ابتداء يتحتم التأكيد على أن أي حديث عن المضمون الفكري للأدب الإسلامي المعاصر، يجب ألاّ يَغفل لحظة عن التقنيات الفنية الملتحمة بالمضمون والحاملة لهمومه، والقديرة -وظيفياً- على توصيله إلى المتلقي بأكبر قدر من “التأثير”. تلك هي مهمة الأدب على إطلاقه وعبر أجناسه كافة. وأي اختلال في التناسب بين الشكل والمضمون، سيميل بالميزان صوب “المضمونية” التي تضعف العمل الإبداعي، وربما تخرج به عن أن يكون أدباً.
فإذا ما عرّفنا الأدب الإسلامي بمفاهيمه المعاصرة، بأنه “تعبير جمالي مؤثر بالكلمة عن التصوّر الإسلامي للوجود”، وجدنا أنفسنا أمام العنصرين الأساسيين للعمل الأدبي، وهما: “التصوّر” و”الجمال”. هذه المسألة لا يكاد يختلف فيها اثنان في العالم كله، وإن كان بعض أدبائنا ونقادنا الإسلاميين لا يزالون يرمون بثقلهم صوب المضمونية ويمارسون نوعا من التهميش، بدرجة أو أخرى، للقيم الجمالية التي يتحتم أن تلتحم بالمضمون.
المضامين الفكرية
فإذا ما جئنا إلى المضمون الفكري وجدنا المذاهب الأدبية كافة (فيما عدا البرناسية بطبيعة الحال)، تحمل وتبشّر بمنظومة من القيم التصوّرية، كل وفق الشبكة التي تؤسس لذلك المذهب. وإذا كان الأمر غائماً بعض الشيء في الكلاسيكية، والكلاسيكية الجديدة وربما الرومانسية، فإنه واضح تماماً في الواقعية، والواقعية الاشتراكية والرمزية والوجودية والمذاهب التالية؛ كالسريالية والعبثية (الطليعية)، وتيارات الحداثة المتدفقة التي يضرب بعضها بعضاً ولا يزال.
في حالة كهذه، ألا يحق للأدب الإسلامي أن ينطوي على مضمونه الفكري بما أنه ينبثق عن العقيدة الأوسع فضاء، والأغنى خبرات، والأغزر مفردات وعطاء باعتبارها إضاءة متفردة يلتقي فيها الوحي بالوجود، وتتلقى تعاليمها من الله سبحانه، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وتفتح جناحيها على الإنسان والعالم والكون والمصير؟
إن الخبرة الإسلامية في أعمق مجاريها الإيمانية خفاءً، وأكثر تجلياتها الفكرية إشراقاً، تضع بين يدي الأديب والفنان ثروة هائلة من المفردات، وشبكة عريضة من التجارب والرؤى والتأسيسات، التي يمكن للأديب أن يستمد منها مِدماكه في هذا الجنس الأدبي أو ذاك. وإن المساحات التي تنسج فيها المضامين الفكرية للمذاهب الأدبية كافة لتتضاءل أمام الفضاء الواسع والسماءِ الكبيرة والمفتوحة للمعطى الرؤيوي الإسلامي الذي لا حدود لشواطئه.إن المرء ليتذكر هنا عنوان كتاب للمفكر الفرنسي “رجاء غارودي” بعنوان “واقعية بلا ضفاف”.
وإن المضمون الفكري للأدب الإسلامي الذي يتعامل مع الواقع، ولا ينفصل عن همومه وقضاياه بحكم ضرورات الالتزام، لا يأسره الواقع الضيّق الذي تعارف عليه الناس، ولكنه ينطلق إلى فضاءات الخبرة والرؤية اللتين لا أوّل لهما ولا انتهاء.
إن الخصوصية الإسلامية التي هي وليدة الزمن والمكان، والتي ينسجها لقاء العقيدة بالإنسان في هذه البيئة (المحلية) أو تلك، لا تتعارض مطلقاً مع التوجه (العالمي) أو الإنساني، خارج قيود الزمن والمكان والبيئة والتاريخ. لأن الإسلام -في الوقت نفسه- توجه أبدي صوب الإنسان في كل زمان ومكان، ولأن من أهدافه أن يصنع عالماً سعيداً لبني آدم جميعاً، وأن يعينهم على تجاوز متاعبهم وآلامهم، وإزالة الجدران والمتاريس التي تقف في دروبهم صوب أهدافهم المشروعة.
بل إن الإسلام، برؤيته الكونية، واستشرافه بعيد الآفاق، ونزوعه الشمولي، وتوازن الثنائيات في نسيجه بين ما هو منظور وغيـبي، وطبيعي وميتافيزيقي، ومادي وروحي، وثابت ومتغير، ومحدود ومطلق، وفانٍ وخالد.. الإسلام بهذا كله أقدر -إذا تهيأت له الأدوات الفنية المتمرسة والخبرة العميقة- على إبداع أدب عالمي يهمّ الإنسان في إطار المعمورة، ويمكن أن يفرض ترجمته إلى كل لغة حية.
ولكن -وكما تقول القاعدة النقدية المعروفة- إن العمل الأدبي الكبير، لا يحقق عالميته وانتشاره إلا من خلال أصالته وخصوصيته، أي من خلال تحركه من الخاص المحدّد إلى العام المفتوح، كي لا يغدو عملاً تجريدياً، وكي يكسب ملامحه وتكوينه الحيوي، ونسيجه ذا اللحم والدم والملامح المتفردة.
وظائف الأدب الإسلامي
إن إحدى وظائف الأدب الإسلامي، بل وظيفته الأم، إلى جانب وظائفه السياسية والاجتماعية والنفسية والتاريخية والتربوية، هي الوظيفة العقدية التي تستهدف إيصال الخطاب الإسلامي إلى المتلقّي بأكبر قدر من التأثير. إن الأديب ها هنا يحمل سلاح الكلمة لكي يقف في صف الدعاة واحداً من أكثرهم قدرة على الفاعلية والكسب والامتداد. إنه يقوم بتوصيل رؤية الإسلام للكون والحياة والعالم والإنسان، لا بمفاهيم تجريدية وأفكار صارمة ومقولات قاطعة كالسكين، ولكن بالصورة المشخصة والتجربة المعيشة والخبرة التي يجري الدم في خلاياها وشرايينها فيبعث فيها الحياة.
إنه من خلال التجربة الحيوية، وبموازاة مقولات الفقه واستنباطاته، يقول للناس هذا حلال وهذا حرام، وبواسطتها يخرج بهم من الطرق الملتوية إلى الصراط. إن معطيات هذا الدين -بما تنطوي عليه من مضامين فكرية- يمكن أن تركَب إلى الناس ألف مركب في كل زمان ومكان. ولكن ليس كمركب الفن المؤثر الجميل، من يقدر على فتح منافذ الوجدان البشري لكي تستقبل هبة اليقين الذي جاء به الإسلام. هنالك حيث يتوحد الإنسان وينسجم ويتوافق مع الموجودات على مدى الكون الفسيح.
إن الأديب وهو يمارس عملية تشكيل الكلمات وصياغتها وهندستها للتعبير عن هذا الجانب أو ذاك من الحياة الإسلامية، ولتوصيل هذا المضمون الفكري أو ذاك من عقيدة الإسلام للآخرين، إنما يمارس وظيفة من أخطر وظائف الأدب على الإطلاق. ولنتذكر كيف أن التواصل لن يتحقق بصيغته الفاعلة المرجوة إن لم يضم جناحيه على طرفي الإبداع: “الجمال” و”التأثير”، وإلا وقع في مستنقع المباشرة والتقرير.
كل الوظائف الأخرى المشار إليها يمكن أن تندرج تحت ظل هذه الوظيفة الكبرى ما دام أنها روافد تتجمع لكي تصب في نهاية المطاف في بحر العقيدة الواسع العميق. ولن يكون من المحتوم على الأديب المسلم أن يقصر همومه على عرض القيم والمضامين الفكرية في معطياته، بل يكفي أن يهدم عقائد الوضّاعين ومذاهبهم وتصوّراتهم.. يكفي أن يكشف عما تتضمنه من كذب وزيف والتواء.. يكفي أن يحكي عن مردودها على الإنسان ألماً وتعاسة ونكدا وشقاء، لكي ما يلبث أن يتضح للناس أن البديل الوحيد.. البديل الحق، هو الإسلام وحده.
الأدب والتصور الإسلامي
إن وظيفة الأدب العقدية تمتد وتتسع لكي تنفسح على مدى رؤية الإسلام وتصوره الشامل للكون والعالم والإنسان. وهو تصور يتفرد بامتداده وعمقه وانتشاره فيما يمنح الأديبَ ألف فرصة وفرصة للتعبير المؤثر الجميل. إنه تصور يسعى للتحقق بأكبر قدر من الوفاق والتناغم بين الإنسان والوجود، وإنشاء إيقاع موحد بين سائر الأطراف التي يحتويها الكون ويضم جناحيه عليها. إن الأديب يجد نفسه هنا في ساحته الحقيقية المترعة المشحونة، وهي -بحق- أكثر الساحات قرباً من حقيقة الإبداع الجمالي، وبعداً -في الوقت نفسه- عن المباشرة والتسطح والتقرير.
إن قلم الأديب المسلم يمكن أن يتحدث عن كل شيء، ويكتب عن كل تجربة، ويعبر عن كل صغيرة أو كبيرة في مجرى الحسّ والشعور والوجدان، أو في شبكة العلاقات الاجتماعية والبشرية، أو في ساحة الطبيعة والعالم، أو في منظومة الأفكار عبر مضامينها كافة. إن تحديد أو وضع قائمة بالموضوعات التي يمكن أن يتحدث عنها الأدب الإسلامي أو يلامسها ويعيشها أمرٌ في غاية الصعوبة، بل إنه لموقف مفتعل يسعى إلى قولبة التجربة الكبيرة في إطارات تضيق عليها الخناق.
في ضوء ذلك كله تبدو “أسلمة الأدب” أو “التأصيل الإسلامي للأدب” التزامَ مبدع بمنظومة الخبرات والقيم الفكرية للإسلام، وتقديمها للناس بأشد وتائر المَقدِرة على التأثير، يوازيها سعي مرسوم لهدم القيم الوضعية المضادة في الفكر والأدب والحياة.
ولكن بما أن الإبداع الأدبي في أجناسه كافة ينطوي على بعد آخر يلتحم بالبعد الفكري، ويمكنه من التأثير في المتلقي، وذلك هو منظومة القيم الجمالية، فإن التأصيل الإسلامي للأدب يتحتّم ألاّ يغفل عن إيلاء الاهتمام البالغ بهذا الجانب، وأن يبحث ما وسعه الجهد عن بدائل إسلامية للقيم الفنية الشائعة في الآداب العالمية، رغم إقرارنا -مسبقاً- بأن معظم هذه القيم يحمل وجهاً محايداً يمكن توظيفه في هذا المذهب أو ذاك.
ومع المضمون الفكري والقيم الجمالية، لا بد للأدب الإسلامي -وهو يسعى إلى المزيد من التأصيل- من أن يشكل منهجه المتميز في النقد والدراسة الأدبية، أسوة بما فعلته وتفعله جل المذاهب والمدارس النقدية في العالم.