لا تزال حراء تؤكد منذ عددها الأول على مركزية الإنسان في أيّ بناء حضاري، وضرورة الاهتمام ببنائه بناء يوازن بين التنشئة الفكرية والتربية الروحية. فإذا تم بناء الفرد وفق هذه الرؤية، فسوف تظهر آثارها الإيجابية في المجتمع بعد حين، وإنه “لا يصلح المجتمع إلا بأفراد تشبّعوا بروح الإيثار والإخلاص والتفاني” كما يؤكد على ذلك الأستاذ القدير فتح الله كولن في المقال الرئيس “شجرة الأمة”. والأستاذ كولن -كما لا يخفى على قراء حراء- يراهن في مشروعه الإصلاحي على بناء الفرد، حيث يقول: “محال أن يتشكل مجتمع سليم من أفراد أنانيين شُلّت أرواحهم بألف عاهة وعاهة”.
ومحمد السقا عيد ينبهنا في مقاله “آية تبحث عن تفسير” إلى أن كل كائن في هذا الوجود آية، فالذّرّة آية، والزهرة آية، والفراشة آية كذلك. وكل آية من هذه الآيات تحمل معاني ورسائل إلينا تساعدنا على فهم حقيقة الوجود، ومعرفة خالقنا، وإثراء رصيدنا العلمي، وتنمية حياتنا. ولا فرق بين الآية الكونية والآية القرآنية من حيث المعاني التي تحملها، لأن مصدرهما واحد. لكن الآيات الكونية تحتاج إلى مفسرين يتأملونها ويترجمون لنا كلماتها.. والمقال تفسير لآية الفراشة بأسلوب بديع شيق.
وعبد الرحيم باحمو يلفت أنظارنا في مقال “المقاصد الأخلاقية للصلاة” إلى البعد الأخلاقي للصلاة، حيث يعتبر الصلاة الحبل الواصل بين العبد والخالق، وبين العبد والخلق. فمن خلال الصلاة يزكو الإنسان ويُحِسن الأدب مع الله، ومن خلالها كذلك يتخلق بمكارم الأخلاق ويبتعد عن مساوئها فيكون عنصرًا صالحًا في المجتمع. أما صهيب مصباح فيسترعي انتباهنا في مقال “الحدود التربوية للخلاف العالي وأبعادها الجمالية” إلى قضية الاختلاف التي باتت كارثة في عالم المسلمين لغياب فقه سليم للاختلاف فيما بيننا، فيؤكد أن الإسلام جاء بقيم غاية في الدقة والجمال في تدبير الاختلاف إذا تم تفعيلها فستظهر نتائجها المبهرة.
أما خلف أحمد أبو زيد فيأخذ بأيدينا في رحلة تاريخية يطلعنا من خلالها على علم التخدير والمجهودات الرائدة التي بذلها الأطباء المسلمون في هذا المجال الذي برعوا فيه أيما براعة. في موضوع آخر، أصبحت اليوم قضايا البيئة وسبل الحفاظ عليها هاجسًا عالميًّا يستدعي مقاربات وحلولاً مشتركة.. ومن ثم يؤكد عبد الإله بن مصباح في مقاله “التغيرات المناخية والوعي البيئي” أن معضلة التغيرات المناخية باتت اليوم تطرح نفسها بحدة، ويجب ألاّ تبقى حبيسة الحلول التقنية، لأن المسألة في أصلها هي أعمق من ذلك بكثير، إذ لها جذور أخلاقية ضاربة في أعماق الفراغ الروحي.
أما المفكر العالم الأريب أسامة السيد الأزهري فيعالج مفهوم “حب الوطن” من منظور شرعي، مؤكدًا على مكانته السامية في المصادر الإسلامية، حيث يقول: “إن الشرع الشريف غرس في نفس الإنسان حب وطنه، وزكّى فيه دوافعه الفطرية النبيلة في الانتماء للأوطان وحبها والدفاع عنها، حتى أشار إلى نبل انتماء الإنسان لوطنه في عدد من الآيات والأحاديث الشريفة”.
هذه إشارة مختصرة إلى بعض مقالات هذا العدد الحافل بكتابات قيمة أخرى، ومقطوعات أدبية راقية سهرت على كتابتها عقول جادة وقلوب مرهفة، فنرجو أن ينال الإقبال والقبول.