هذه باقة نضرة يانعة، وتحية عطرة يافعة، نهديها للذين أحبوا مصر وآثروها بهذا الصرح العملاق “مدرسة صلاح الدين الدولية” فبنوا بذلك في قلب كل مصري صرحا من الحب الوثيق، والتقدير العميق، للشعب التركي الشقيق، قمة ووسطا وقاعدة.
نحن بإزاء ركائز ثلاث: 1-المدرسة. 2-صلاح الدين. 3-الدولية.
تمثل هذه المدرسة قيمة حضارية باسقة، تعني المجال المهيأ والملائم للتربية والتعليم، وسط مجتمع نموذجي يضم الطلاب الذي سيفدون إليها من شتى ربوع مصر، ومن مختلف أطيافها ليحظوا برعاية علمية رفيعة المستوى يتساوق فيها شخذ الهمّة، بتوقد العزيمة، باكتشاف الموهبة، باستثمار هذا وذاك في تنمية علاقات التنافس العلمي، والتآخي الإنساني والتعاون العالمي، والذي ينشأ في مراحل هذه المدرسة ليتساوق مع طموحات أبنائها حتى بعد أن يتخرجوا فيها مهما تناءت بهم الأقطار، أو تنوعت فيهم التخصصات، أو تفاصل بينهم الزمن.
أساتذة وطلاب
وأحسب أن مجتمع المدرسة سيمثل بأطيافه الدولة مصغرة:،ويوجه إلى نهج التعاطي والتفاعل الذي ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين المواطنين؛ الأمر الذي سيراه الطلاب مطبقا في هذه المدرسة ذات السمات المتميزة، والتي سيرون فيها اختلاف المواد، وتنوع التخصصات، بيد أنهم سيعلمون عن أساتذتهم قوة التلاحم بين أصول هذه المواد، وعمق التآخي بين غاياتها. وذلك لتكوين المواطن الصالح أسريا ومجتمعيا، والطالب النموذج علميا وأخلاقيا، والتلميذ الإنسان محليا ودوليا.
وأحسب أن الأساتذة -هنا- سيمثلون بآفاقهم الثقافية الرحبة وبأخلاقهم الإنسانية السمحة مُثُلا عليا يجد فيها الطلاب نِعم الأسوة ونعم المثل! كما أحسب أن عاطفة الأبوة ستكون صاحبة القدح المعلىّ في المدرسة لدى مدرسيها. وسيلمس الطلاب مدى حرص أساتذتهم على إفادتهم علميا، وعلى تزكيتهم أخلاقيا، بل سيرون هؤلاء المدرسين أشد ما يكونون حرصا على تفوق أبنائهم وتلاميذهم، لا بين لداتهم وأترابهم فحسب، وإنما بين النماذج المتفوقة عالميا ودوليا.
فأي مستوى رفيع ذلك الذي تسعى مدرسة “صلاح الدين الدولية” إلى بلوغه وتحقيقه؟
قد رشّحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وسيرى الأساتذة أن تلاميذهم غَدوا أبناءً بررة لهم، تَعْمُق في قلوبهم قيمُ التوقير والإجلال، وتعْظُم في نفوسهم شيمُ المحبة والإكبار لمعلميهم الآباء، وآبائهم المعلمين الذين أعطوا المثل في الثقافة الواسعة، والعلم الغزير والأبوة الحانية.
وأكاد أوقن أنه سيكون لهذا وذاك ردّ فعل حميد بل ودود لدى السادة المدرسين؛ يدفعهم إلى مضاعفة الجهد، وبذل أقصى ما يستطيعون لتنمية مهارات أبنائهم، يغمرهم الرضا ويحدوهم الأمل، ويحتويهم مزيج من السعادة والثقة.
وعندئذ سنرى كيف ستعود للمدرس هيبته، وكيف ستعظُم مكانته الأثيرة في نفوس تلاميذه وبنيه.
أجل، وسيلمس المدرس -وهو في المدرسة- كأنما هو في بيته يحوطه بنوه بما يجب عليهم نحوه من بر وتوقير لقاء ما يلقيهم -هو- من عطف ومرحمة، وتعليم وتربية، وحرص حريص على أن يبلغ بهم أرفع مستوى علمي وأخلاقي معا.
أبوة الأستاذ وبنوة التلميذ
هذا وذاك، أعنى الأبوة من الأستاذ والبنوة من التلميذ هما مفتاح النجاح والتطور والإبداع في العملية التعليمية.
وقد اصطفى الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم معلما للدين، ومزكيا للخلق كما قال تعالى ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾(آل عمران:164)
وإذًا فقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم معلمًا، كما بعثه متمما لمكارم الأخلاق؛ وفي الأمرين عز الدنيا وسعادة الآخرة.
بيد أن نجاح المعلم يكمن في حرصه الحريص على هداية من يعلمهم ثم في رأفته بهم وحنوه عليهم، ولا يتم ذلك إلا بالأبوة الحانية التي ينبئ عنها قوله صلى الله عليه وسلم ” إنما أنا لكم مثل الوالد، أعلمكم” (رواه أحمد).
وبالتَّناغم بين الأبوة والتعليم فيها تُجسِّد لنا المدرسة أمرًا من أمد بعيد:
كان حُلْمًا، فخاطرًا، فاحتمالا ثم أضحى حقيقة لا خيالا
أعني ما سبق أن تَغَنَّى به الشعراء، وتَمنى تحقيقَه الآباء، عرفانا بحق المعلم، وتوخيا لحسن الإفادة منه، وقياما بما يجب له من حق؛حيث قال قائلهم:
قـم للمعلـم وفِّـهِ التبجيـلا كاد المعلم أن يكون رسولا
أَعَلمتَ أشرف أو أجلّ من الذي يبني وينشئ أنفسا وعقولا
وسندرك بعدئذ أن المواءمة بين المحلية والدولية، وبين الدين والدنيا، وبين العلم والخلق، وبين التربية والتعليم، وبين الأبوة والتدريس… إلى آخر ما تتميز به هذه المدرسة… سندرك أن هذه المواءمة هي التي ستُظْفِرُنَا من الطلاب بالنموذج الفريد في بيته، والمتميز في ثقافته، والبار بآبائه في بيته ودراسته، والصديق النافع لمجتمعه وبيئته، والسفير بعلمه وإبداعه إلى العالم -بعدئذ- من حوله.
وهذا النموذج الفارد من الطلاب، هو الذي يرى فيه القاصي والداني: أن يكون منه بمشيئة الله وعونه: العبقري والمبتكر والمفكر والمخترع، مع نبل في النفس، وزكاء في الخلق، وسمو في السلوك.
وهذا النموذج الفريد هو الذي سيتجدد لنا به خطاب الدين متسقا مع العقل والعلم والحكمة مبشرا بحاضر مشرق وغد واعد مصداقا لنحو قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(النحل:97). ذلك وقد أحطنا بالركيزة الأولى خبرا.
إيحاءات من اسم “صلاح الدين”
أما الركيزة الثانية فهو أنها مدرسة صلاح الدين. وهو يوسف بن أيوب المظفر صلاح الدين الأيوبي، الملك الناصر (532-589هـ/1137-1193م).
أصله من أذربيجان، وولي أبوه أعمالا في بغداد والموصل ودمشق ،هذه المدينة التاريخية التي كانت حاضرة الخلافة الأموية، وبها نشأ صلاح الدين، وترعرع بين أفيائها العلمية وتفقه وارتوى من الأدب، وروى الحديث بها والإسكندرية، فبينه وبين كل شاد في الفقه والأدب والحديث صلة حميمة، وآصرة وثيقة، ووشيجة تاريخية.
نذكر له بكل الفخر والاعتزاز أنه رغم قساوة الظروف السياسية –آنئذ- وتجمُّع الغرب كله على الشرق ما وهن ولا ضعف ولا استكان، وبفضل الله عليه ثم بعمق إيمانه، وصدقِ يقينه، وريّا ثقافته الفقيهة والحديثية والأدبية استطاع أن يقود الأمة ويعبر بها من الفرقة إلى الوحدة ومن الضعف إلى القوة ومن اليأس إلى الأمل، وكوّن القوة العلمية والإيمانية والعسكرية، كما شحذ عزائم الجيوش، وجنّد طاقات الشعوب حتى دانت له البلاد من آخر حدود النوبة جنوبا إلى برقة غربا، ومن بلاد الأرْمن شمالاً إلى الجزيرة والموصل شرقا، فرد الأعداء على أعقابهم حتى ولّوا مدبرين، واسترد عكا وطبرية ويافا والساحل الشمالي إلى ما بعد بيروت، كما حرر بيت المقدس.
وكم لذكرى صلاح الدين من حقوق، وكم لصلاح الدين علينا من واجبات: أن ندرس تاريخ المشرق، وإباءه المشرّف لنتملى دروسه وما فيها من عبرة.
أيضا نأخذ من صلاح الدين العلم والعمل لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين يعتدون على المسلمين هي السفلى والله عزيز حكيم.
صلاح الدنيا بصلاح الدين
بيد أننا نأخذ “صلاح الدين” بمفهوم الكلمة المركبة وليس فحسب بمفهوم أنها عَلَم على الملك الناصر… صلاح الدين، أي صلاحية الدين لسياسية الدنيا في كل زمان ومكان.. صلاح الدين، أي إصلاح الدين لدنيا الناس بالحكمة وحسن الموعظة وبالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.وليس بأي سلوك آخر؛ فقد أمر الله أن نقول للناس حسنا، وقد نهى الله أن نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.
وحين يتذاكر أبناء المدرسة هذه المعاني فسيترجمونها عزائم متقدة، وإرادات فاعلة، وآمالا لا تخبو لتحقيق ما يصبون إليه من غاية، وما يرنون إليه من تخصص، وتفعيل كل منهم ما آمن به من أنه كمؤمن ينبغي أن يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ومن أنه كمسلم يلزمه أن يَسلم الناسُ من أذى لسانه ويده، ومن أنه كمهاجر إلى الله ينبغي أن يهجر ما نهى الله عنه، ومن أنه كطالب ودارس للعلم ينبغي أن يُعدّ نفسه ليتفوق في تخصصه ثم ليكون سفيرًا لمبادئه وقيمه، فيكون عنوانا للأمن والعدل والسلام في مجتمعه خادما للثقافة والمعرفة أنى كان، تطبيقا منها للسماحة والتآخي والرحمة والتكافل والتعاون على البر والتقوى حيثما كان، لا على الإثم والعدوان.
عالمية الرسالة
إن رسالة الطالب في مدرسة صلاح الدين الدولية والتي يُعِدّ نفسه لها بالعلم والتفوق فيه، وحسن الخلق والتطبيق له.. إن رسالته ليست محلية، إنه بعد فترة سيكون -بإذن الله- خريج هذه المدرسة الدولية، وهذه هي الركيزة الثالثة التي تقوم دليل صدق كل من أسهم وخطط وبنى وشيّد.
إن طابع العالمية واضح وطابع الإيثار بالخير للغير أكثر وضوحا، وطابع حب الإنسان لأخيه الإنسان أنى كان أوضح من أين يحتاج إلى برهان.
ثم إن طابع العمل لإسعاد الناس مهما نَأَتْ بهم الدار أو اشتط بهم المزار غدا أوضح من الشمس في رابعة النهار.
الأخوّة التركية-المصرية
فماذا نقول في الإخوة الأعزة أشقائنا الأتراك الذين تمكنوا من سويداء القلوب، وتربعوا على عروس النفوس حبا لهم وإكبارا لمكانهم وإعزازا لمكانتهم.. إنهم فتية آمنوا بربهم، وأنكروا ذواتهم، وضحَّوا كثيرا وكثيرا من أجل إسعاد غيرهم…
إنهم فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى وآتاهم تقواهم. ولا غرو فقد تخرجوا في حراء، بدءا من النجم الأول: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(العلق:1-5)، ثم أخذوا يدرسون يحفظون القرآن والسنة، ويتفقهون في الدين ويعملون بما حفظوا وفقهوا وعلموا إلى آخر نجم أنزل الله سبحانه فيه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(المائدة:3).
ومنذ النجم القرآني الأول كان العلم والعمل والتعليم؛ فكانت الربانية علما وعملا، ثم تبوءوا الدار عن بعد والإيمان عن قرب، فأحبوا كل من هاجر إلى الله وكل من يهاجر إلى الله، وأعادوا السيرة العطرة للأنصار فأحبوا وآثروا وصبروا وصابروا وآووا ونصروا وكفلوا وآزروا كل طالب علم مهما كان لونه أو لسانه أو فكره أو قطره، ونشروا الإيواء لطلاب العلم أينما كانوا، ونصروا التقدم العلمي حيثما تهمم به ذووه، وأحبوا كل محب لله ورسوله وبذلوا دون مقابل، وتكلفوا دون توقف على كافل، ولا تكاد تطلع منهم على قيادة أو قاعدة كأنما كلهم قادة أو كأنهم كلهم قاعدة لا رئيس فيهم ولا مرءوس، أذاب الحب في الله الفوارق وأبدلهم بها حبا وتفانيا وإيثارا وعملا لله لا للنفس، فأي إحسان بعد هذا الإحسان، وأي إيثار بعد هذا الإيثار؟ وأي حب لله ورسوله، وأي حب في الله ورسوله اتسم به هذا الفريق التركي في شمله النظيم وأمره الجميع، وتضحياته الفريدة؟! لمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
اللهم أيدهم بأيدك، وشُدَّ أزرهم بجندك، وهيئ لهم ولنا من أمرهم وأمرنا رشدا. لقد قلتَ وقولك الحق: ” ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾(النساء:69)، وأذنت لنبيك محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول:” المرء مع من أحب”(متفق عليه).
اللهم آتهم تقواهم، اللهم أسعدهم بثمار أعمالهم هذه الصالحة في دنياهم ثم في أخراهم. اللهم إنا نحسب أنهم ممن علموا فأحسنوا، وأبلوا كذلك فأحسنوا. اللهم اجعلهم من الذين قلت في جزائهم: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾(يونس:26)، وممن قلت فيهم: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ (النحل:30).
وتقبل عنهم أحسن ما عملوا، وأنعم عليهم بميعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.