كان شريط المساجد اللامع عالقا في جدار ذهنه المشبع بالنفاذ الروحي. الشيخ إسماعيل أفندي حمامة مسجد كما يقول عنه تلاميذه الخلص.
كيانه الجامع، ذرات فطرته البيضاء، طائره الإيماني المحلق في الأعالي، تسكن كلها مآذن وقباب إسطنبول المتوهجة بالندى والطهر. المساجد السلطانية العملاقة تستبطن أحاسيسه الدافئة… أذانها المطلول المبغوم… ابتهالاتها الندية المتموجة… تراتيلها المعرشة بالألحان المرشوشة الغضة. ويلج باحاتها الفسيحة مدَّ البصر، بواجهاتها الرخامية المصقولة، فيتوثب قلبه الرهيف، وتتلبسه أحاسيس سلطانية عظيمة، لعظام بناة، وسواعد متوضئة، ومحاميل حجارة منتقاة بعناية، و”سنان” المعلم العظيم يرشها بلمسات فنه الساحر المتكلم.
كان يسبح بباصريه مذهولا وهو يلج الصدفات المكنونة بسر السماء، وتمتصه محاريبها الفارهة… أعمدتها الأسطوانية الرابضة… قبابها الأهرامية السماوية… لغات كثر تناجي قلبه المدهوش… تنبعث بنمنماتها الساحرة: الضوء المتكسر المشعث المتماوج، اللون الطاووسي السابغ، الخط المعشوشب الفتان، الزجاج الفسيفسائي المزركش، رجلاه لا تقويان على حمل عراجين عشقه المتهدل “بالدهش” و”العطش”. كم قضى ليالي قمراء في باحة مسجد “الفاتح”، قرب الضريح الرخامي الجاثم في ظلال الشجر الفينان، يستل أحلامه المتوثبة، يناجي عرائسها المخبوءة.
إن ما يقلقه ويمضه هو ضيق ذات يده، وانحباس حياته في دارة العطايا النـزرة المتقطعة. منذ نزوحه المبكر إلى إسطنبول رفقة شيخه الروحي وهو يعيش في ظلال التكايا والزوايا، بين همهمات الذاكرين، وتوسلات الزائرين، ورباطات المريدين، إلى أن ورث (سر) المشيخة الروحية بزاويته المتواضعة، فازدادت أعباؤه أثقالا من إشراف على مواسم تعبدية خاصة، واستقبال للعطايا والهبات المتنوعة، واحتفاء بالضيوف والزوار الوافدين، وإنفاقات متواصلة على تلك المراسيم والموالد. فما يأتي به نهر اليوم يبتلعه بحر الغد. والدائرة تدور، والأيام تدول، ورحى العمر تطحن الرغائب الحسان، وظلالها تبهت وتصفر بفعل اليبوسة الزاحفة، وصراع محموم بدأ يشتعل ويتلظى بين عقله السؤول وقلبه الملول، بين طموحه الأخروي وانجذابه الدنيوي، بين رسوم العبادة وعبادة الرسوم، بين ولائم الطاعة وطاعة الولائم… بين وبين وبين… دوامة عاشها وهو يتربع على عرش المشيخة بين أتباعه ومريديه.
قال عنه مريده (ن): “إن شيخنا إسماعيل أصابه ما أصاب شيخنا جلال الدين الرومي مع التبريزي من خلوة عن الأتباع والزوار وسياحة انفرادية في مساجد اسطنبول العتيقة”. وشاهده مريده (ش) وهو يتسلق قمة (شامليجا) قبل الغروب، مقتعدا مكانه المعلوم قبالة المساجد/الأهرامات مذهولا… مشدوها… ملتاعا.
وراقبه صديقه الدرويش (ع) وهو يطوف بمساجد السليمانية والفاتح والسلطان أحمد، لا تطرف له عين ولا يغمض له جفن، ولا تكل له قدم، ثم يستلقي في أفنائها متأملا سارحا يعب من جمالها المجسد الضافي. وقالت عنه زوجته (ر): “إن زوجي قد أصابه الذهول والذبول منذ تلك الليلة التي قضاها معتكفا في مسجد الفاتح منتصف رجب الماضي”.
كان إسماعيل أفندي مستلقيا في باحة مسجد الفاتح، وهو يستعيد شريط حياته الحافل، ورشاش زبد تلك “الرؤيا” الغريبة يمتلك مجامع قلبه وروحه. في نفس هذا المكان المقدس وفي مثل هذه الساعة الليلية الواعدة… شاهد في الحلم خيال محمد الفاتح قادما من المحراب الرخامي… ينتصب قبالته بلباسه الأبيض الناصع… عطور سماوية تفعم أنفه، صوته الندي يسر في أذنيه حديثا نبويا مأثورا “من بنى مسجدا لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة”، ثم يغيب خياله وابتسامة وضيئة ترسم دوائر النور على وجهه الوضاح. يغيب وتغيب منذ تلك اللحظة الفاصلة رغائبه التي استطالت مثل الأظافر حتى غدت مخالب تخدش إيمانه الأخروي.
إن ما يقلقه ويمضه هو ضيق ذات يده بفعل الإسراف الزائد، والعطايا المهدورة في الولائم والضيافات. جبال من الجليد العائم الكاذب تحجزه عن التحديق والتحليق. وفي مثل لحظة كلمح بالبصر قرر -وذكرى الفاتح لا تطرف عينها في خياله المشبوب- بناء مسجد -ولو كمفحص قطاة- يكون أساسا ركينا لبيت لا محدود في الجنان… “يا لروعة التقابل الشهودي الغيبي ينث شهدا وحلاوة من كلام الرسول المعلم صلى الله عله وسلم -قال ذلك محدثا نفسه- بيت لله فوق هذا الكوكب الهاوي، وبيت لك في الملأ الأعلى، أيّ “وجبة” مجزية يمنحها لك هذا الحديث، أيّ مصير خالد يمنحه لك هذا الألق النبوي… لو وَضَعْتَ سنوات الزوايا والتكايا في كفة أخرى لطاشت بالأولى لثقلها الأخروي).
تذكر في غمرة هذا التحول النفسي/الكياني “سر” عظمة السلاطين الأوائل… سر امتدادهم التاريخي الخصيب في حنايا المعمور وثنيا الدهور… إنها المساجد/الأهرامات التي تنتشر في ضفاف البسفور كأزهار الأقحوان متفتحة باسمة قبالة السماء المغسولة. “إنك يا إسماعيل ستنافس عظمتهم الأخروية بعد أن غلبوك في عظمتهم الدنيوية، ستنشر ذكرك بهذا المجد الموعود في عالم الآخرة، وهي خير وأبقى”. هكذا حدث نفسه القلقة.
قَرَّرَ مصمما في غمار تحولاته سلوك رياضة نفسية جديدة تحقق له حلم حياته الأخروية. إنها “لعبة الوهم” المتبادل بينه وبين نفسه، وهم التشبع بلذائذ الأطعمة والأشربة، وهم الموائد الممدودة الحافلة في المواسم المكرورة والضيافات المتجددة. قرر تحطيم وهم “التشبع” بمعول إيمانه الأخروي… “الاستغناء” و”الادخار” هما شعاره الجديد في رحلته الجبلية الجديدة، وهو يتوقل حزون النفس وذراها.
قالت عنه زوجته: “كلما أخبرت زوجي بأطايب الطعام التي سَتُشْتَرَى له، رفض ذلك ورد ثلثيها وأبقى على الثلث فقط، مدخرا نقودها في صندوق خشبي مرددا جملة غريبة (كأني أكلت… كأني أكلت…)”.
وقال عنه جاره البقال (ف): “كلما همَّ الشيخ إسماعيل باقتناء فواكه الصيف النضيجة كعادته، أسرع بإرجاعها كمن لدغته أفعى قاتلة مرددا كلاما غريبا (كأني أكلت… كأني أكلت)”. وقال عنه مريدوه: “إن طقس (الانجذاب) الذي جلل شيخنا في سنواته الأخيرة أصابه بالذبول والذهول، فلا هم له إلا الادخار في ذالك الصندوق الخشبي العتيق مرددا جملته المأثورة (كأني أكلت.. كأني أكلت)”.
وقال عن البنّاء (ك): “كان الشيخ إسماعيل يتعهد بناء مسجده الصغير بالمراقبة اليومية، بل كان يساهم بوضع لبناته الصخرية بيديه المتوضئتين. وكلما استطال البناء أبصرت وجهه الوضاح يستنير بنور سماوي غريب كأنه فلق الصبح الأزهر”.
وحين استتم الحلم الأخروي شكله الصخري المستدير، واستكمل زينته الزخرفية المتواضعة في طابقيه الصغيرين، عقد فيه الشيخ إسماعيل أولى حلقاته الندية معلنا لطلابه وزواره أنه قرر تسميته جامع “كأني أكلت”.
____________________
(*) قصة حقيقية جرت في عهد الدولة العثمانية.