نقض المعاهدون معاهداتهم، وتمرَّد الخاضعون… رأى الصبيُّ السلطانُ دولتَه يتنازعها أعداؤها وتنهشها ذئاب الطمع. فأرسل لأبيه -الذي تخلى عن العرش- يطلب منه العودة لمواجهة الخطر القادم، راجيًا أن يقف مدافعًا عن أوطان أمته، إلا أن الأب الزاهد، أرسل لولده رسالة يقول فيها: “الدفاع عن الأوطان من واجبات السلطان”.

عندها كتب السلطان محمد الثاني البالغ من العمر أحد عشرة سنة رسالة وجيزة قائلاً فيها: “إن كنتَ أنت السلطان فعُدْ واجلس على عرشك وقُدْ جيشك، ولكن إن كنتُ أنا السلطان، فآمرك أن تعود وتجلس على عرشك وتقود جيشك”.
لم يستطع السلطان العثماني “مراد الثاني” أن يخالف نجله… لم يستطع أن يغض الطرف عن جيشٍ قوامه تسعون ألف مقاتل يزحف نحو السلطنة… لم يستطع تجاهل نقض العهود والارتداد والنكوص والاستهانة بدولته. كما أدرك أن صناعة السلاطين لا تتحقق بمجرد تمكينهم من العروش.
عاد ثانية إلى العرش وتولى شؤون الدولة. وسرعان ما شرع يتدبر أمور رعيته وجيشه، ويعد العدة لمواجهة زحف الغدر القادم عليه. اصطحبَ وليّ عهده الذي كان سلطانًا بالأمس، وولّى نحو جيوش التحالف القادمة بقيادة “لادسلاس” من المجر، وبولونيا، وألمانيا، وفرنسا، والبندقية، وبيزنطة، وبروجنديا.

كان “لادسلاس” ملك المجر، قد وقَّع مع “مراد الثاني” سلطان الدولة العثمانية معاهدة صلحٍ أقسم فيها بالإنجيل على حفظ بنودها ما دام حيًّا. إذ كانت المعاهدة تنص على وقف القتال لمدة عشر سنوات، وذلك ابتداءً من الثالث عشر من يوليو عام 1444م. إلا أن “لادسلاس” انتهز فرصة تخلّي السلطان “مراد الثاني” عن العرش، للانقضاض على السلطان الصبي الذي لم يكن يملك الخبرة الكافية في إدارة الدولة. فجهز التحالف الأوربي وزحف نحو السلطنة العثمانية.

عبر السلطان “مراد الثاني” مضيق البوسفور متكئًا على كتف ولي عهده الصبي، وزحف قاصدًا قوات التحالف المتهجمة عليه. وصل “فارنا” ليلة السابع والعشرين من رجب سنة 848هـ. واندلعت في اليوم التالي (العاشر من نوفمبر عام 1444م) معركة ضارية حرص السلطان “مراد الثاني” على أن يرفع خلالها وثيقة المعاهدة التي وقعها مع ملك المجر “لادسلاس” على سن رمح، ليُشهد الجيشين ويذكرهما بنقض ملك المجر والأوربيين لها. ثم جرَتْ مبارزة بينه وبين “لادسلاس”، قُتِل فيها الأخير. وما لبث ان فرّ قائد جيوش التحالف الأوربية “هونياد” تاركًا خلفه جُلَّ جيشه أسرى.
عاد “هونياد” بعد أربع سنوات بحملة عسكرية أوروبية جديدة على العثمانيين، قوامها مائة ألف جندي.
اصطحبَ السلطان “مراد الثاني” مرة أخرى وليَّ عهده الذي أصبح شابًّا، متوجهًا نحو سهل “قَوْصُوَة” المعروفة الآن باسم “كوسوفو”. وصل جيش العثمانيين إلى “قوصوة”، واحتدمت المعركة لثلاثة أيام متواصلة (من 17-19 نوفمبر 1448) حسمها العثمانيون لصالحهم، وفرّ “هونياد” ثانية، تاركًا خلفه سبعة عشر ألف قتيل وعشرات الآلاف من الأسرى.
تعددت معارك السلطان “مراد الثاني” دفاعًا عن دولته وحفاظًا لأبناء وطنه. وأشهدَ وليَّ عهده كيف يعتني وليُّ الأمر بشؤون دولته؛ فشيد المساجد والجوامع، والمدارس والتكايا والزوايا، ودور الضيافة والخانات والجسور… ومهّد الطرقات، وأعدّ الجيوش، وأرسل السفارات والرسل للممالك والإمارات المجاورة… علّمه كيف يَعدِل بين رعيته ليضمن ولاء الجميع على تعدد مشاربهم وعقائدهم… علّمه كيف يفي بعهوده، وكيف ينتقم ممن يخونون عهده.
علّمه كيف يجنح للسلم ولا يتردد في الحرب ما دامت لصالح دولته وأمته… وجاء يوم الثالث من فبراير عام 14511م، شبَحُ الموت يطوف في سماء “بورصة” حتى لقي السلطانَ مراد في عمره التاسع والأربعين… دُفِنَ مراد الثاني حسب وصيته في مدينة “بورصة” في قبر بسيط مكشوف لا تعلوه قبة.
مات السلطان الزاهد في الحكم والحياة… وعاد ولي عهده لعرشه من جديد، ليصبح واحدًا من أكبر وأهم سلاطين العالم… ومَن ذا الذي يستطيع أن يربي ولدًا غير “مراد الثاني”، كــ”محمد الفاتح” الذي فتح القسطنطينية (إسطنبول) -بإذن ربه- ونال بشرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاة أبيه بعامين؟!