روي عن ابن المقفع تعليقًا على كتاب “كليلة ودمنة” قوله:”إنه على الناظر في هذا الكتاب ومقتنيه أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض: أحدهما ما قصد من وضعه على ألسن البهائم غير الناطقة ليتسارع إلى قراءته واقتنائه أهل الهزل من الشبان فيستميل به قلوبهم، لأن هذا هو الغرض بالنوادر من الحيوانات، والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الألوان والأصباغ ليكون أنسًا لقلوب الملوك ويكون حرصهم أشد للنزهة في تلك الصور، والثالث أن يكون على هذه الصفة فيتخذه الملوك والسوقة فيكثر بذلك انتساخه ولا يبطل، فيخلق على مرور الأيام بل ينتفع بذلك المصور والناسخ أبدًا، والغرض الرابعوهو الأقصى، وذلك يخص الفيلسوف خاصة، أعني الوقوف على أسرار معاني الكتاب الباطنة”.
ولعمري أن هذا الضرب الرابع أبعث على التأمل بالنسبة إلي، إذ أن طبيعة ابن المقفع وهو رجل البلاط شديد الحساسية لكل ما له علاقة بأهل البلاط. أي أن الهاجس التدبيري والسياسي كان حاضرًا بقوة في كتابات ابن المقفع، خاصة حين نستحضر واقع الدولة العباسية والانفتاح الكبير الذي عاشته حيال الثقافات والديانات والفلسفات الخارجية، الشيء الذي طور الحس النقدي عند الناس وعلى رأسهم ذووا الهمم العالية والطموحات الكبيرة. فكان ابن المقفع وهو من هو في طبقته، يرمي إلى أن تأخذ جميع فآت الناس بنصيب من رسائله التي وجهها إلى كل فئة بالأسلوب الذي يناسبها، معليًا من شأن الضرب الأخير من خلال قوله: “وكذلك الجهال على إغفال أمر التفكّر والاغترار في أمر هذا الكتاب وترك الوقوف على أسرار معانيه والأخذ بظاهره دون الأخذ بباطنه. فقد قالت العلماء: إن مثل هذا الرجل الذي يظفر بعلم الفلسفة ويصرف همه إلى أبواب الهزل، كرجل أصاب روضة هواؤها صحيح وتربتها طيبة فزرعها وسقاها حتى إذا قرب خيرها وأينعت، تشاغل عن ثمرها بجمع ما فيها من الزهر وقطع الشوك فأهلك بتشاغله ما كان أحسن فائدة وأجمل عائدة”.
أما القصة الموالية فهي تضرب مثل الإنسان المتسرع الذي يتعجل النتائج، فيعاقب بحرمانها.
قال بن المقفع: مثل الصياد والصدَفة
كان صياد في بعض الخلجان يصيد ذات يوم في الماء إذ أبصر صَدَفةً فتوهمها شيئًا، فألقى شبكته فاشتملت على سمكة كانت قريبا منها فخلاها وقذف نفسه في الماء ليأخذ الصدفة. فلما أخرجها وجدها فارغة فندم على ما في يده وتأسف على ما فاته. ولما كان في اليوم الثاني تنحى عن ذلك المكان ورمى شبكته فأصاب حوتاً صغيراً فحاول أخذه ورأى أيضاً صدفة سنيّة فلم يلتفت إليها وساء ظنه بها وتركها. فاجتاز بعض الصيادين بذلك المكان فرآها وأخذها فوجد فيها درة تساوي مبلغاً وافرًا.