الكتابة عن الإبل في كتابات الرحالة موضوع متشعب، وبه اتجاهات كثيرة، إذ نقل كل رحالة رؤية مختلفة عنها، رغم ذلك اتفق الجميع على أهمية هذا الحيوان لحياة البدوي في الصحراء، فهو أثمن ما يملك في حياته القاسية. فليس حليب النوق وحده هو ما يجنيه البدوي من فائدته، فهو طوق نجاته في بحور الرمال العظيمة، ومصدر مأكله ومشربه وملبسه.
ولقد رصد الرحالة مظاهر الذكاء واللطف والحنين والشوق عند هذه الأنعام، ورصدوا كذلك مظاهر تعامل البدو معها، ونظرتهم لها على أنها مقياس الثروة البدوية في مجتمع لا يعرف العملات المعدنية أو الورقية، ولهذا كان الوسم لأجل تمييز قطعان كل قبيلة وعشيرة عن غيرها . يصف “ويليام سيبروك ” الجمل، بأن له أهدابًا كثيفة على جفنيه الأعلى والأسفل، وهذا ما جعل عينيه تبدوان إنسانيتين على نحو غريب.. وبره لين ناعم، جعد وكث على السنام وأملس على باقي جسمه، مخمطه طري، ونَفَسَه طيب، وبطنه صلب ومتين. ويُضيف “لوي جاك روسو” ، أن جمال العرب ليس لها سوى سنام واحد، وأجسامها مجردة من اللحم (أي إنها ضعيفة)، وهي كثيرة الشثن (أي غليظة الجلد)، ورغم قوتها فهي كثيرة التقرح، معرضة للآكلة ولأمراض أخرى عديدة بسبب كثرة السفر والتعب والحرمان.
إذا مات الجمل في الأماكن الجرداء النائية مات صاحبه، ولهذا يُولي البدوي الإبل الاهتمام الخاص. والجمل هو الرفيق الوديع للبدوي.
وتبلغ مُدة الحمل عند الإبل اثني عشر شهرًا، وتُرضع الناقة صغيرها سنة كاملة. ولكي لا يرضع الحوار كميات كبيرة من الحليب، يربط البدو نهايات أثدائها بقطعة مستديرة صغيرة من الخشب يُطلقون عليها مسمى “توداه”، وبخيط مجدول من الصوف أو من شعر الجمل الناعم يُسمونه “جميعة “، ويضعون طبقة رقيقة من الروث تحت الخيط لكي تحول دون إصابة الحلمة بجروح.
ولأجل فطام الحوار عند بلوغه السنة، يضع له صاحبه في أنفه قطعة من الخشب مُدببة، فإذا ما أراد الرضاعة وخذت الأم ما يُسبب نفورها وطردها صغيرها بنفسها، وتُجبره على الفطام. ولا يُسمح للأمهات بأن تُرضع أولادها أثناء الرعي، إذ يُحتفظ بحليبها لأفراد العائلة البدوية التي تُشارك الوليد فيه، وتُحلب مساءً عند عودتها من المراعي، ويُترك الوليد بعد ذلك معها ليلاً، ثم يُعزل عنها. وقد تُرافق الأمهات أولادها، وفي هذه الحالة تُلف قطعة قُماش حول أضرع الناقة الأربعة كي تمنع الوليد من رضاعة أمه، وتُسمى ” الصرار” .
غريزة الحنين للأصدقاء عند الإبل أقوى من جميع الحيوانات الأخرى، فيذكر “ديكسون” أن البدو إذا ما أرادوا بيع إحدى النواق رافقوها بأخريات، وما إن يتمّبيعها حتى يُغادروا على الفور مُتسللين مُحاولين عدم السماح للمُباعة أن تحس بنواياهم، وذلك كي لا تشعر بالحنين. وتظهر هذه الغريزة خاصة لدى الإبل الصغيرة السن التي لم تعتد على مغادرة الديار التي عاشت فيها مع بقية القطيع منذ ولادتها، ولم تألف الأماكن الأخرى.
والوسيلة الوحيدة للتغلب على هذه الغريزة، هي تقديم الطعام والماء. وإذا ما فقدت الناقة ولديها، فهي لا تهدأ من الحنين، ولهذا يُطلقون عليها “الخلوج” نظرًا للأهمية الهائلة للجمل عند البدوي من جهة، وللغنى الواسع الذي تتميز به لغته من جهة أخرى، فإن لديه عددًا لا حصر له من التسميات لكل نوع من الإبل، ليس فقط حسب العمر والعرق، وإنما كذلك حسب الخصائص، والعلامات المميزة، وحسب الظروف الخاصة التي يمر بها. ولكل صاحب لون منها تسمية خاصة، وهذه الأسماء يُتقنها كل بدوي، وبسهولة بالغة يستطيع أن يُميز بين الجمل المُستخدم لحمل الأثقال، والمُخصص للركوب، إذ إن الأول ثقيل وضخم وبطيء، والآخر خفيف الحركة وسريع .
ولكل جمل اسم يعرفه جيدًا، وخصلة من خصال الشجاعة، أو الحذر، أو سلاسة القيادة؛ فـ” الحلوة” ناقة بيضاء اللون، لطيفة وأليفة ومُطيعة، أما ” الحمراء” فهي طائشة ومغرورة، أما “حذيران” فجمل صاحب شخصية متميزة، فخور بنفسه وبقوته وفهمه الراقي، وصاحب رأي يفرض الاحترام كأنه يتفاخر بأنه هو الذي يسير في مقدمة الركب الذي وافق على أن يكون “حذيران” هو القائد والزعيم، وبقية الإبل تتبعه.
والإبل الأصيلة عند البدو هي العُمانية والباطنية والحرة والأرضية؛ وأفضلها العُمانية، وتعود أصولها إلى ساحل عُمان، وتستطيع أن تسير بوتيرة 14 ميلاً في الساعة دون أن تُغير تصل إلى من سرعتها لمسافات طويلة في كل الأحوال والظروف، وتبقى على الدوام رافعة الرأس ممدودة العُنق. وأجملها الباطنية التي تتميز بعلو القامة وبرأسها الصغير وبجبهتها العريضة، بأنفَيْها الصغيرين، وأذنَيْها الطويلتين نسبيًّا، تُشبه حركتها حركة الغُزلان، وتمتاز بسرعتها الفائقة. أما الحرة فتربى في المناطق التي تنتشر فيها قبائل شمر وعنزة، وتعود أصولها إلى قبيلة الشرارات. وترجع الأرضية إلى أواسط شبه الجزيرة العربية.
ويذكر “لوي جاك روسو ” أن الجمل يتمتع بالذكاء، ويحتفظ بذكريات مُعاملة صاحبه القاسية، والويل للغريب الذي يُحاول إزعاجه، فإنه ما إن تسنح له الفرصة حتى يطرحه أرضًا ويسحقه تحت خُفه. ويُشير ” دبوريه ” إلى أن البدو يتعلمون من الإبل، عندما تهب ريح الشمال الحارقة التي تحمل معها أبخرة كبريتية وتيارًا من الهواء لا يرتفع عن مستوى الأرض أكثر من أربعة أو خمسة أقدام، وتتفادى الجمال هذه البلية بغريزة عجيبة. وقد تعلموا منها كيف يقوا أنفسهم من هذه الرياح عند هبوبها، وذلك بالانبطاح على الأرض، وأن يُغطوا رؤوسهم تحت رمال الصحراء الجافة والحارة .
ويروي “نواب حميد” قصة ناقة فقدت وليدها بعد ولادته، فأولعت بصبي – ابن راعيها – واعتبرته صغيرها، وبالرغم من مرور ثلاثة أشهر على فقدانها صغيرها، فإنها ما تزال مُتعلقة بالصبي وتتبعه أينما سار، وإذا ما تظاهر أحد بأذيته فإنها تُظهر غضبها، وتركض وراء مؤذيه، ولا تُدرّ الحليب في الصباح والمساء ما لم يلمس ضرعها أولاً.
ورغم وصف “آن بلنت” للجمل بالغباء وسوء الطبع، نراها تذكر أنه حيوان مقتصد لقوته، ويعرف قيمة الوقت، ولا يُضيع أية لحظة، وكثيرًا ما يُصغي إلى نداء سيده، وعندما يرصد نيران المخيم، فيراها مشتعلة يعرف أنه قد حان وقت المبيت فيشق طريقه ببطء إلى المضارب لينيخ بإرادته لكي يحصل على نصيبه من الفول أو كومة من بذور القطن، ثم يجتر ما مضغ حتى الصباح.
الإبل سر الحياة في الصحراء كما يقول “برترام توماس” ، فهي الوسيلة الوحيدة التي تنقل المسافر إلى النجاة. فإذا مات الجمل في الأماكن الجرداء النائية مات صاحبه، ولهذا يُولي البدوي الإبل الاهتمام الخاص. والجمل هو الرفيق الوديع للبدوي، إذ يكتفي لطعامه بالشوك والحسك، ويتحمل الأتعاب، ويُقاوم أصعب ظروف الطبيعة، كما يتحمل العطش لأيام عديدة، وهو بذلك يُساهم في التخفيف من تعب صاحبه المتجول.
يذكر “ديكسون” أن سرعة المسير العادية للذلول تبلغ 4 أميال، في الساعة كما تبلغ 6 أميال ما بين المشي السير خببًا، و 13 ميلا في السير السريع لمسافة قصيرة، و10 أميال في السير السريع لمسافات طويلة.
أما سرعة الإبل في قافلة مُحملة فتصل إلى 3 أميال في الساعة، وعند السفر لمسافات طويلة يتمّ التوقف كل 20 ميلا، أما ما يُعرف منها “بالهجن”، فإنه يستطيع بسهولة قطع مسافة 20 فرسخًا في ساعات الصباح.
ومع دخول وسائط النقل الحديثة إلى البادية تقلص دور الجمال في عملية النقل. ويذكر “أوبنهايم” أن تربية الجمال تراجعت تراجعًا شديدًا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، لأن الطلب عليها تناقص بشدة، فانخفضت مبيعات العشيرة من 35 ألف جمل إلى قرابة 12 ألفًا عام 1908، ثم حوالي 8 آلاف فقط عام 1927.
ويُشير “داوتي ” أن النوق تُحلب مرة واحدة في اليوم عند المساء، وقد تُحلب في الصباح لشخص مريض أو غريب، أو في أثناء النهار لعابر سبيل . ويقتصر شراب البدو على الماء ولبن الإبل والضأن والماعز بأشكال مختلفة.
ويتدبر البدو أمر العطش حينما ينفد الماء حسبما يذكر “ألويز موزيل” ، بأن يحصلوا عليه بذبح أسمن جمل، ويأخذوا كرشه ويضعوه على عباءة، ثم يضغطون عليه حتى يصب ما بداخله من السوائل إلى قربة من الجلد، ويدعوه فترة لتبرد هذه السوائل وترقد. وليس بينهم من لم يتذوق الماء على هذا النحو على الأقل مرة واحدة.
إذا ما فقدت الناقة ولديها، فهي لا تهدأ من الحنين، ولهذا يُطلقون عليها “الخلوج”.
وعندما تقطع القبائل البدوية صحراء قاحلة لا تتوافر بها المياه؛ فإنهم ينتقون عددًا من الجمال ويرونها بكمية كبيرة من الماء 17 جالونًا، ثم تُقطع ألسنتها أو تُحاك مشافيرها حتى لا تصل إلى يختلط الطعام مع الماء، وعند الحاجة يذبحونها ويستخرجون الماء من بطونها، حيث يكون صالحًا للشرب إذا ما تُرك لبضع ساعات.
يصنع البدو من صوف الغنم ووبر الإبل العباءة أو البشت، وتتمثل في معطف واسع مفتوح من الأمام، مستطيل المقطع يحمل فتحات للأيدي، وأجودها المصنوعة من الوبر، وأشهرها المصنوعة من صوف الضأن، وقد يكون نسيجها ناعمًا رقيقًا أو خشنًا سميكًا. والنساء في شمر يرتدين فوق ملابسهن في الشتاء -شأنهن شأن الرجال – جاكيته سميكة من وبر الإبل.
تتكون خيمة البدوي أو بيت شعره في شكلهما البدائي، من عدة قطع عريضة منسوجة من شعر الماعز ووبر الإبل. تقوم النساء بغزله ويستعملن لهذا الغرض ” المغزل”. ويحتوي قسم النساء “حجرة الحريم ” في البيت البدوي، على كل لوازم البيت المحفوظة في الجوالات الصوفية المسماة بـ”القش”. وهذه الأكياس مصنوعة من شعر الماعز (الخرس) ، أو وبر الإبل (العِدِل). وتُصنع خيام البدو من الصوف ووبر الإبل لمقاومة المطر والمحافظة على الدفء دون أن تكون حارة جدًّا.
ويذكر ” دوبريه ” أن البدو يستخدمون الروث الجاف كمادة وقود بديلاً للخشب أو الفحم اللذين يغيبان عن الساحة الصحراوية تمامًا. وأحيانًا تقوم النساء بجمعه وتجفيفه في الشمس لاستخدامه وقودًا لإعداد القهوة ولإنضاج الخبز أيضًا، فيضعون طبقة مُشتعلة منه فوق الصاج، ويبسطون أوراق العجين فوقها، ثم يُغطونها بطبقة أخرى من الروث المشتعل .
وقد اضطر “ميهاي ” الحداد لتناول الخبز العربي المشوي على جمر روث الجمال . وكذلك تناول فنجانًا من مشروب الضيافة من دلة القهوة الساخنة الموضوعة على جمر روث البعير. واحتسى “لوثر شتاين ” القهوة من إبريق نحاس كبير فيه ماء مغلي وضع على نار روث الجمال المُتيبس.
والبدو يجمعون روث الإبل لإشعاله بدلاًمن الحطب، ويُجففونه ويستعملونه كوقود. وشاهد “ليونهارت راوولف ” بعض نساء قبيلة الفقراء وقد انحدرن من ربوة ليجمعن روث الإبل، بُغية استعماله وقودًا بدلاًمن الحطب الذي هم في أمس الحاجة إليه. وأقبل سكان القرية ليجمعوا روث الدواب -كما اعتادوا أن يفعلوا – لإشعاله بدلاً من الحطب، وفي إحدى زوايا الخيمة يُكدس روث الجمل اليابس لاستخدامه كوقود. وهكذا يحصل البدوي على الوقود كما يرى “ويلفريد ثيسجر” بدون أن يُنفق شيئًا.
الإبل ثروة البدوي، فالجمل يُقدم له تقريبًا كل ما يحتاج إليه للحياة، وهو المصدر الرئيس للدخل كسلعة تجارية وتبادلية. ويستحق أن يكون أكبر ثروة للبدوي، فبدونه تُصبح حياة البدوي مدعاة للرثاء، بل إنه لا يستطيع العيش من دونه. وفي بعض الحالات تُباع الإبل للاستفادة من أثمانها لسد بعض حاجات الحياة البدوية على الرغم من بساطتها .
وهناك عشائر تهتم بتربية نوع من الإبل، ويصل ما تملكه العشيرة أحيانًا حسب تقدير “تايلر” أكثر من ألفين. فتفتخر قبيلة المُطير بتربيتها ” الشرف” ، وهو نوع من الإبل بلون أسود غامق . ويهتم أفراد القبيلة كثيرًا بهذا النوع، وله رعاته الخاصون، ويفتخرون بأنه أفضل من الأنواع الأخرى خاصة ” المركب” ، وهو نوع من الإبل تُربيه عشيرة الرولة . وتُستخدم ” الشرف” في الحرب بين القبائل كثيرًا .
(*) كاتب وباحث مصري .