الركن الوظيفي للبيئة قبل خلق الإنسان

منذ متى كانت البيئة قضية؟ ومنذ متى تولد الأرق في اهتمامات الخلق تجاه بعضه، كي يصير النوع البشري مهموما اليوم بمصير ما حوله من الكائنات، يخشى انقراضها ويخاف ضياعها أو استعمالها في غير ما خلقت له، ويسعى للتعرف عليها وعلى سبل الحفاظ عليها واستدامة جوارها؟
إن القضية البيئية في عمقها الفلسفي هي قضية علم أو جهل، وهي كذلك قضية إصلاح أو إفساد وقضية توازن أو اختلال وقضية تنمية أو ضياع وقضية استدامة أو زوال، وهي في نهاية المطاف قضية بوار أو خلود. والقضية البيئية بهذا المفهوم تولدت في أحشاء النظام الكوني قبل ورود الإنسان عليه سواء في بعدها التكويني الطبيعي أو في بعدها التأطيري العلمي عبر وحي الله وتعليمه لخلقه، من ملائكة أو غيرهم أو في بعدها الغائي كمطية لعبادة الله سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(طه:49-50).
لقد كانت الأرض بيئة بالتكوين عبر التوازنات الطبيعية القائمة فيها، وكانت بيئة بحكم نظرة الملائكة لأثر الاستخلاف فيها، وكانت بيئة بحكم قابليتها للاستخلاف فيها، وكانت بيئة بحكم الغاية من خلقها مهدا لعبادة الله سبحانه وتعالى فيها.

1–الأرض بيئة بالتكوين

قبل الإنسان كانت المنظومة الكونية بأرضها وسمائها، بيئة تصنع على عين الله وتمارس تفاعلاتها الوظيفية بأمر الذي أوحى في كل سماء أمرها، وتعيش فيها الأحياء من نبات وحيوان في البر والبحر بفضل الذي بارك فيها وقدر فيها أقواتها.
﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(فصلت:9-12).
لقد كان الوسط الطبيعي يموج في بعضه بحيه وميته، بجماده ونباته وحيوانه، بأنواعه الصامدة والمنقرضة، بظواهره الطبيعية من زلازل وبراكين وأعاصير وفترات تجمد وموجات حر، بنيازكه وفضائه الكوني الواسع، فكان وسطا طبيعيا في قاعة انتظار.
كان بيئة بتوازناته الطبيعية، خلق بقدر ودبر بلطف، وصار مهادا معدا لاستقبال وافد الاستخلاف فكان هناك تعطش بيئي في هرم الوظيفة الأرضية خلقا وغاية.

2–الأرض بيئة بقابلية الصلاح والفساد

الملائكة كانت تبني فهمها على فكرة استخلاف لا وحي فيها ولا علم بالأسماء فيها. فكان في نظرها استخلافا بالخلقة قد يجنح بصاحبه تلقائيا نحو الفساد وذلك لجهله بالأسماء وبآثار انغراسه في البيئة على وجه الاستخلاف لا على وجه الانغراس البيئي الطبيعي كباقي الأنواع. ذلك أن الانغراس الطبيعي تحكمه سنن تكوينية طبيعية تحدد مكان كل نوع في الهرم البيئي، بينما المستخلف تكون له قدرة التعرف على السنن وخرقها أو الحفاظ على مقتضياتها في عملية الاستغلال. ويكون هذا بتغليب حضور نوع على نوع آخر كما يحدث في الزراعة مثلا حيث تخلى مساحات شاسعة لفائدة نوع من النبات من حبوب وغيرها. وكأن مبدأ الاستخلاف هو مبدأ تمطط الحقوق البيئية للنوع المستخلف صعودا وهبوطا حسب المزاج والشهوة والرضا والغضب والحسد والغيرة والضعف والقوة وحاجته في كل هذا لأمر إضافي غير الأوامر التكوينية، وهو أمر الوحي أو أمر الله المباشر وهداه في كل حال.
ولهذا كان عيش أبينا آدم عليه السلام في الجنة مقترنا بأمر الله بعدم الأكل من الشجرة. وعند هبوطه منها كان قول الله تعالى مبينا له شروط وحكمة الاستخلاف المقصود والمطلوب. ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى﴾(طه:123). كان اقتران الاستخلاف بتلقي الهدى من الله سبحانه وتعالى والتوجيه لدرب العبادة حصنا من الانغراس البيئي المعتمد على الغريزة البيئية وحدها، والتي ستحيد عبر مبدأ قابلية تفعيل الصلاح والفساد لدى المنغرس الجديد.

3–الأرض بيئة بقابلية العبادة فيها

قبل الاستخلاف كانت البيئة الكونية إضافة إلى توازناتها الداخلية وقبولها للانغراس الإضافي للأنواع فيها، بما في ذلك النوع البشري الوافد مستقبلا، تختزن خاصية الحكمة من خلقها. إنها خاصية وظيفة الوجود كمطية لعبادة الله وحده توضع أمانة على عاتق أي مستخلف فيها: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾(طه:55)، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾
(الذاريات:56). وفي مرحلة الخلق والإعادة والإخراج هذه، تستنفذ عملية اللقاء بين الإنسان والكون لتترتب عنها حصيلة العبادة كرصيد لمستوى العمل وفق هدى الله في الحياة الدنيا ينبني عليه بفضل الله سبحانه وتعالى حرث الآخرة.
وتأتي عناصر البيئة منسجمة مع حاجات العبادة وجمالية التوافق بينها وبين مواقيت الصلاة، أو سنن الوضوء أو التقلب في الساجدين عبر بدن خلق في أحسن تقويم تطوى ركبه دون عناء، وتنحني جباهه دون ممانعة من جاذبية الأرض، أو التسريع لحركات الجوارح دون صدام في توازن ودقة من دوران الأفلاك إلى امتصاص الخلايا، أو من نشاط الذرة إلى سريان المجرة.
إنه الإنسان يريد التسبيح فتستجيب شفتاه وحركة لسانه وضغط دمه وحبال صوته ومجاري الهواء في صدره وأمواج الصوت حوله ومصادر الطاقة وغير ذلك من المكونات البيئية في الأنفس والآفاق، مما يستعصي بسطه في هذا المقام. إنها البيئة الأرضية أعدت لتصاغ مكوناتها في عملية التحويل بالعبادة وعلى بساط التوجه إلى الآخرة في ظل الاستخلاف ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾(الأنبياء:16) ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(الدخان:39).
لقد كانت الأرض بيئة بتوازن الخلقة، ثم بيئة بقابلية الانغراس البيئي بالاستخلاف الغريزي، ثم بيئة بكونها مختبرا يقبل الأسماء ويسمح لمن تعلمها باستغلال وتحويل عناصر البيئة لحرث الدنيا أو الآخرة على قدر اهتدائه فيها بروح الوحي: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾(الشورى:20).
إنها الأرض بيئة العبادة والحفاظ عليها وعلى من فيها قمة العبادة والرحيل عنها أقوى دافع لحسن تحويلها لأنها مطية استدامة ما بعدها.