بسم الله الرحمن الرحيم (إقرأ باسم ربك الذي خلق)
مع كل صباح تزحف أشعّة الشمس ببطء وهدوء مبدّدةً بَقايا الليل المظلم، معلنة عن مَولد نهار جديد.
وأكثر الناس لا يملكون الوقت، وليس لديهم الباعث ليراقبوا زحف أشعة الشمس، وهي تكتسح ركام السحب وجبال الغيوم؛ لأنهم يعلمون أن الشمس لا بدّ أن تنتصر، وأن النور لا محالة قادم. ولأنهم -كذلك- ألِفوا تداولَ الليل والنهار خضوعا للسنّة الكونية في كل يوم.
وهكذا تمضي سنّة التداول في الزمان -دون فعْلٍ إنسانيّ- فيعقب الليل النهار، ويعقب النهار الليل، وهكذا الأمر في الظلام والنور، والشتاء والربيع.
وقد يطول ليل الشتاء، لكن مجيء الربيع حتميّةٌ كونية، وقد تسود جحافل الظلام في غياب “النور” لكنّ سنة الله الكونية لا تتخلف. فسرعان ما يعود “النور” إلى الظهور!!
وهنا يظهر الفيصل بين السنّتيْن “الطبيعية الكونية” و”الاجتماعية الحضارية”؛ فعلى الرغم من وحدة القانون، إلا أن الفعل الإنساني له دورُه المؤثّر في سنة التداول الاجتماعية الحضارية.
الربيع الحضاري
ففي حالة وجود الفعالية الإنسانية، والالتحام الإنساني الواعي بالسنة الطبيعية، والالتزام بثوابت الوحي وتوجيهاته العليا، في هذه الحالة ينجح الإنسان في إطالة فترة “الربيع الحضاري”؛ ربيع الازدهار والعطاء، وتمتدّ بالتالي مساحةُ النور عبْر الخريطة الإنسانية.
وعلى العكس، فعندما تُسيطر السكونية السلبية، ويُصبح الإنسان مجرد جزء من الزمان، يمتدّ الشتاء بقسوته وظلامه، وتنكمش مساحة النور، وتذبل سريعًا أزهار الربيع!
وهنا يتألق دور المؤمنين الفاعلين من خريجي مدرسة “حراء” التي هبطت عليها أشعة شمس القرآن الأولى (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1). إنهم مطالَبون بالتغيير والتعمير والحركة باسم الله، ومطالَبون برفض الجمود الذي يجعلهم كأنهم بعض الزمان وخارج الحضارة والتاريخ، ينتظرون -وهم قاعدون عاجزون- دورة السنّة الطبيعية في التداول، دون أن يعملوا على تحقيق التكامل بينها وبين السنّة الاجتماعية؛ سنّة التغيير الداخلي انطلاقا للتغيير الخارجي: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11). إنهم -لو كانوا مؤمنين حقّا- أسمى من أن يصبحوا جزءًا من الصيرورة والزمان. إنهم في حقيقتهم محرّكو قطار التاريخ الحضاري، وقادة “النور”. وهم القادرون قبل غيرهم على حمل مشاعل الوحي وأضواء العقل. وبالتالي هم الذين يستحقّون “الاصطفاء” ليحقّقوا “الشهادة” على الناس، ويبْلغوا مرتبة “العباد الصالحين الوارثين للأرض”… (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(آل عمران:110).
وحتى لو عثرت بهم أحجار، عبْر مسيرتهم في التاريخ، فهم -مع ذلك- المؤهَّلون للأوبة والبعث والإقلاع، مهما تطُلْ غيبتُهم عن مسرح الحضارة والتاريخ. إن لهم معالم يهتدون بها، ولهم ثوابت من الوحي -لا يأتيها الباطل- تأخذ بأيديهم إلى التي هي أقوم.
لقد غاب المسلمون حضاريٌّا منذ عدة قرون، فتقدم الأوربيون -في الفراغ- وقادوا الدنيا بالعقل وحده، ونظروا بعين المسيح الدجال، وكالوا بمكاييله، وقاسوا الأمور بمعاييره المزدوجة، وزعموا أنّ لهم “جنّةً” هي حضارتهم المادية الشَّيئية، ولهم »جهنم« اخترعوا لها صورًا من الدمار!
وقد قدّموا -وهذا لا يُنكر- خدماتٍ علمية، لكنهم أتعسوا الإنسان بالدنيوية والعنصرية والحروب لأتفه الأسباب وباختراع قوانين الصدام ونظرياته المتهافتة (!) وتُوشِك البشرية التي حفروا لها القبور -حسْب مقولة »رجاء جارودي«- أن تنْتحر انتحارًا جماعيٌّا عولميٌّا، وتفقد ذاتها ودنياها وآخرتها.
فلا بدّ أن يستيقظ المسلمون، وأن ينفُضوا الغبار عن أجسادهم وعقولهم، وأن يخرجوا من الكهف… متلطِّفين في خروجهم، حُداةً على آمال الإنسانية، وحماةً لها من الانتحار والدمار، بالحكمة والقدوة والحوار.
ولا بدّ أن يعود معنى الصلة بين السماء والأرض… ذلك الذي تألق في »حراء« ذات يوم من سنة 610 م معلنًا عن ميلاد جديد للإنسانية. فما أحوج إنسانيتنا المعاصرة أن تُولَد من جديد وأن تقرأ من جديد (بِاسْمِ رَبِك) لا بِاسم المادة أو الصراع أو العلم الذي لا ينفع، والذي لا يخشى علماؤه اللَّهَ…
لقد عاش المسلمون أكثر من عشرة قرون منذ هبطت عليهم (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) سادة الحضارة -كما يقول أكبر مؤرخي القرن العشرين “ولْ ديورانت”- وبـهم بدأت الحضارةُ دورةً إنسانية جديدة تخلصت فيها من ظلام استمرّ عشرة قرون هي “القرون الوسطى” -كما يقولون-، بل تخلصت من ظلام هيمن على الحضارة الإنسانية عشرات القرون قبل ظهور العصر القرآني، في ظل حضارات وثنيّة وأسطورية واستعلائية، لم تقدر الله حق قدره إلا في القليل النادر من الزمان. بينما اخترعت مئات الأصنام والأوثان وخضعت لها خضوع العبيد فاقدي الوعي والإحساس.
وعندما نزلت (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِكَ) في حراء كانت شمسًا جديدةً تطلّ على الكون، جامعةً في نسيجٍ واحد بين قراءة الوحي والعقل والكون. فتحَقّق لأول مرة في تاريخ الحضارات رسم خريطةٍ تتناغم فيها الربّانية والإنسانية على امتداد إشعاعات الوعي الإنساني.
وما كان ممكنًا قبل هذا الحدث الفارق أن تكون هناك حضارة إنسانية تتصل فيها الأرض بالسماء من خلال وسائل تتحدد فيها العلاقة الواضحة بين “الله” المعبود الخالق وبين “الإنسان” العابد المخلوق.
لقد كان “الكون” قبل هذا الحدث الذي وقع في “حراء” معبودًا يخشاه الإنسان ويتقرب إليه بشتّى القرابين ووسائل التعبير الدالة على الخضوع والخوف والعبادة. فجاء “العصر القرآني” يضع الكون في مكانه الصحيح؛ كونًا مسخَّرًا للإنسان، ليستخدمه الإنسان لتحقيق العبودية لله، وتعمير الأرض باسم الله، ولتسبيح الله. وبالتالي أصبح الكون الذي كان في الوعي الإنساني الوثني معبودًا “عابدًا” خاضعًا للبحث والاكتشاف والتسخير. ورجع الكون في الوعي الإنساني إلى حجمه الصحيح؛ مفْعولاً به، وليس فاعلاً، مطبعةً لا طابعًا، نقْشًا لا نقاشًا، متحفًا ومعرضًا لإظهار تجلّيات الخالق العظيم الذي استخلف الإنسان وعلَّمه الأسماء كلها وزوّده بالوحي والعقل والإرادة.
الإسلام والتعامل مع الكون
وما كان ممكنًا قبل هذا التحول الذي قدّمه الإسلام في التعامل مع الكون، أن تكون هناك حضارة إسلامية تمثل منعطفًا جديدًا في تاريخ التمدّن الإنساني. وما كان ممكنًا -كذلك- أن تكون هناك حضارة أوربية أو رُقيٌّ إنساني. بينما الكون معطَّل عن التسخير، يحتلُّ مكانةً “مقلوبة”، فتتعطَّل مع وضعه المقلوب ملكات الإنسان، وبالتالي لا يجد الإنسان عالم »الآفاق« الذي يحقق من خلاله شروط الاستخلاف.
لقد نجح المسلمون “السلف” خلال مدة تزيد على عشرة قرون -كما ذكرنا- في أن يقدموا حضارةً معتدلة الموازين والقيم، تتكامل فيها ثوابت الوحي مع حركة العقل مع الرؤية الرشيدة للكون والحياة.
فلما اختل الميزان في أيديهم وفقدوا مؤهلات القيادة الحضارية، وخَلَفَ من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وأهملوا العلم والعمل، وفقه السنة الكونية والاجتماعية، أخذ منهم الأوربيون القيادة فتحركوا بالعقل وحده، مؤلِّهين “المصلحة” و “المادّية” في إطار الفرد والمذهب الفردي طورًا، وفي إطار الجماعة والمذهب الجماعي طورًا آخر، وكانت الآخرةُ والروحُ والجوانبُ الدنيوية بعيدةً كل البعد عن التنظير والتخطيط والتطبيق هنا وهناك. فعادت سفينة البشرية تجنح إلى الغرق من جديد، وسيطرت “القوة”، ومع القوة “الظلم”، ومع الظلم “ازدواج المعايير”، ومع اختلال الموازين سيطرت “العنْصرية” و”الأنانية”… فارتفعت بالتالي رايات الصدام والشقاء، وانخَفضتْ رايات التعارف والسعادة.
وهنا، وعند هذا الْمَحاط، لم يبق إلا أن يعود المسلمون إلى القيادة من جديد، متجاوزين عصر الانحطاط، دخولا في دورة حضارية أخرى ووصولاً بعون الله إلى عصر الشهادة على الناس، والخيرية، والقيادة الحضارية للإنسانية!
وكما خرج “النور” من “حراء” عندما هبط الوحي معلنًا بداية العصر القرآني، “عصر تكامل القراءات السماوية والكونية والعقلية” كذلك ينبغى أن يتمثل المسلمون في دورتهم الحضارية الجديدة معاني البعث القائم على القراءات المتناغمة المتكاملة السابقة بلا تعارض أو خلل!
شمس القرآن
ومن هنا ينبغي النظر إلى شمس القرآن بعين جديدة “أصيلةٍ معاصرةٍ” لا تهمل الماضي ولا تتجاهل المستقبل. وفي هذا المقام قد نجد بين أيدينا عددًا رائعًا من الرؤى التي لا يمكن الغضُّ من قيمتها ولا الانتقاص من قدر أصحابها. هؤلاء الأعلام الذين حاولوا بعث الأمة من خلال الحياة في ظلال القرآن والحياة في فقه السيرة.
بيْد أننا نرى أن لـ”رسائل النور” لبديع الزمان سعيد النورْسيّ ريادة خاصة، كما نرى للمشروع الفكري السائر على درب “النورْسيّ” الذي يقدمه بآلياتٍ معاصرة عمْلاقة الداعية المصلح الشيخ “فتح الله كولن” ممثلاً في “النور الخالد” وفي نحو خمسين كتابًا معه ريادةً خاصة كذلك.
والمشروعان لا ينفصلان، وكلاهما قدَّم ما يستطيع في ظل الظروف المتاحة، وهما يصبّان في خندق واحد ويتّجهان إلى غاية واحدة.
إنها غاية إنقاذ الإنسانية والمسلمين، من خلال “القرآن” ومن خلال تطبيق النبيّ الكريم للقرآن على الواقع، وهو النبيّ الكريم الذي كان “قرآنًا” يمشي على الأرض والذي كان “خلقه القرآن” قولاً وفعلاً وتقريرًا، بعيدًا عن “المثالية” العاجزة عن التطبيق والتي حلم بها الفلاسفة الطوباويون. وأيضًا ارتفاعًا بمستوى “الواقعية” التي يهبط بها إلى “الحيوانية” الواقعيون.
لقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم واقعيةً ترتفع إلى قريب من شمس “النور الخالد”… شمس المثالية الإنسانية التي لا يمكن أن يصنعها إلا كتاب الله فكرًا وتربيةً وتنظيرًا، وسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فعلاً وحركةً وتطبيقًا.
وبالفكر القرآني والتطبيق النبويّ تتحقق الحضارة الإنسانية التي انطلقت من “حراء”، بعد أن هبط بها جبريل عليه السلام من السماء. (نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) (النور: 35).
وعلى المسلمين استئنافها اليوم مستعينين بالله، وما ذلك على الله ببعيد!