الإنساني المفعم بحب الإنسان هو وحده الذي يحترم إنسانية الإنسان، ويحرص على أن يظل جوهره في طواياه سالماً لا تطاله معاول الهدم والتخريب، وهو يسعى إلى النفاذ إلى دواخله والعمل بكل جد على تمدين ما تبقى في هذه الدواخل من وحشية قرون ما قبل التاريخ، وأثارات من حيوانية الكهوف والغيران، ثم يسمو به إلى أعلى درجات الفكر، وأرفع ما يمكن أن يصل إليه من إدراك لمكانته العالية في سلّم الخلق والوجود.
فالرسالة الإحيائية للأستاذ “فتح الله كولن” والتي يكرس لها قلمه تندرج في هذا الاتجاه. فهو يسعى إلى إحياء “ذات المسلم” وبعثها من جديد وجعله يعتز بإنسانيته ويكنّ لها من الاحترام ما يمنعه من امتهانها والنـزول بها منازل أسفل سافلين. والأستاذ يرى أن الحقيقة الكامنة وراء جميع الصراعات الحضارية والإنسانية تتمثل في الرغبة على تأكيد الذات، وإن هدف الحياة يدفع في اتجاه بعث الإرادات السامية من أجل فهم الإنسان لذاته، وتقويم المعنى الأقدس لوجوده، غير أن الذات التي مضى على نومها القرون الكثيرة لا يجدي لإنهاضها وإيقاظها اللمسات التحسيسية الناعمة، بل لابد من هِزّة قوية تطير النوم عن أجفانها، ومن هنا نستطيع أن نفهم توكيدات الأستاذ على هذه القضية في المرة تلو المرة.
وقد سعت “حراء” منذ صدورها إلى التنبيه إلى هذه المهمة المقدسة التي يتوقف عليها نهوضنا الديني والحضاري. إنها تحاول جهد إمكانها على إعادة تدفق الدم النقي من جديد إلى أجزاء روح المسلم التي بدت وكأنها تموت من السأم والضجر. وهذا الخط المعرفي الذي اختطته “حراء” لنفسها لا تزعم أنه الخط الذي يكفي ويغني، لذلك فهي تؤمن بالحوار وتبادل الأفكار والاطلاع على خبرات الآخرين وتجاربهم. ولعل المؤتمر الذي انعقد في “القاهرة” في يوم 19-21 من شهر أكتوبر 2009 تحت عنوان “مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي خبرات مقارنة مع حركة فتح الله كولن التركية” دليل على رغبتنا الصادقة في أن نفهم عن الآخرين، وأن يفهم الآخرون عنا، والإفادة من تجارب بعضنا من البعض الآخر. فأمثال هذه المؤتمرات تسهم في التقريب بين الأفكار ووجهات النظر المختلفة.
وبعد.. فبمزيد من الأسى واللوعة تنعي “حراء” إلى قرائها الأستاذ الدكتور “فريد الأنصاري”.. إذ وافاه الأجل المحتوم في يوم 6 من شهر نوفمبر 2009 في أحد مشافي “إسطنبول”، بعد صراع رهيب مع مرضه العضال. والأستاذ “فريد الأنصاري” كان واحداً من أبرز كتّاب “حراء” وأصدقهم غيرة عليها، فأتحفها بالكثير من المقالات والدراسات التي لاقت الاستحسان والإكبار من قرّاء المجلة الكرام. ونحن إذ نفتقد واحداً من أقدر الأقلام وأكثرها تألقاً، نعزي أنفسنا ونعزي قراءنا داعين الله أن يتغمده برحمته الواسعة ويسكنه فسيح جناته ويجزيه عنا خير الجزاء…