إن نزول الإنسان على هذه الأرض لم يكن عبثا، وإنما كان لمقصد أسمى وهو عبادة الله سبحانه وتعالى. ومفهوم “العبادة” لم يكن في أصله ضيقا كما يعتقد بعض الناس، وإنما يشمل جميع حركات المكلفين وسكناتهم بحيث تصبح داخلة في قانون الامتثال لله تعالى، ومن ذلك تعتبر عمارة الأرض من صلب الأعمال التعبدية. لذلك فالتكريم للإنسان بجميع أنواعه كان -أصلا- من أجل تحقيق هذه الغاية، إلا أنه مع مرور القرون المتطاولة نسي الإنسان المقصد من خلقه، وغابت عنه الحكمة من وجوده، فكانت ذلك مجالا مناسبا لبعثة الأنبياء، وتقييض الصالحين والحكماء من أجل تنبيه الناس إلى المقصد من خلقهم. وفي العصر الحديث لما تطورت الحضارة الإنسانية ماديا، وبلغت شأوا عظيما اختلف الناس في النظر إليها، حيث ظهر فريقان على طرفي نقيض أحدهما، وهو من ظاهرية الفهم للنصوص الدينية: ذهب إلى أن هذه الحضارة وما يتعلق بها من تحديث وتطوّر مُعارض للدين ومناف لقيمه، والفريق الثاني، هم بعض أدعياء الحداثة: ذهبوا إلى أن التدين وصف معرقل للحضارة، وبرروا نظرتهم للموضوع بتصرفاتِ طائفة محسوبة على الدين، من الذين أساؤوا فهم الدين ومقاصده، فنشأت عن ذلك معارك فكرية بين فريقين عظيمين في الأمة على مدى قرنين من الزمان تقريبا منذ ظهور النهضة الحضارية الأوروبية الأولى.وآناء هذا الجدال الفكري تم تداول مصطلحات يصدم بعضها البعض كالتحضر والتدين، والحداثة والرجعية، والتفتح والتزمت… إلخ، واستمرت النقاشات السفسطائية دون جدوى، وضيعت أزمانا وجهودا وأقلاما من غير طائل بسبب إشكال مفتعل، أو بسبب عدم تحرير محل النـزاع. ولو أن الفريقين احتكموا إلى الفهم الصحيح للدين والتاريخ والواقع والعقل لما اضطروا إلى هذه المنازلة الفارغة، ولكسبوا شروط التقدم، ولارتقت الأمة مرتقى عظيما، ولكن هؤلاء وهؤلاء احتكموا إلى مجرد التعصب والأغراض وقبلوا بجدوى النـزاع، فلم يفتروا عن إحياء إشكاله كلما سعت الأمة للنهوض والتقدم، معرقلين سيرها بقوة أكثر من حجم المشكل أصلا الذي وقع بشأنه الخلاف.
وفي هذه السطور التي نتشرف بكتابتها في مجلة “حراء” الغراء يليق بنا إثارة الموضوع لا لنعيد إحياء المعارك القديمة، وإنما لفتح الآفاق أمام نظرة مستقبلية جديدة تدفع بمسيرة الأمة الحضارية إلى الأمام دون تعثر، ساعية نحو الشهود، غير ملتفتة لسفاسف الخواطر، ولا لعوادي الدهر، ملتمسة الطريق الوسط للنظر إلى أمور الدين والدنيا. من هذا المنطلق نحاول تحرير محل النـزاع، بتفسير مصطلحاتِ؛ التحضر والحضارة، والدين والتدين، متتبعين في ذلك منشأ خصائص التقدم وعلاقتها بالدين، وكاشفين النقاب عن الوهم الواقع في المسألة، وعن الفرق بين التحضر وأدعيائه وبين الدين وسوء فهم الدين، مستندين إلى التاريخ وأهله، والواقع ومقتضياته، ونصوص الوحي ومقاصدها، موجهين كل هذه الفروق والتدقيقات نحو تطوير نظرة إيجابية للموضوع وبالله التوفيق.
مفهوم التدين
يطلق الدين في كتب اللغة عموما على ما يلي: العادة، والعبادة، الطاعة، الجزاء، القضاء، المجازاة، الحساب، الحكم، الإكراه، الإحسان، الحال، الداء، السيرة، الورع، الاستيلاء، السلطان، الملك، الذل، العز، الخضوع، الإسلام، التوحيد، كل ما يتعبد به.. إلخ. وتتوزع هذه المعاني اللغوية على حسب ما تضاف إليه لفظة الدين، فبالنسبة لله عز وجل تعني القهر والسلطان والعظمة والعزة وكل ما يدور في فلك هذه المعاني من التعظيم، ويكون الدين بالنسبة للفرد المتدين الخضوع والانقياد لمن دان له، ويكون المعنى بالنسبة لقولنا “دان بكذا”: الشريعة والقانون الذي التزم به المتدين والتزم بالسير على قواعده وهو المتعبد به.
وفي الاصطلاح عرَّف علماء المسلمين الدين بتعريفات كثيرة أشهرها وأجمعها هو أن الدين “وضع إلهي يسوق ذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات”، وهو ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم. فإن الوضع الإلهي-هنا- هو الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء عليهم السلام. والتدين -بناء على هذا التعريف- هو التزام هذه الأحكام والسعي لتحقيق مقاصدها في الأرض. وسلامة التدين تتركب من أمرين أحدهما: الفهم الصحيح لهذه الأحكام، وثانيهما: الاتباع السليم لهذه الأحكام الإلهية وبتجرد كامل من الأهواء الذاتية.
فطرية التدين
الفِطرة بالكسر الخلقة أي الطبيعة التي صور عليها اللهُ تعالى الخلق في الأصل قبل طروء التغيرات الواقعية عليه. فالإنسان قبل وقوع المؤثرات الخارجية عليه متدين بطبعه، حيث الدين كان ملازما له منذ القديم وإلى عصرنا الحالي. وبالرغم من ظهور بعض الثقافات اللادينية في العصر الحديث ما زال أربعة أخماس من سكان العالم متدينين بصورة عملية. ويدل على فطرية التدين أدلة نقلية وأخرى عقلية. فمن الأدلة النقلية:
قول الله عز وجل: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(الروم:30) بمعنى اتبعْ فطرة الله، أَي خِلقة الله التـي خلق عليها البشر وهي الدين الصحيح. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “كلُّ مولودٍ يولَد علـى الفطرة”، معناه أن الله فطر الخلق على الإيمان به والفطرةُ منه الحالة، كالجِلسة والرِّكبة، والمعنى أنه يولد على نوع من الجبلّة والطبع المتهيّئ لقبول الدّين، فلو تُرك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يَعْدل عنه من يَعْدل لآفة من آفات البشر والتقليد. وقيل: معناه كلُّ مولودٍ يولد على معرفة الله تعالـى، والإقرار به، فلا تجد أحدا إلا وهو يُقِرّ بأن له صانعا، وإن سمّاه بغير اسمه، ولو عبَد معه غيره.
والحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن أبي بن كعب في قول الله عز وجل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾(الأعراف:172)، قال: جمعهم فجعلهم أرواحا، ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، قال: فإني أُشهد عليكم السمواتِ السبعَ والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم عليه السلام أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، فلا تشركوا بي شيئا، إني سأرسل إليكم رسلي يذكّرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك، فأقروا بذلك”.
أما الأدلة العقلية فتتلخص في أمرين أحدهما: قدم التدين في أغلب الحضارات الإنسانية، والثاني: استمرار التدين في أغلب البشر وملازمته للتفكير والسلوك البشريين.
وإذا ثبتت فطرية التدين فإنه من المستحيل إقناع البشر بالفراغ الروحي والعبث واللامعنى، لذلك باءت جميع محاولات اللادينيين بالفشل عند عزمهم هدم عقائد الأديان لكون هذه الأخيرة تدعمها الفطرة الإنسانية، وما يدعون إليه تمجه الطبيعة البشرية. من هنا وكما سوف نرى لن تستغني الحضارة الإنسانية عن دعم الفطرة الدينية لتوجهاتها.
مفهوم التحضر وعناصره
بالرغم من التطور الحضاري الذي شهده الإنسان بقي مفهوم الحضارة من المفاهيم التي يتعسر التدقيق في معناها: وقد حاول الكثير من علماء الحضارة البحث في محددات موضوعية للتحضر والتي تسمح بإطلاق لفظ الحضارة على سلوك مجتمع ما، وفي بحثهم هذا توصلوا إلى عدة أنواع من العناصر التي بتوفرها يمكن الحديث عن الحضارة.
1-التعقد والتمدن: بالنسبة لمعيار التعقد يمكن القول أن المجتمع المتحضر هو المجتمع الذي بلغ درجة من التعقيد والاختلاف بين أجزائه وأعضائه بناء على مهام وأنشطة، مما يجعل حجم هذا المجتمع يتجاوز الخلية الاجتماعية البسيطة مثل العشيرة أو القبيلة.
وبالنسبة للتمدن أو التعمير، فإن التمدن (أي تشكل المدن وتكاثر البنيان والتعمير) معيار محدد للحضارة وهو من منازعها كما عند ابن خلدون. وعند الأركيولوجي البريطاني “جوردون تشيلد”. التمدن ليس هو منطلق الحضارات فحسب، وإنما هو الرمز والنتيجة. فبناء على هذا المعيار نميز بين حضارة ما قبل التمدن، والتي لم تأخذ منحاها الحقيقي إلا بعد ظهور المدن، إذ الحضارة بحسب هذا المنظور وإن ظهرت قديما فلم تتضح معالمها إلا مع ظهور الأشكال الأولى من مدن ما بين النهرين “ميزوبوتامي”، ثم تتابع التمدن في العصر البرونزي منطلقا من ثلاثة معاقل هي الميزوبوتامي، وهي ما بين نهري دجلة والفرات، وحوض النيل، وحوض نهر الهندوس. وحسب جوردون تشيلد فمعيار التمدن يشمل المعايير الأخرى، إلا أنه يبقى أوضحها لأنه في المدن يمكن تجميع الجهود، وترسيخ البنيات الاجتماعية والأنشطة المتخصصة التي تتيح الفرصة للاختراعات والتطورات التقنية والفكرية.
2-معيار التقنيات: حيث يعتبر التطور التقني معيارا محددا لمعنى الحضارة عند الكثير من المؤرخين، ولاسيما المتخصصين في التاريخ القديم، حيث اتخذوا هذا المعيار قاعدة لتصنيفاتهم، إذ اتضح لديهم أن الإنسان استعمل المعدات المخترعة وفق ترتيب معين من الحجر المنحوت إلى الحجر المصقول، وصولا إلى المعادن والفلزات، ومن جهة أخرى وبصورة ترتيبية كانت البداية بتربية المواشي ثم الفلاحة ثم استعمال الطاقة المائية الهيدروليكية، وصولا إلى الصناعة. إلا أن استعمال التقنيات لا يأخذ معناه الحضاري إلا إذا وضع في نظام اجتماعي يعكس توجهه الاقتصادي، فمن جهة تطور الفلاحة أنتج نظام الملكية الذي أدى بدوره إلى الصراع بين الطبقات حسب ماركس وأنجلز والتي تعد عندهم العنصر المحرك للحضارة والتاريخ.
3-معيار العوامل الفكرية والمعرفية: والتطور التقني بدوره عموما هو نتيجة للتطور الفكري والمعرفي. ويعتبر ظهور المعارف والعلوم والفنون والكتابة، السمة الأساسية لأغلب الحضارات الكبرى المشهورة. ففي هذه الحضارات ظهرت علوم الهندسة والرياضيات والفلك وباقي الفنون. فمن هنا يتحدد معنى الحضارة بتوفر هذه الأنشطة الفكرية والمعرفية.
4-المعيار الديني: وهو الأصل في هذه المعايير كلها، فالملاحظ أيضا أن أغلب الحضارات الكبرى ارتبطت بالدين، بل إن التمدن الذي هو أساس الحضارة قام حول المعبد كرمز مقدس يجتمع فيه الناس، ويستقرون وينشطون تجاريا حوله. ومن ثم ساد عند كثير من علماء الحضارات تصنيف الحضارات الإنسانية بناء على المعيار الديني، فيقولون حضارة مسيحية، حضارة إسلامية… حيث كان للدين الأثر الكبير في قيام حضارات كبرى في التاريخ واستمرارها على مدى آلاف السنين، لأن الدين يمتلك أهم مقوم لذلك، وهو القيم والمبادئ أو الفكرة الدينية على حد قول الحكيم مالك بن نبي.
ومجمل القول: إن مصطلح الحضارة يستعمل لأداء معنيين اثنين أحدهما: نظري يتوجه إلى القيم والمبادئ والمعتقدات والأفكار التي تحدد نمط تلك الحضارة، وتصبح هذه القيم ميزتها الأساسية، وهنا تلتقي الحضارة مع الثقافة كما ذهب إلى ذلك ثلة من أهل الاختصاص، وهنا أيضا يبرز أثر الدين في صنع الفكرة المؤسسة والمحرضة على البناء الحضاري. وثانيهما: معنى عملي، ويقصد به نمط الحياة التي يحياها الفرد والمجتمع، ولاسيما في بعدها المادي العمراني، وهنا تترادف الحضارة مع المدنية.
خصائص التحضر
إن التحضر بوصفه سلوكا عاما وشاملا، وظاهرة تصنف بحسبها الأمم لابد وأن يتجلى في الواقع، متميزا بخصائص يختص بها. وعبر النظر في التاريخ ومسار الأمم في تطورها ورقيها يمكن استنتاج مجموعة من السمات البارزة للتحضر، منها:
الكسبية: إن التحضر أمر كسبي وليس شيئا جبليا، وإن كانت المهيئات للتحضر جبلية في الإنسان بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(البقرة:31) أي أصول العلوم كلها التي بنيت عليها الحضارة وشيد على أساسها العمران.
الاشتراك بين الأمم: بمعنى أن الحضارة الإنسانية هي نتاج جهود وإسهامات جميع الأمم. فكل أمة أدلت بدلوها في تشييد صرحها من خلال علم من العلوم أو فن من الفنون أو اختراع أو اكتشاف، ولم تقم الحضارة البشرية من فراغ، وإنما هي نتيجة تراكم قرون من الناس من مختلف الأجناس ومن مختلف بقاع الأرض. وإلى هذه القاعدة ذهب أغلب علماء الحضارة، حتى قالت المستشرقة الألمانية المنصفة زيغريد هونكه: “بساط الحضارة بساط نسجته وتنسجه أيد كثيرة، وكلها تهبه طاقتها وكلها تستحق الثناء والتقدير”، وقال أحد الحكماء: “إن علم العالَم مبثوث في العالَم بين جميع من في العالَم”. وعلى هذا لا تصح دعوى التفرد بالإنجاز الحضاري التي صدرت في بعض مراحل العصر الحديث من لدن بعض مؤرخي الفترة الاستعمارية، حيث بمقتضاه صنفت الأمم إلى مبدعة وأخرى مستهلكة متوحشة.
التداولية: فالتحضر دول بين المجتمعات البشرية، إذ ينتقل بين الأمم بحسب استعدادها، وقابليتها لمقوماته ومقتضياته. فأيما أمة نهضت ونفضت غبار التخلف عن طريقها استطاعت أن تكسب دورها وموقعها بين الأمم المتحضرة، إذ ليس التحضر والتخلف أمرين جبريين دائمين، فكم من حضارة كانت شامخة وانهارت إلى الحضيض وكم من أمة متخلفة نهض أبناؤها وارتفعت إلى مصاف الرقي، والتطور. وهنا يسقط ادعاء أي مجموعة بشرية الانفراد بالتحضر، فقد تدور الدائرة وتضعف مقدرات أفرادها عن العطاء ويسلب منها ذلك التقدم إلى أجل غير مسمى.
التطبع: للتحضر أوصاف تتصف بها الأمة المتحضرة حتى تصطبغ بها، وتصبح بمثابة طبائع لصيقة بها تميز تقدمها على غيرها من الأمم المتخلفة. فالتحضر بما هو وضع إيجابي له طبائعه الإيجابية، كالعلم والنظام والحوار والعمران والنظافة والحفاظ على البيئة، وحسن استعمال الموارد الطبيعية والأمن والعدل والسلام.وقد تمر القرون المتطاولة وتعرف تلك الأمة بتلك المكارم. وفي مقابل التحضر يأتي النقيض له “التخلف”، الذي هو وضع سلبي له خصائصه السلبية، حيث يعرف بعلامات التقهقر والانهيار وفقدان القيم والجهل والفوضى والتظالم والتهالك والعنف والتدمير والقذارة… وقد تمر أزمان طويلة ولا تنفك أمة عن هذه العلامات حتى تعرف بها.
التحضر والتدين: تقارب المقاصد وتكامل الوسائل
فبعد تعريف الدين وبيان فطريته، وتحديد مفهوم التحضر وجرد خصائصه، يسوغ الحديث عن إمكانية التواصل بين الطرفين. وذلك يستقيم أمره على مستوى المقاصد والوسائل المؤدية إليها، ولاسيما إذا علمنا أن لكل من الدين والحضارة مقاصد يتوق لتحقيقها حكماء البشر. وعند إجالة النظر في منطلق الدين وفي مساعي الحضارة البشرية، نجد أن هناك تقاربا بين ما جاء به الأنبياء كمقاصد لشرائعهم الموحى بها، وبين ما انتهت إليه العقول الراجحة من أصحاب الحكمة والمعرفة. فالشرائع من جهة لا تناقض قضايا العقول، والعقول السليمة لا ترفض الشرائع، فيوشك أن تتحد المقاصد العمرانية وتتكامل الوسائل والطرائق لتحقيقها.
فمن جهة تقارب المقاصد بين التدين والتحضر يتجلى الأمر عند الكشف عن مقاصد كل واحد من الطرفين على حدة. فبالنسبة للدين الصحيح بوصفه أحكاما وشرائع تنظم حياة البشر في هذا الكون لم يأت إلا لمصلحة البشر، حيث نصت الشرائع السماوية على أن المقصود من أحكامها صلاح الخلق وعمارة الأرض ومحاربة الفساد والضرر. وهذه الغايات هي ما عبر عنها علماء الأصول بمقاصد الشريعة من الخلق، يقول الإمام الغزالي: “نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة”.
وهذه المقاصد الدينية من الاجتماع الإنساني كما هو واضح تؤول إلى حفظ خمس ضروريات “الدين والنفس والعقل والنسل والمال”، بها تتحقق السعادة البشرية الدنيوية والأخروية. يقول الإمام الشاطبي: “فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين”.
أما بالنسبة لمقاصد البشرية من التحضر فقد ذهب الجمهور من عقلاء البشر، من فلاسفة وحكماء ورجال العلم المنظرين للاجتماع البشري، إلى أن المقصود الذي يطمح إليه الإنسان في اجتماعه ومدنيته يحوم دائما حول تحقيق السعادة البشرية، باستيفاء الرغبات والحاجات المعقولة والممكنة للبشر. وهذا مذهب أغلب محبي الحكمة بدءا من أوائل الحكماء والفلاسفة كأفلاطون في جمهوريته، والفارابي في مدينته الفاضلة، وابن سينا في سياسته المدنية… انتهاء بالعصر الحديث حيث نادى جمع غفير من علماء ومفكرين بتوجيه الحضارة نحو تحقيق السعادة البشرية. واستمر الأمر على ذلك في عصرنا الحالي إذ لا يختلف أهل الفكر في ضرورة ترشيد التحضر والتقدم نحو إسعاد البشر. وكثير من هؤلاء حاولوا تحديد معايير محددة لهذه السعادة، وعموما تدور آراؤهم على تحقيق الأمن والسلام والكفاية وجميع مقومات استمرار الوجود الإنساني المادي والروحي…
ويتحصل من هذا أن هناك اتفاقا بين الأنبياء والحكماء على السعي إلى تحقيق السعادة الإنسانية، فالأنبياء دعوا من خلال ما جاؤوا به من شرائع إلى إصلاح حال البشرية بالحفاظ على القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة، وعلى رأسها تلك الكليات الخمس الضرورية. والحكماء دعوا في نظرياتهم أيضا إلى مدن فاضلة يسودها الأمن والسلام والعدل.
ومن جهة تكامل الوسائل المؤدية إلى هذه المقاصد فيمكن القول إنه إذا تقرر اتحاد وتشابه الأهداف، فالوسائل قد تختلف بين الأديان السماوية نفسها وإن اتحدت عقائدها، كما تختلف بين الحكماء والمفكرين. وذلك أمر طبيعي لكون هذه الوسائل ما هي إلا إجراءات عملية تخضع إلى التقديرات الزمنية المشخصة حيث يختلف ذلك بحسب الظروف والأحوال. ولئن كان اختلافها بين الدين ورجال الحكمة ليس اختلاف تضاد وتناف، إنما هو اختلاف تكامل. فإنه مثلا إذا نص الدين على تحسين وسائل وتقبيح وسائل أخرى نجد في الغالب أن هناك تواطؤا بين أهل الفكر ومنظري الحضارات الإنسانية على ما يقارب نفس التصنيف. لذلك في الغالب لم تخرج مواثيق حقوق الإنسان والقوانين المدنية والجنائية عما تقرر من مبادئ في الدين كالإقرار مثلا بحرية الإنسان، وحقوقه المادية والمعنوية. وكذا وجوب الوفاء بالعقود وتحريم التظالم وقبح الجرائم، كالقتل والسرقة والاغتصاب والتعذيب إلى غير ذلك من أمور عليها قامت المدنية المعاصرة.
نحو تدين صحيح وتحضر إيجابي
يحاول طائفة من أهل الفهم التبسيطي للدين، البحث في نصوص الوحي للعثور على ما به يعارضون بعض مقتضيات الحضارة، بدعوى مخالفتها لما يرونه أحكاما دينية وخروجها عن الشريعة بالكلية، ممثلين ببعض الجزئيات التي لم يأخذوا بها ضمن إطارها المقاصدي التشريعي، كبعض ما ورد في النحت والتصاوير والزخرفة وبعض أنواع اللباس وبعض الآلات التكنولوجية وغير ذلك مما لا يستقيم شاهدا على ما يقولون، بل قد يكون مرده إلى بعض الفهوم البدوية للدين التي قد تكون وليدة بيئة معينة بعيدة عن فهم الدين من جهة وعن إدراك عمق الحضارة من جهة أخرى.
وهذا الفهم الشاذ لهذه الطائفة قد يكون حجة عند أولئك المتطرفين في الجانب الآخر، الرافضين للتعامل مع الدين بشكل إيجابي؛ إلا أنه وفي ضوء ما سبق يمكن التعقيب على الطائفة الأولى باستقراء نصوص الوحي والنظر إليها في ضوء مقاصد الشريعة الكلية. فالذي يتتبع نصوص القرآن الكريم يعثر على كثير من الأوامر والمندوبات لأجل دعم مسيرة الإنسان نحو عمارة الأرض، وحسن استثمار مسخرات الكون، وحماية الأرض من الفساد بعد الإصلاح، والنهي عن الظلم والاعتداء إلى غير هذا من أمر بالفضائل ونهي عن الرذائل، حتى قال الإمام العز بن عبد السلام: “والشريعة كلها مصالح، إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح. فإذا سمعت الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه أو جمعا بين الحث والزجر”.
ويمكن التعقيب على الطائفة الثانية بأن الدين لا يؤخذ من مجموعة بشرية قليلة تدعيه، وإنما يؤخذ من مصادره الأصلية، في ضوء قواعده الخاصة، كما لا يمكن التسليم بلزومية التقدم في حالة التخلي عن الدين، وإنما قد يحصل العكس. فكما أسلفنا فالدين يعد من أهم المعطيات والشروط المؤسسة لأولى الحضارات ولأكبرها أيضا، وما زال الدين معينا لا ينضب للقيم والمثل العليا لأغلبية سكان العالم، حتى قال أحد علماء الحضارة المحدثين: “إن الدين يستجيب لحاجة عميقة في الإنسان، ولو شئنا أن نعبر عن هذا بمصطلحات الفلسفة الوجودية لقلنا: إنها الحاجة لقوة الوجود التي تهزم اللاوجود الذي نلقاه ونعانيه في تجارب الموت، والعذاب والإخفاق والظلم والإثم وفقدان المعنى. ولو شئنا أن نعبر بلغة بسيطة مألوفة لقلنا: إن الدين يستطيع أن يمدنا بالمعنى الأخير للحياة، بمصدر وجودنا وغايته، أي بالإجابة عن السؤالين الخالدين، من أين، وإلى أين؟ وهو يستطيع أن يضمن لنا قيما عالية ومعايير غير مشروطة، أي علة مسؤوليتنا والهدف منها. والأديان حريصة على سعادة الإنسان، وذلك بتقديم التوجه الديني الأساسي أي السند والعون والأمل، ومنحنا الكرامة الإنسانية والحرية الإنسانية، والحقوق الإنسانية، أي الأساس الذي يرتكز عليه العمق النهائي”.
وإذا اتضحت استحالة الانفصال بين الدين و التحضر، فدعوتنا قائمة من جهة لأجل فهم الدين فهما صحيحا يتم به نفع البشرية لتحقيق مقتضى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107)، حيث لم يقل “عنتا ولا مضرة للعالمين”، ومن جهة ثانية ينبغي توجيه الحضارة الإنسانية إلى الحفاظ على القيم النبيلة، والتعامل بإيجابية مع الأخلاق الفاضلة. فإنها سر استمرارها وتوازنها، وانعدامُها يؤدي إلى خرابها وخراب العمران بعبارة العلامة ابن خلدون.
أعظم الإنجازات الحضارية ذات منطلق ديني
إن المعيار الديني في تشكيل المبادئ والقيم التي تبنى عليها حضارة ما، أمر مقرر بشواهد التاريخ والواقع، بل وحتى المنجزات المادية للحضارة كانت عبر التاريخ تستلهم من الدين وتسترشد به في تشييد صروحها. فبالاستقراء عبر آثار الأمم ومتاحفها، نجد أعظم المباني هي للمساجد والكنائس (أي أماكن العبادة). وأنفس التحف الفنية هي ما تركه نبي أو رسول أو حكيم أو راهب (أي رجل دين)، أو فنان أنجزه لغرض ديني، وأكثر من هذا تعتبر المخطوطات الدينية المحفوظة في الخزانات العالمية أعظم إرث ثقافي وحضاري مخلد في التاريخ، حتى إنه ما عرفنا الكتابة و اللغات إلا بالكتب المقدسة، بل وأعظم من ذلك هو أن الإشكاليات الوجودية ذات الأثر في تطوير علوم الفلك والهندسة والجغرافيا… انطلقت من الحلقات الدينية. ومن هناك يتبين أنه من الصعب قبول تنكر أدعياء الحداثة للإسهام الديني في بناء ما تتمتع به الإنسانية اليوم من مقومات الاجتماع البشري السعيد.
نحو توأمة التحضر والتدين
إذا تقرر أنْ ليس هناك تعارض بين التحضر والتدين في حقيقة الأمر، وإنما التعارض ناشئ عن الأفكار المسبقة لبعض الناس نتيجة سوء فهم للنص أو الواقع، فإننا وبناء على معطيات معرفية وتاريخية وحضارية يمكن الخلوص إلى وجود تلازم بين الدين والتحضر منذ القديم، ويعسر الفصل بينهما. وكل من سعى إلى فرض التعارض بينهما وقع في خلط عظيم، وورط مجتمعه في صراعات لا تنتهي، تنجم عنها جراحات لا تلتئم قد تسوق الأمة إلى مدارك التخلف.
ومن منظور مستقبلي: فبدل أن نسعى إلى إثبات الفروق والهوات بين الدين والحضارة، فإنه يليق بالأمة بجميع أفرادها الانخراط في توأمة إيجابية بين التدين والتحضر من خلالها تصبح الحضارة خادمة للمقاصد النبيلة للدين، ويصبح التدين عملا إيجابيا ومغنيا لمسار تطور الحضارة. فكما لا يخفى أن التحضر دون مبادئ وأخلاق يوشك أن يؤدي إلى الخراب، وأن التدين دون عمارة الأرض تدين ناقص، مخل برسالة الإنسان فوق هذه الأرض، فحتى ولو كان الظرف شديدا كقيام الساعة أَمَرالدين بغرس الأشجار والحفاظ على العمران، مصداقا للحديث الشريف: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها” (رواه الإمام أحمد).
فكل ما يريده الدين من الحضارة هو الحفاظ على القيم الإنسانية النبيلة المجملة في مقاصد الشريعة الضرورية. وكل ما تطلبه الحضارة من الدين هو أن يكون عنصرا إيجابيا، داعما لتطورها واستمرارها، وهذا حاصل بالنسبة للدين الإسلامي حيث النظر إلى الكون من منظور التسخير، وأكل الطيبات من الرزق، والتعاون على البر والتقوى. إذ رسخ الإسلام بذلك لجمالية رائعة تربط كتاب الله المسطور بكتابه المنشور، بعيدا عن غرائز الصراع والتفكك والعبث.
وختاما يجوز لنا القول إن الإسلام بوصفه، الدين السماوي، البالغَ إلينا كتابه بالمعجزة والتواتر، لم يكن أبدا في يوم من الأيام معرقلا للفعل الحضاري، بل بالعكس من ذلك كان مُنشئا لحضارة مستقلة بذاتها ابتدأت بالأمر بالتعلم “اقرأ”، واستمرت بأوامر الاعتبار في الكون والتفكر والتعلم والحجة والحكمة. وساهمت من جانبها في تطور الحضارة الإنسانية، وقد شهد بهذا العقلاء من الناس شرقا وغربا ومن لدن جميع الأمم.
لذلك لا يليق بالمسلمين اليوم الالتفات إلى دعاوى التعارض والتضاد المفتعلة بين الدين والرقي الإنساني الحضاري، فإن الانشغال بذلك ضرب من التفاهة والسفاهة الفارغة. وإذا تقرر هذا وبانت حجته، فإننا نسجل أن هناك وعيا متناميا لدى فئة عريضة من المسلمين، استطاعوا الجمع بين الأوامر الدينية والمتطلبات الحضارية فأصبح عندهم التحقق الكامل لمفهوم “التدين الحضاري”، حيث اجتمعت فيهم مقاصد الدين ومقتضيات الحضارة، فإن كانوا في الدين فهم الواقفون عند أمره من حيث الالتزام بالأوامر والاجتناب للنواهي. وإن كانوا في الحضارة فهم أهلها الأصلاء، من حيث الذكاء والخدمة والنظام والتمكن البارع من الأخذ بأسباب التحضر دون إخلال بالمقاصد الإنسانية النبيلة من تسامح وكرم ونظافة ورحمة. ذلك هو المنهج الوسط الذي يجمع محاسن الأشياء، وينمي الجوانب الإيجابية أينما كانت، ويتقي المفاسد في أي جهة كانت.
تلك أمة الوسط التي نص عليها القرآن جامعة بين الخيرية في المعاش والمعاد، تغرس الفسيلة والساعة قائمة، لا يثنيها عن البناء خطورة الموقف، ولا مشاكسة المشاكسين.