرة حتى لا تنفلت أو تنفرط، ولا ينتهي وجود الإنسان حتى تنطفئ الهواجس والخيالات التي تقبع فيه. وتلك الهواجس المستنيرة بنور الحق هي التي تفتح له آفاق الإدراك لمعالم الوجود الذي يحيا فيه، وتحدد له نوع المصير وترسم له التطلعات وتذوقه الأشواق والرغبات الملتزمة.. لذلك كان لا بد أن تحتكم الخواطر وتنضبط الهواجس وتستقيم الخيالات، حتى يلزم هذا الإنسان الرشد في الحياة ولا ينقلب وجوده إلى العبث بله العدم.
لا بد للفكر -إذن- من نبراس يستنير به، ومن معايير تحكمه، ومن قيم تؤطره مهما تنوعت الرؤى واختلفت الهواجس وتشابكت الخيالات. وليس الفكر عمل عبثي غَوْر المورد ومفصول السياق ومنزوع المقصد، يعني ذلك كله أن الفكر صناعة وبرمجة للخواطر والتصورات يثمر سلوكيات واتجاهات في الواقع قد تعلي الإنسان وقد تزري به، وكل الإنجازات والممارسات الإنسانية سواء أكانت رشيدة أو تائهة، أولها فكرة مختمرة في الوجدان، غير أن للرشد أطيافًا كما للتيه عتمات.

أجود صناعة للفكر

إن الفكر الرشيد هو ثمرة التفاعل بين الوحي والفطرة النقية والنظر الحديد، وهي أجود صناعة للفكر وأرقى طراز له، لأنه بذلك ينهل من خبر السماء ومن وحي النبوة ومن ندى الإيمان واليقين، ليؤسس النظريات ويحدد الاتجاهات ويصوغ المنطق. وبالمقابل فهو فكر يحتكم للفطرة ويصغي جيدًا لنداءاتها، لأنها الجِبْليَّة التي طبع عليها الخلق وطبعت معه جميع أسراره فيها. إنها السجل العتيق واللوح المحفوظ الذي يحتضن كل القيم والحكم والمعاني الإنسانية النبيلة المبثوثة في هذا الخلق، وتبقى في نهاية المطاف، المرجع والملاذ والمحتكم عند اضطراب أمواج الفلسفات وتنوع الاتجاهات وزيغ الأهواء والرغبات.

إن صوت الضمير الإنساني المستنير بالوحي هو معدن الحقيقة وجوهر الحق والمرشد إلى الصواب حتى وإن تعامينا أو ضللنا أو غفلنا وأصابت بصائرنا غشاوة من فرط عتمات الهواجس والأشواق المستعرة.

إن أمواج الفكر السائدة اليوم، وسيول الكلمات المعبرة عن سقم هذا الفكر، وما يحملان من تصورات مائعة، لم تجر الإنسانية حقيقة إلا إلى الاضطراب والقلق والحيرة والشك، فلا مقصد ينجلي ولا مصير يعتلي الأفق، لأن المعاني والأسرار والقيم المبثوثة في سجل الفطرة، والتي من المفروض أن تحكم الفكر وترشده، قلبت موازينها ومجتها الأفهام المعاصرة، وصارت الرغبات الزائفة، والأذواق المجنونة، والانبطاح أمام سلطان الشهوة الجامحة، هو الذي يوجه الفكر ويبني التصورات ويحبك المعاني وينسج الخيالات التي لا روح فيها غير خدمة الجسد.
لا يعكر صفاء المنطق ويطفئ جذوة المجد والعلياء، إلا التوسد على فضلات فكر منحط مغرق في المطالب البهيمية، التي أبت أن تفهم وتتعقل أشواق الروح وتيجانها، واحتساء عصارة حضارة سلبت الألباب وأزاحت عنها رشدها.. هكذا صارت قصة الإنسان أمام جرافات الفضائل ومهلكات الأذواق. وعندما يخبو بريق الأشياء الفارغة من المعنى، والتي لطالما أغرت وفتنت وسعرت الغرائز حتى أنهكت القوى، آنئذ يشع نور فريد يسري في القلوب المشتاقة للرشد والمجد، التي كانت جوفاء محطمة الأركان، فتمتلئ فطنة ونباهة وتثمر رشدًا وتؤدة.. إنها الولادة المنتظرة في زمان ضاعت فيه معاني الإنسانية الأصيلة.

ألعوبة فوق ظهر الزمان

تتعطل الأفكار وتفسد الرؤى وتموج الهواجس الحائرة كلما تمرغ الإنسان في الشهوات المهلكة وسكر من شراب الهيام للأشياء الفارغة، وقادته الأشواق المجنونة التي قدست الجسد حتى أوصلته إلى الهلاك والإفلاس المعنوي؛ آنئذ يتحطم الكبرياء الإنساني وتغيب كل المعاني الشريفة، فيصير المسكين ألعوبة فوق ظهر الزمان تلتقمه أمواج التيه والضلال، وتلفظه حينًا فلا يقوى بعدها المسكين أن يجثم على ساقه لكثرة الأثقال التي أوجعته وأنهكت قواه، لا مصير يلوح في الأفق ولا هناء يسعد به، ولا أمل يتطلع إليه، وهل بقي له من إفلاس؟
إن عمى البصيرة أنكى وأشد من عمى البصر، لأن العين لا ترى إلا الأشياء وهي جمادات صماء مهما طاش بريقها، ولكن روحها تقبع في الوجدان، والفكر هو الذي يصبغها جمالاً وحسنًا وبهاء وحركة مستمرة، ويعطي كل مبصَرٍ المعنى الذي شرف به، وإذا استقام الوجدان وتناسق مع الميزان الذي يوزن به الإدراك، أخذ كل شيء حيزه الذي يليق به في سماء وأرض هذا الكون البهي.
عندما تنهار منظومة القيم الأصيلة المؤسسة للفكر الرشيد، وتنهد معالم الفضائل، ويستأسد العبث، ويتغول الطيش، يفقد السلوك الآدمي البوصلة وتضيع مقاصد الأعمال وتفسد النوايا.. وعندما يتشرب الوجدان كل هذا تظهر على الوجود كائنات غريبة شكلاً ومضمونًا ومنطقًا، تأبى أن تفهم أو تتعقل أن المجد والشرف والكبرياء والشموخ والاعتزاز الأممي والحضاري عبثًا ينشد إذا لم نحكم نوازعنا، وأشواقنا بالمثل العليا التي تعلمناها من رسالة السماء.

الضمير المستنير بالوحي

وعندما يلمع بريق الحق لدى العقول المتعطشة للرشد، ويزهو في مخايلها الإيمان، وتتشرب الخواطر كلمات الهدى، وتختلط الهواجس بنور السماء، يصفو المنطق وينجلي الخبل الذي ران على الأذهان، ويصدر الفكر إشراقات وأطيافًا جليلة تضيء حلكة السماء؛ فتترسم معالم الرشد، وينفجر ينبوع الحكمة فيستحيل عبارات ثقيلة مهيلة وبيانًا يسحر الألباب، وتتناسل الأفكار والخطرات والتبصرات التي لا يعقلها إلا من تشرب الإيمان وذاق حلاوة الذكر وذلك بداية الرقي الفكري الإنساني المأمول.

إن الفكر الرشيد هو ثمرة التفاعل بين الوحي والفطرة النقية والنظر الحديد، وهي أجود صناعة للفكر وأرقى طراز له…

عودًا على بدء، إن الكون نظام جميل معقد التركيب وبسيط الإدراك والفهم، وهو نموذج للحياة التي ارتضاها المولى جل في عليائه للإنسان وغيره من الكائنات، وأخاله عالم من جملة عوالم محكمة الصنع من الحكيم العليم، لذلك عندما نرتقي بفكرنا لفهم مقاصد الحياة وسر هذا الوجود الكوني الفريد؛ تصير خطى وحركات الإنسان متطابقة مع خط الزمان ورحابة المكان، وتستقر الأنفاس وتصحو الضمائر ويستيقظ الإحساس بالخالق العظيم، وتتجلى أنواره القدسية في الفكر والمنطق والسلوك وكل حركات وسكنات الإنسان.. فلا تعب ولا نصب ولا إرهاق ذهني في البحث والتفلسف عن واجد الوجود، ولا خيالات تائهة أو تصورات تشكو ضعف الرؤية، أو خواطر بليدة تجتهد محتشمة لصياغة معاني الوجود والمصير. ولكن بمجرد ما يصحو الشك، ويستأسد الإلحاد، ويطغى الجحود، يتحول السلوك البشري إلى الفوضى ثم الضلال، ويتبعثر كل شيء فتختلط الأوراق، وينقلب الوجود الآدمي حتى يغدو أشبه ما يكون بالكائن الطفيلي الذي يفسد كل شي، فيُصَيّر الحلو مرًّا، والنهار ليلاً، والفجر والإشراق ظلامًا وتيهًا.. بترسانة مصطلحات تنضح بالتدليس على الفكر الرشيد، وفي قالب فلسفة عمياء أغرت فأضلت، معتقدة أنها حاملة للفتح مخلصة من الأساطير ومرشدة للحقيقة.
إن صوت الضمير الإنساني المستنير بالوحي هو معدن الحقيقة وجوهر الحق والمرشد إلى الصواب حتى وإن تعامينا أو ضللنا أو غفلنا وأصابت بصائرنا غشاوة من فرط عتمات الهواجس والأشواق المستعرة. إن صحوة الضمير، السبيل الأوحد لارتقائنا ولزوم رشدنا، إنه الوقود الذي ينير أطياف الفكر الإنساني، فتنجلي عتمات الهواجس والخيالات وما ولدته من رغبات وأشواق هابطة أبطأت خطى الإنسان في مسيرة الزمان.

(*) كاتب وباحث مغربي.