قد يخطر لقارئ التراث الإسلامي أن عمليات التفكر والتدبر والتذكر والتعقل…، التي يقوم بها الإنسان، إنما تتوجه إلى تزكية النفس، والاتصاف بالتقوى، والزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، وتقتصر عليها.
لكن ذلك لا يعني بالضرورة، عدم الأخذ بنصيب الإنسان من الدنيا؛ فمجالسة العلماء وحضور دروسهم، والرحلة إليهم طلبًا للعلم، والسعي في مناكب الأرض، طلبًا للأكل من رزق الله، وإتقان متطلبات المهنة في الحياة، من تجارة وزراعة وحرفة، كل ذلك من نصيب الدنيا، وكلُّه يتطلب تعقلاً وتفكرًا وتذكرًا، فضلاً عما يلزم المؤمن من التفَكُّر والتذكر في ثواب المجاهدين في سبيل الله والمرابطين على الثغور، والنفرة في هذا السبيل.
أصل الخير والشر من قبل التفكر، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض، وأنفع الفكر: الفكر في مصالح المعاد.
من المفيد كذلك أن نشير إلى التعقل والتفكر والتذكر، كما يقوم به المؤمن، طلبًا لما يريده من شؤون الدنيا والآخرة، يقوم به غير المؤمن كذلك، طلبًا لما يريده من العلم في ظاهر الحياة الدنيا، وبعض الناس يصل بهم إتقان عمليات التفكير في فنون العلم إلى حدّ العجب.
وفي ذلك يروي المحاسبي -بسنده- عن الحسن البصري في قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ((الروم: ٧) قال: “لا جرم واللهِ لقد بلغ من علم أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفرِه، ويخبرك بوزْنه، وما يحسن يصلِّي.”
وإذا كان أبو حامد الغزالي قد فصّل في التفَكُّر في آيات الله المتلوة وآيات الله المنظورة لتكون نتيجة التفَكُّر على معرفة الله والتقرب بالزهد في الدنيا وطلب الآخرة وذلك في ربع المنجيات من كتاب الإحياء، فإنه قد قدم قبل ذلك كثيرًا من متطلبات التفَكُّر في أمور الكسب والمعاش، من أنوع المهن والصنائع والحرف، والمأكل والملبس ومسائل الزواج وآداب المعيشة الاجتماعية. وكان في كل فصل يبدأ بذكر ما يختص بموضوع الفصل من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ثم بأقوال الصحابة والتابعين، وغيرهم من السابقين.
وحتى في الحديث عن الزهد تحدث مطولاً عن ضرورات الحياة ودرجات الزهد فيما هو من هذه الضرورات. فثمة ضرورات إذًا، لا بد من الأخذ بنصيب منها، ومن هذه الضرورات ما جرت به عادة الناس في حياتهم، مما يلزم التفَكُّر فيه والقيام بأمره والعلم بمسائله والمهارة في أدائه.
أما ابن القيم فهو كذلك يتحدث عن بعض الأمثلة من نصيب الإنسان في الدنيا، فهو يقول: والله سبحانه “كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال واللباس والهيئة يبغض القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئة، فيبغض القبيح وأهله، ويحب الجمال وأهله.” ثم يتحدث عن فريق من الناس ضلّوا في النظر إلى الجمال، حتى إن “العارف” من هذا الفريق “يصرح بإطلاق الجمال ولا يرى في الوجود قبيحًا، وهؤلاء قد عدمت الغيرة لله من قلوبهم، والبغض في الله، والمعاداة فيه، وإنكار المنكر، والجهاد في سبيله، وإقامة حدوده”.
فهو إذًا لا يرى مشكلة في رجاء الآخرة، والسعي في مدارج السالكين نحوها والقيام بما أمر الله من حب الجمال وبغض القبح، ومنه الحب والكره في الله، والجهاد في سبيله وإقامة حدوده.
ويضع ابن القيم تصنيفًا لأنواع الفكر تحت عنوان “قاعدة نافعة” فيقول: “أصل الخير والشر من قبل التفكر، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض، وأنفع الفكر: الفكر في مصالح المعاد، وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أجلُّ الأفكار، ويليها أربعة: فِكْرٌ في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها، وفكرٌ في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.”
ومع هذا الاستدراك، يتوقع من الإنسان المؤمن وهو يستجيب لدعوة رب العالمين المتكررة بإلحاح وبأساليب ومفردات متعددة إلى التفكر، والتدبر، والتبصر، والتعقل، والنظر، والفقه، والاعتبار، أن يبدأ هذه الاستجابة عبر سلسلة من مراحل التعلم والتعمق في الفهم والزيادة في العلم، تتناسب مع التفصيل الذي أوردته الآيات القرآنية في مجالاتها المختلفة.
فمنها الآيات الكونية وعددها يزيد عن ألف وثلاثمائة آية في القرآن الكريم، ومنها آيات تفصل خلق الإنسان طوراً من بعد طور، واختلاف الليل والنهار، وبناء السماوات، ومهد الأرض ونمو النبات وعجائب الحيوان، ومقصدها الأساس هو التفكر، ومنها الآيات القصص والتاريخ والحضارات السابقة والقصص ولكن ما الذي يحصل في الطريق إلى هذه النهاية، وأثناء السعي، وقبل الوصول!؟ كيف لا يقود طول التفَكُّر والاعتبار والتدبر، أثناء ذلك السعي إلى بناء الفكر والعلم والفهم والاكتشاف؟
يحب الجمال في الأقوال والأفعال واللباس والهيئة يبغض القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئة، فيبغض القبيح وأهله، ويحب الجمال وأهله.
ومن أين تأتي السنن والقوانين والنظريات، إذا لم تكن صياغات علمية لذلك العلم والفهم والاكتشاف وما يلزم ذلك من قياس وتجريب؟!
وما قيمة هذه العلوم والاكتشافات إن لم يصاحبها تطبيقات عملية ومنافع حقيقية تيسر للسالكين سبل السعي في هذه الحياة الدنيا على هذه الأرض، وحمل الأمانة في الدنيا، والقيام بحق الخلافة في الأرض، وإدراك الدلالات العملية لآيات التسخير، والتبصر في آيات التمكين؟
وكيف حقق الله دعوة إبراهيم أثناء بناء البيت الحرام، أن يجعل الله ذلك البلد آمنًا يأتيه رزقه من الثمرات إلا عن طريق رحلة الشتاء والصيف، فأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف؟
فالتجارة والصناعة والزراعة وسن القوانين والتشريعات، التي تضبط الأمن وتحمي الطريق، وتنظيم تفاصيل العلاقات بين الأفراد والجماعات والدول…، وإدارة أمور الاجتماع والاقتصاد والسياسة… كل ذلك علوم نافعة، لماذا لم يسبق إليها المؤمنون بالآخرة وهم في طريقهم إليها يتفكرون ويتدبرن؟ ألم يكن بالإمكان أن تنمو هذه العلوم وتكون امتدادًا للبذور التي زرعها السابقون من العلماء في أبواب فقه المعاملات؟
ترى لو كان كل ذلك من كسب المجتمع المسلم في الوقت الذي تسير فيه القافلة وعيونها على نهاية الطريق إلى الله، أكان ذلك عائقًا دون الوصول؟ نعم، سيكون في الطريق أناس يشغلهم كل ذلك عن التدبر في مآلات الأمور والمصير إلى الله، وقد يصيب بعض هؤلاء السالكين من الغفلة، والغرور، والكبر، والاعتداد بعلم يعلمونه من باب (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(سورة الروم:7).
وقد يكون هؤلاء أكثر الناس: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ*يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(سورة الروم:6-7)، ومع ذلك فإن المؤمنين أولى بهذا العلم من غيرهم؛ لأنهم يجمعون علم ظاهر الحياة الدنيا وعلم حقيقة الحياة الدنيا وأنها طريق إلى الآخرة، ولو تعلم المسلمون هذه العلوم الدنيوية وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقاً لما أمر الله به…
كانت أشرف العلوم وأنفعها، لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة الله ومرضاته جلّ وعلا، وإصلاح الدنيا والآخرة، فلا عيب فيها إذاً، كما قال تعالى: )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ((الأنفال: ٦٠)، فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالاً لأمر الله تعالى، وسعيًّا في مرضاته، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة.لو تحقق هذا الجمع بين التوحيد والتزكية والعمران، سوف تصبح الآيات الكونية، والآيات النفسية، والآيات الاجتماعية، والآيات التاريخية، وكل آيات القرآن الكريم عناوين لموضوعات التفَكُّر والتدبر والاعتبار، وموضوعاتٍ للمشاريع البحثية المتعمقة التي توسع فضاءات العلم يومًا بعد يوم. وتجعل الأمة المسلمة في موقع الخيرية والقيادة والريادة.