لم نعرف حتى اليوم أيديولوجية نجحت في جمع البشر في ظلها زمنا طويلاً، بل لم نعرف أيديولوجية اكتشفت كل الضرورات اللازمة التي يتطلبها جمع البشر تحت سقف واحد. ومع الادعاءات الباهرة، لم تستطع الدول الغربية التي هيمنت على قسم واسع من الأرض في التاريخ القريب أن تحقق الأمان والحبور الدائم للعالم، ولا الشعوب الاشتراكية والشيوعية في الشرق، ولا “المحايدون” الذين سواء وجودهم وعدم وجودهم، والذين عبر عنهم “جميل مريج” بـ”رجال الأعراف”. إن الإخفاق في تحقيق الوعود، زعزع أركان الثقة لدى المترقبين والمستعدين للاستقبال، وزيادة على ذلك، فإن عجز الحلول المطروحة عن البلوغ إلى مستوى العالمية، وقصورَها عن احتضان البشرية كلها، ومخالفتَها للطبيعة الإنسانية، قد أوقع الجميع في أزمة انعدام الثقة… بل في الريبة والشك في كل وعود من يعد! فتقف الإنسانية اليوم مع كل نظام يعرض عليها موقفَ الشك والقلق والاستهزاء.. لأنها باتت تعتقد أن الأنظمة التي فُرضت عليها حتى اليوم لم تعمل كما ينبغي، بل عجزت عن العمل، وبالتالي هناك خلل في الأنظمة كلها!. وهذا يقتلع المحاسن التي غرستها تلك الأنظمة، فلا يبقيها في ذاكرة البشر إلا خيالاً بائساً ورؤى خائبة.
وكما أن نقص قطعة صغيرة في نظام ميكانيكي متكامل، يعطل عمل النظام ويحوله إلى ركام، فكذلك هذه الأيديولوجيات برزت إلى الميدان بادعاءات مبهرة، لكنها كانت عليلة بعلل وبيلة؛ مثل التضاد مع الطبع البشري، والعجزِ عن احتضان الفئات كلها، والقصورِ في إنجاز وعودها، والضعفِ في الاستجابة للحاجات الإنسانية؛ والأنكأ إغفالها مجموعة من القيم الإنسانية، بل تأجيج بعضها مشاعر الحقد والبغض والغيظ بين البشر… ذلك كله قوض أركان الأيديولوجيات كلها فخلفتْ خرائبَ فكرية وأنقاضا، أو قُلْ؛ هكذا حَدْسُ المجتمعات وظنُّها. ولذلك يمكن القول بأن الجميع اليوم -إلا شرذمة قليلة- في حالة تزعزع وخيبة أمل وترقب مريب وبحث عن مخرج خارق للأسباب.
بناء على ذلك، فإن أمتنا ابتداء، ثم الإنسانية جمعاء، بحاجة ماسة إلى فكر سام يقوي إراداتنا، ويشحذ هممنا، وينوّر أعيننا، ويبعث الأمل في قلوبنا، ولا يعرضنا للخيبة مرة أخرى. نحن بحاجة شديدة إلى أفكار وغايات وأهداف سامية، ليس فيها فجوات عقلية أو منطقية أو حسية، وتكون محصَّنة ضد النواقص التي ذكرناها آنفاً، وصالحة للتفعيل والتطبيق بأقصى درجة كلما سمحت الظروف. إننا نشهد مرحلة يتغير فيها مركز العوالم الفكرية في الأرض، وتزحف العلاقات الأساسية والدائمية من عوالم الأشخاص إلى عوالم الأفكار، وتَضطرّ البشرَ بعد التجارب الفاشلة إلى المبالغة في التمحيص. فإن وُفِّقْنا في استثمار هذا الوضع العام بإستراتيجيات متماسكة ومنسجمة، وتنظيم الحس الميتافيزيقي في المجتمع والنشاط الفعال المتراكم فيه منذ عصور، حول هدف سامٍ، فلسوف يجتمع الجمهور الأعظم من الإنسانية -ولو بنسبة معينة- ليحوموا حول هذا المركز الجاذب، إن لم يكن من يومه، ففي القابل القريب.
لكن ينبغي بادئ ذي بدء، تعيين ذلك الهدف السامي. لقد تعرضت أمم عديدة في الماضي، كما تتعرض في الحاضر، إلى هزات شديدة لتقاعسها في ربط سياساتها السارية بهدف سام وسليم، وقصر باعها في النفوذ إلى قلوب البشر. صحيح أن هذه الحال أسطع ظهوراً في البلدان التي لم تستقر فيها الحضارة والديمقراطية استقراراً كاملاً؛ لكن الأمم التي ادعت لنفسها أستاذية العالم في الحضارة والديمقراطية، ليست أحسن حالاً في هذا الأمر؛ فمهما كان بهرج ظواهرها، ومهما زعمت دعاياتها، فإن عديداً من الدول التي تبدو عظيمة بترفها وبذخها وأبهتها، إنما تلهي في الواقع حشود الغافلين بالخدع الوقتية لحركتها في فلك البراغماتية، وتصمت كالبكم إذ تدعو الحاجة للحديث عن الغد، حيثما يستوجب الرجاء في مستقبل مأمول مغبوط أو حياة راقية… والأنكأ للجرح أنها تتمادى في تجويع القلب والروح والوجدان.
فالواجب علينا الآن -مع وضع هذه السلبيات نصب أعيننا- أن نضع أمامنا أهدافا سامية نتخذ في سبيل تحقيقها قيمنا الذاتية أسسا لصياغة سياسات ومشاريع مستقبلية، حتى يتحقق الاستقرار في سياساتنا… وإذ يتحقق الاستقرار في السياسات، نتمكن من استخدام هاتين القوتين في الاتجاه عينه، من غير السماح للصِّدام بينهما. ونقول “من غير الصدام بينهما”، لعلمنا بأن أيّ نشاط أو حركة معينة، مهما تمثلت بمشاعر مخلصة، قد لا تكون بنّاءة دائماً. إن النية الخالصة جديرة بالتقدير باعتبارها بعداً معنويا في الأعمال الصائبة؛ لكن لا تحمل المعنى نفسه البتة إذا كانت وصفاً من أوصاف العمل الخاطئ. إن أي حركة من الحركات قد تكون بنّاءة أو هدّامة حسب أنماط عرضها. وإذ يفيد العقل والمنطق والمشاعر قيمة في أي مخطط أو مشروع، فإنه من المهم جداً وجود تمثيل سليم ومتين له، إلى جانب انعدام الثغرات العاطفية. وأحيانا قد تبيد الأعمال بعضها بعضاً بـ”التعارض” و”التساقط”، وإن كان كل عمل من هذه الأعمال بمفرده خيراً وصالحاً؛ فعندما يحاول أفراد النمل أن تنقل مادة إلى خليتها، فتتشوش بموجات الحس المؤقت أو باختلاف الأهداف في برنامجها الانسياقي المشترك، يَسحَبُ بعضُها المادة إلى جهة وبعضها إلى جهة أخرى… فتبدد طاقتها كلها ثم لا تتقدم إلى الهدف. كذلك المجتمعات التي لا توجد لها أهداف سامية ومثُل عليا، أو وُجِدت ولم تمتلك معهما جاهزية ذهنية تناسبهما، تجدها تتحرك باستمرار، لكنها لا تقطع شوطا، لأن قطع الأشواط يتطلب -منذ البداية- تعيينَ هدف سام يوقره الوجدان ويُرغّب فيه الانسياق الذاتي في نشوة كنشوة العبادة، ثم تفعيل منظومة سليمة حسب معطيات الظروف والبيئة العامة، ثم توجيه مختلف دورات الطاقات إلى نقطة واحدة معينة، ويعني تسخير التراكم العلمي والتجريـبي والطاقة الكامنة لأمر ذلك الهدف السامي والغاية المنشودة.
لقد تكاثفت المساعي الفردية كلها إبان الكفاح الوطني (حرب الاستقلال) في اتجاه تحقيق تركيا المستقلة. فهذا الهدف كان بسيطا جدا، ولكن استطاع أن يحوز على الاحترام من كل الفئات، فيستحوذ على العقل والمنطق والعواطف، ويكثف الحركات كلها في نقطة واحدة. فكانت هذه القوة في إطار الشروط العادية والأخذ بالأسباب كافية لتحقيق الهدف المقصود. غير أن كل نصر وظفر يستجلب الفتور والزهو. لذلك، يصعب صعوبة شديدة الحفاظ على نقاء لون الفكرة من التغير، وإدامة وجودها بحيويتها التامة. ونترك تقويم مدى نجاحنا في هذا الأمر للتاريخ… ونقول إنه لا مفر للمجتمع الذي يعيش الظفر والنصر من الوقوع في ارتخاء التحفز الميتافيزيقي والتورط في دوائر الفتور الفاسدة، ما لم يستمر إمداده بغذاء الأسباب الجديدة المحفزة نحو الأهداف والغايات السامية. وقد لا نُصيبُ إذا حصرنا أسباب الارتخاء في هذا التحفز إلى الفتور المصاحب للانتصارات في العادة، أو إلى نشوة النصر، أو إلى الانقباض واللامبالاة التي قد تعتري طبع الإنسان. فأحيانا تولِّد أمورٌ شروخاً واسعة في حياتنا الفكرية وفي حركتنا وعملنا الحركي، مثل تصرفات الزعماء والمرشدين التي لا توحي بالثقة فتُوجِد التذبذبَ والشك، أو مثل ضعفِ قدراتهم وأهليتهم، أو ضيق أفق المثقفين أحيانا إلى درجة العجز عن رؤية مواطئ أقدامهم، بله إبصارهم لمواقع نقل الأمة إلى آفاق جديدة، أو ضعف الأمة عن الإحاطة بواقع حالها أو نقص التحفيز، أو تقديم التفكير الميكافيلي والبراغماتي أمام القيم الدينية وقيم الأمة. ونحن الآن في مواجهة سلسلة من الأزمات المختلفة الناشئة من بيئة مفعمة بهذه المحاذير جميعاً. وحالنا يوحي بإمكان انفلات الذات وإرسالها، والوقوع في تبعثر وتشتت يؤدي بنا إلى الانحلال والذوبان. ولا شك أن هذا يثير شهية العدو، ويخذل حماس الصديق. بل المهولُ هو احتمال أن نُصرَع ونسقط -حفظنا الله تعالى- إذا تماهلنا في سد الثغرات العقلية والمنطقية والعاطفية المتوسعة في حياة الأمة. وحتى نجنِّب أمتنا من الفظائع والفواجع التي لا مفر منها في حال سقوطنا، فمن الضرورة والحتم أن ننسلخ ونتزحزح تماماً عن التيه في انعدام الهدف، وقابلية الانصياع للاستعمار والاستغلال، ونفسية العيش تحت الوصاية، وهي الحالات اللاصقة بدول العالم الثالث… فنتشبث بالسعي مستعينين بالله تعالى، ونستهدي التوفيق الإلهي في وحدة الأمة وتوافقها، ثم نركز على كينونتنا الذاتية ونتعقب أهدافنا وغاياتنا السامية.
ومن الظاهر عيانا وبيانا، أننا لن نتغلب بمشاريع سبق أن تعودناها، على كل هذه السلبيات في مرحلة عاصفة تواجهنا فيها مهاوٍ سحيقة متشابكة، وجسور منهدة وطرق منقطعة، وبأمة متعبة بمحن متنوعة لم نشهدها في تاريخنا إلا قليلا. إن مثل هذه الأحوال غير الاعتيادية، تستدعي همماً حميّات تتجاوز الهمة والحمية الإنسانية، وطاقة تعلو فوق ما هو معتاد. وقد تكون هذه الأحوال المدلهمة أحيانا ميلاداً تاريخيا للأمم، بمخططاتها، ومشاريعها، واستراتيجياتها، وعقولها الممتازة التي تنتج هذه المطلوبات، وممثليها الأبطال الذين جَلّوا عن أن يحيوا أعمارهم، فنذروها لإحياء غيرهم.
ولذلك، نؤمن -في هذا الوقت الذي نرجو فيه أن نكون أمة عظيمة- بضرورة منهج ومشروع بعقلية محترفة ومتخصصة، بل قبل ذلك، بضرورة إعداد أجيال مثالية تحلم وتستهدف لإنشاء أمة عظيمة. إنَّ تحقيق هذا الفكر بدرجة معينة، وإنْ كان في دائرة صغيرة، وظهورَ نماذجه في آلاف الأبطال الذين تركوا دُورهم وأوطانهم مهاجرين كأمواج البحر إلى أرجاء الأرض المختلفة، بروحية الكفاح الوطني (حرب الاستقلال)، وسعيَهم في زرع فسائل روح الأمة في كل مكان، ووضعهم اللبنات الأولى لثغور حلم المستقبل الكبير في جهات الأرض المختلفة، وعرضَهم لعالمهم الروحي والمعنوي حيثما حلّوا، وكدّهم من أجل إبراز موقع أمتنا الموروث من أعماق التاريخ لتملأ مقعدها الشاغر اللائق بها في التوازن الدولي، ونجاحهم في كل ذلك بقدر معين، هي أمثلة شاخصة ومهمة، تُرينا ما يمكن أن تفعله الأجيال التي تعلق قلبها بفكر سامٍ إلى حد العشق.
وإن هذه الكوادر “المحتسبة” التي قد تجوع أحيانا وتعطش أخرى، لكنها تتدرع دوما بالإيمان والأمل والعزم، وكأنهم المعنيون بوصف محمد عاكف: “مستعينون بالله، متشبثون بالسعي، مشدودون إلى الظفر”، هؤلاء حلّوا بحملة واحدة، وبنفخة واحدة، معضلات تعجز دول كبيرة أن تحلها بأنشطة “لوبياتها” وصرفها الملايين على إعلاناتها. وينبغي أن لا يستهان بهذا “التكوين” الباهر، ولا يعلَّل بسلسلة الصُدَف، ولا يُربط بمكانة الدول المهاجَر إليها. بل السر في هذه الحركة الرائعة هو توجه القلوب المخلصة إلى الله تعالى، ومَنُّ الله تعالى بزيادة الإحسان على هذه الأمة التي توارثت العز من أعماق تاريخها. نعم، يناط النجاح في هذا العمل -كما في كل نجاح- بالهمة والحمية من الصدور النابضة بالإخلاص، وبالوفاء من الأمة، وبالتوفيق من الله تعالى. إن الأبناء المضحين اللائقين بهذه الأمة الوفية، يهرعون أفواجا باسم وطن المستقبل الكبير إلى الغربة والحسرة والحرمان، وفي أيديهم مشاعل العلم والعرفان، كالذين يتَحَدَّون اليأس والعجز في أشد محن التاريخ، وكالحملات الباهرة المتدفقة في تدفق فجائي، والمترعرعة بجلوات الغنى والوجود على الرغم من الفقر والعدم، وكالجيوش المتقدمة إلى الموت في سرور وانشراح، على وقع الأناشيد الوطنية، على رغم أنف التضييق والافتراء والاتهام مثلما يحصل اليوم. هؤلاء يوفون منذ سنوات من غير توان أو فتور، برسالة مهمة لحساب أمتنا وشعبنا وبلدنا، ونبعُ قوتهم التي لا تنفد هو إيمانهم، ووقودُ مشاعل عشقهم وحماسهم الذي لا يخمد هو هدفهم السامي وفكرهم وروح الأمة.
إن الذين يجهلون أهمية هاتين المقومتين الحيويتين، ولا يعقلون القدرة التي يوجدها الإيمان والأهداف السامية في الإنسان فيتساءلون في شك ممزوج بالحقد والبغض أحيانا، وفي رفض غاضب متشرب بالهذيان أحيانا: “كيف يحصل هذا كله؟ ما مصلحتهم في هذا؟” يفضحون أنفسهم ويظهرون مدى حرمانهم من الأهداف والأفكار السامية.
ومن المسلّم به، أن الفكر والهدف السامي نشيد يحرك الأجيال المثالية، و”مولِّد طاقة” يشحن طاقتهم الدائمة، ومنبع صافٍ يمد عشقهم وحماسهم، وبمشاعر طافحة يرفع إلى السماء نداء مصيرهم. وبفضل هذا الفكرالسامي، تصل المساعي المتوسعة باطراد إلى حد التحول إلى حركة مشتركة، وإلى جذور ومستويات مختلفة، وبطبيعة الحال إلى نسق مختلف، فيكون حتما عليها أن تجد مجرى لتيارها حتى إن اضطرت إلى اجتياح القمم، لمواصلة المسيرة.
ففي عصورِ تخبط الإنسانية في الظلمات، كان أهم مصادر القوة لتلك الثلة من المجاهدين الأوائل المنبثقة من صدر الصحراء هو إيمانهم وغايتهم المأمولة في تفريغ إلهامات إيمانهم الفوارة في قلوبهم أبدا إلى صدور الآخرين. فبحملة واحدة بدلوا مصير الدنيا من النحس إلى السعد، وبنفخة واحدة صاروا صوت الأمل ونَفَسه في ثلاث قارات. وكانت المقومات عينها وراء الأمل العثماني الكبير، فهي التي استنهضت عشيرة من هضاب آسيا، ودفعتها للسير إلى الأناضول، لتقيم دولة عظمى… وأيضا هي التي كانت في عقول أبطال الكفاح الوطني (حرب الاستقلال). وكذلك جموع الهند الذين لم يبدُ على سيماهم أمارات الحياة في أواسط القرن العشرين، فحركهم إلى الحرية والاستقلال حماس عظيم؛ كان أساس قوته إيمان ذلك الشعب وأمله، وفكرة أن يحيوا ويبقوا بذاتهم ومقوماتهم.
لكن ينبغي أن يكون الهدف السامي، الذي يلهب الحماس في صدور الناس ويدفعهم إلى التحرك، هدفا منضبطا بضوابط معينة، ومرتبطا بنظام معين. فإن كنتَ مهندساً، فعليك أن تُعِدّ العدّة قبل البدء بإنشاء صرح، فتتفحص متانة عناصره وسلامتها، وانسجام آحادها فيما بينها ومشاركتها في جماله ومظهره. وهل يتحقق الكمال من غير توافر التوافق والمواءمة والانسجام في الأجزاء كلها!؟ إنّ الهمم والحملات الفردية، إنْ لم تنضبط بالحركة المشتركة ولم تنظم تنظيماً حسنا، ستؤدي إلى تصادم بين الأفراد لا محالة… فيختل النظام، وتنهض كل حملة في عكس اتجاه حركة أخرى، وتُنقص كل عملية من قيمة الناتج حتى يقرب من الصفر، كما في حاصل الضرب لكسور الأرقام ببعضها في الحساب. وكما أشرنا سابقا، ينبغي أن لا تُطفأ جذوة طاقةٍ فردية البتة، باحتساب ضرر قد تسببه. بل على العكس، تجب العناية الرفيعة حتى لا تهدر ذرة واحدة من تلك الطاقة، وتوجَّه إلى مجرى الغاية المأمولة المعينة والهدف المنشود، ويزاح خُلُق المصادمة في النفوس ويقَرَّ عقل التوافق بدلاً عنه، بل الأحسن أن يُطَبّع كل إنسان بهذا الطبع.
وقد لا نجانب الصواب إن قلنا: إن الأديان كلها جاءت لتثبيت هذا الفهم خاصة، ضمن أبعاد تبليغاتها الشاسعة؛ فقد فَرض كل دين ضوابطَ وأنظمة على القدرات الفردية، فصارت مقومات مهمة في توجيه القوة الموجودة المنشدّة إلى حضارة جديدة وعمران جديد. فبإرشاد الدين يوازن كل فرد حريته وفعالياته الشخصية، مع حركة المجتمع وفعالياته؛ فيتصرف حراً موفياً إرادته حقها من جهة، ومحافظاً على تكامل الحركة مع الآخرين من جهة أخرى، فينجح في تحقيق الأمرين معاً، كالنجم التابع في موقعه، يدور في فلكه حول مركز الجذب، وحول نفسه في الوقت عينه. ولا يغترنّ أحد بحيوية الحركات ونشاطها كلاً على حدة مهما بلغت، إن لم ترتبط أجزاء التكامل والتوازن بمنظومة أقوى وأمتن؛ فربما لا تسند بعضها بعضاً في خط المقصود العام، فتولد أحياناً نتائج أشد سوءاً من السكون والجمود. خلاصة القول: إن السكون والجمود، كذلك الفوضى في الحركة، كلاهما موت. والمحتوم على الأمم التي تضعضعت نفوسُ أفرادها بمثل هذا الموت، أن تُغلَب وتُطرَد إلى خارج مسرح التاريخ.
ومن دوافع الميل إلى التحرك الفردي في الإنسان الأنانية، وثقة الإنسان بنفسه، وقصور فهمه لحدود قدرته، وقصور إدراكه لمدى تأثير روح التوحد والتجمع والفعاليات المشتركة والوفاق والاتفاق في جلب العناية الإلهية. كذلك، قد تتسبب الشهرةُ والمنصب والطموحاتُ الشخصية والنوازع الأخرى في تقدُّم الملاحظاتِ الفردية إلى الصف الأمامي. وقد يظهر بمثل هذه الملاحظات منحوسون نسوا مقاصدهم وبيئتهم تماماً، وخنعوا لمطالب الأكل والشرب والنوم وطرح الفضلات، بعدما كانوا في صف الخدمة-الدعوة يهتفون: “في سبيل حب الدعوة!” ويلهثون بأنفاس تتقطع شهيقاً وزفيراً طلباً لرضا الله تعالى. إن من ينسى المقصود، ويُضيّع الغاية المنشودة، سيسقط -بالضرورة كائنا من كان- في شباك الأنانية، وتحل رغباته الجسمانية محل عشق الخدمة-الدعوة، وتنطفئ عنده مشاعرُ العيش من أجل الآخرين.
من هذه الزاوية، يمكن القول بأن قضيتنا الكبرى التي تفوق كل القضايا هي إلهاب جمرة الرغبة في إحياء الآخرين مرة أخرى في أرواح أفراد الأمة، وفرز الأفكار الغريبة المندسة بين “الأمة” وأهدافها السامية.. ومن بعده، تحريك طاقتها التي تبدو خامدة، وحثها على السير نحو هدفها التاريخي من جديد بتحفيز جيد، وبأنشطة وفعاليات منضبطة ومنظمة. ومن الضروري لمثل هذه الحركة تجديد معالم المساحات المشتركة التي تعد محوراً لحركة المجتمع المشتركة بكل شرائحه بدوا وحضراً، ومثقفين وحرفيين، ومعلمين وطلبة، وخطباء ومستمعين… مساحات مشتركة وقواسم مشتركة مثل السعي لجعل أمتنا عنصراً مهما في التوازن الدولي، والعزم والإصرار على حمل الرسالة بلا فتور مهما كان ثمن التضحيات، والتركيز على أولوية الفكر، وموازنته مع مشاعر روح الأمة، ومن ثم منع حصول الثغرات العقلية والمنطقية والحسية أثناء التحرك الجماعي، واحتساب عشق الحقيقة، والتوق للعلم والبحث وسائلَ للسمو العمودي إلى الله تعالى، وتغذية المجتمع بهذه المفاهيم دائماً.
ومن هذا المنطلق، نحن نؤمن بأن الأشخاص الذين يتقاسمون هذه الأهداف والغايات السامية سيحافظون على حماسهم وحيويتهم، وستجرى الفعاليات والأنشطة الجماعية بانسجام ووئام، وسيستفاد من الوقت والإمكانات بأجدى وسائل التحفيز السريعة، وستبقى أبواب التجدد مفتوحة أبدا بفضل السماح للتفكير بالتوسع.
ولتحقيق هذا كله، لا حاجة إلى تلقين المسلم فهما جديداً للإسلام، ولا إلى إعادة تعليم الإسلام للمسلمين من جديد. وإنما المطلوب العمل على تفهيم المسلم الأهمية الحيوية لما يعرفه عن الإسلام فعلاً، وقوة تأثيره، وديمومته الأبدية. لكن المؤلم حقا أن الأقوال في هذه المسألة مختلفة اختلافاً بيناً إلى درجة تحير العقول… فهوى الرغبات يتقدمُ العقلَ ويقيم في ظل الخيمة الإلهية، والأحاسيس تصدر أحكاما من فوق عرش المنطق. ونحن نعرف هذا الانحراف في نفر من محترفي الإنكار والإلحاد والكفار المدمنين على التحرش بالدين، لكن قد يقع فيه أيضا بعض المتعصبين المحرومين من الحياة القلبية والروحية من الذين يحسبون أنفسهم متدينين. هذان الصنفان مختلفان فيما بينهما، لكنهما كفرسي رهان في الإضرار بالأمة والوطن والدين.
الصنفان كلاهما لا يوقر روح الدين، وكلاهما لا يتسامح في التفكير الحر، وكلاهما مختوم على قلبه، فلا يَعي فكرة المشاركة والتقاسم. رأس مالهم الأعز هو الفرية والزور والتشويه، وأجود فنونهم هو النميمة واللمز على من لا يحسبونه منهم… لا يهمهم إلامَ يلجؤون، ولا على من يستندون؛ فالمهمّ أن يهضموا ويأكلوا من لا يستسيغون وجوده. والحقيقة أن حرصهم وسعيهم في هذه المسألة عظيم وحثيث إلى درجة أظن أنهم لو صرفوه فيما يليق لعمّروا العالم كله.
وبدهي في هذه الأجواء المظلمة الخانقة، وفي ميدان الذين لا يفكرون ولا يبصرون ولا يعلمون، لن توجد الحياة الفكرية والعشق إلى الحقيقة والتحري في سبيل العلم والبحث… وإن وجدت، فلن تنمو وتتطور، وإن نمت وتطورت فلن تغادر عالم الأحلام والفانتازيا. وإنّ حالنا المنكسر البائس شاهد على ما نقول بألف لسان، وليس بلسان واحد.
لكن الحال يقتضي في الواقع أن تكون عقلية أمتنا عقلية إعمار وإنشاء… وأن ننجو من هذه الحالة التي نتخبط فيها والتي نعاني فيها من فقر التفكير وغياب الأهداف. ونحن اليوم بحاجة ماسة -قبل كل شيء- إلى غاية مأمولة سامية بعيدة المرام، هي انبعاثنا برؤيتنا الحضارية وبثقافتنا الذاتية. ولابد لأمتنا أن تصبر على أوجاع وعذاب وزمانٍ يسلب العاقل عقله ويدع الحليم حيران، من أجل الارتقاء إلى العلياء كصرح سامق يرتكز على أركان القيم التاريخية لأمتنا. إنَّ مراعاة سير تطور الحوادث ضمن طبائعها، تتعلق بسعة المعرفة بهذه الطبيعة. القرآن الكريم يخاطب سيدنا صلى الله عليه وسلمفيقول: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾(التوبة: 42)، فيُسَرّي عنه صلى الله عليه وسلمويُوبّخ المتخلفين المتهاوين في الطريق.
وحسب المنظور الإسلامي، يُعَدُّ المقصود حاصلاً بنوال الهدف البدهي لكل حركة أو حملة، وهو رضى الله تعالى. فسواء بعد ذلك إن تحققت نتيجة الخدمات المقدمة باسم أمتنا بارتقائها إلى المكان اللائق بها في التوازن الدولي، أو لم تتحقق؛ فإن المؤمن يسعى لنوال رضاه تعالى في كل خدمة إيمانية وكل فعالية دعوية. فبهذه النظرة يتحول غيرها من الأهداف إلى أهداف إضافية واعتبارية، ومحض وسائل تؤدي إلى الهدف الحقيقي.
ــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي أوغلو.