إذا كانت “الحضارة” هي جماع إبداع الأمة في عالمي “الفكر” و”الأشياء”، أي في “الثقافة” التي تهذّب الإنسان وترتقي به، وفي “التمدن” الذي يجسد ثمرات الفكر -في التطبيق والتقنية- أشياء يستمتع بها الإنسان المتحضر.. إذا كانت هذه هي “الحضارة”، فإنها كإبداع بشري في المنظور الإسلامي وفي التجربة الإسلامية، وثيقة الصلة بدين الإسلام كوضع إلهي نزل به الوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي التجربة الحضارية الإسلامية، كان “الدين” هو الطاقة التي أثمرت -ضمن ثمراتها؛ توحيد الأمة وقيام الدولة والإبداع في كل ميادين العلوم والفنون والآداب- شرعية وعقلية وتجريبية، كما كان الدافع للتفتح على المواريث القديمة والحديثة للحضارة الأخرى، وإحيائها وغربلتها وعرضها على معايير الإسلام، واستلهام المتسق منها مع هذه المعايير، لتصبح جزءًا من نسيج هذه الحضارة الإسلامية التي وإن كانت إبداعًا بشريًا، إلا أنها قد اصطبغت بصبغة الإسلام (الدين)، كما كانت ثمرة للطاقة التي مثلها وأحدثها عندما تجسد في واقع المسلمين. تلك هي العروة الوثقى بين دين الإسلام وبين حضارته، بما فيها من إبداع شمل مختلف الميادين؛ الشرعية، والعقلية، والتجريبية، والجمالية.
الدين ومنبع الإبداع الجمالي
إننا لو تأملنا في مكان “الهجرة” في دعوة الإسلام ودولته وأمته، لرأيناها أكثر وأكبر من إنجاز لإنقاذ الدعوة من حصار “الشرك المكي”، لأن الهجرة في حياة هذه الدعوة، لم تقف عند الهجرة من مكة إلى المدينة -ومن قبلها الحبشة- وإنما كانت أيضًا، هجرة من “البداوة” إلى “الحضارة”، من “البادية” إلى “الحاضرة”، من حياة “الأعراب” التي تغلب عليها الغلظة ويسود فيها الجفاء، إلى حياة “العرب” الذين استقروا في “القرى”، فغدا بإمكانهم أن يقيموا “مدينة” و”حضارة” في هذه “القرى”.. كانت إنجازًا حضاريًا، ينتقل بالجماعة البشرية من طور ترحال البداوة الذي يستحيل معه قيام “التراكم” في الإبداع الثقافي والتمدّني، إلى طور الاستقرار والحضور في “القرى” الحاضرة، الأمر الذي يتيح لإبداعات الإنسان أن “تتراكم”، فتعلو بناءًا حضاريًا مناسبًا للجهد الإبداعي المبذول فيه. تلك هي “المكانة الحضارية” للهجرة في حياة دعوة الإسلام في عصر صدر الإسلام، وتلك هي بدايات خيوط العروة الوثقى بين الإسلام “الدين”؛ الوضع الإلهي، وبين الحضارة الإسلامية؛ الإبداع الإسلامي لأمة الإسلام.
وفي ضوء هذه “الحقيقة الحضارية” نفهم اصطفاء الله سبحانه وتعالى “مكة” أم “القرى” وحاضرة الحواضر، مهبطًا للوحي بالدين الجديد، ونفهم مغزى كون “يثرب” المدينة وهي ثانية القرى والحواضر، هي دار الهجرة وعاصمة الدولة ومنارة الدعوة، بل نفهم سر استمساك القرى والحواضر الثلاث “المدينة” و”مكة” و”الطائف”، بالإسلام يوم ارتدّت عنه -أو عن وحدة دولته- البوادي بمن فيها من الأعراب، عندما زلزلت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قلوب هؤلاء البدو الأعراب.. نفهم جميع ذلك في ضوء العلاقة العضوية بين هذا الدين وبين الإبداع الحضاري للإنسان الذي تديّن بهذا الدين.
بل ونفهم أن هذه العلاقة بين “الدين” وبين “الحضارة” -ومن ثم فـ”الحضارة” ليست خصيصة إسلامية- إنما هي سنة من سنن الله في كل الشرائع والرسالات. فكما اصطفى الله سبحانه وتعالى حاضرة مكة، لتبدأ منها الدعوة قائلًا لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾(الأنعام:92) أنبأنا في قرآنه الكريم، أن هذا الاصطفاء إنما كان اطرادًا لسنة إلهية: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾(القصص:59). فأمّ القرى وحاضرة الحواضر، كانت دائمًا هي موطن الرسل والرسالات، ذلك للعلاقة العضوية بين “الدين” و”الحضارة” على امتداد تارخ الإسلام.
تلك هي بدايات الخيوط بين الإسلام (الدين) وبين الحضارة، وهي بدايات لا ترشحه كي يوحي بالتجهم إزاءها، ولا بمخاصمة إبداعاتها الجمالية بحال من الأحوال.
الجمال المسخَّر للإنسان
إن “الجمال” الذي يظن بعض من الناس مخاصمة الإسلام إياه، هو -إذا نحن تأملناه- بعض من آيات الله سبحانه وتعالى التي أبدعها في هذا الكون وأودعها فيه، إنه بعض من صنع الله وإبداعه سبحانه، سوّاه وسخّره للإنسان، طالبًا من الإنسان أن ينظر فيه ويستجلي أسراره ويستقبل تأثيراته ويستمتع بمتاعه ويعتبر بعبرته: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ في ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(الأنعام:99).
وأينما يمّم الإنسان بصره أو بصيرته أو عقله أو قلبه، فإنه واجد آيات الله التي خلقها “زينة” للوجود ودعاه إلى النظر فيها: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ﴾(الصافات:6-7).
فهذه “الزينة” التي هي آيات إبداع الله عز وجل هي “زينة-جمال”، يدعو الله الإنسان إلى النظر فيها، بل وكأنه يقول لنا، إن خلقها ليس “للحفظ” فقط ولا “للمنفعة” وحدها، وإنما “للزينة” التي أبدعها الله لينظر فيها الإنسان ويستمتع بما فيها من جمال. ومثال ذلك حديث القرآن الكريم عن آيات خلق الله التي أبدعها لنا في صورة “الحيوان” المسخّر للإنسان، فليست “المنفعة” المادية وحدها هي الغاية من هذا الخلق والتسخير، وإنما “الجمال” و”الزينة” أيضًا، غايات يتغياها الإنسان في هذا الخلق الذي خلقه الله: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(النحل:5-8).
النظر في الجمال هو امتثال لأوامر الله
إن هذا الجمال وتلك الزينة هي آيات الله، أبدعها وبثها في هذا الكون، وأمر الإنسان أن ينظر فيها، فالنظر في هذا الجمال، والاستقبال لآيات الزينة، وفتح قنوات الإحساس الإنساني على صنع الله، هو امتثال لأمر الله عز جل: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾(ق:6). وهذا النظر في هذه الآية وغيرها من الآيات، هو سبيل من سبل الاستدلال على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى كمال قدرته وبديع صنعته. وما تعطيل النظر في آيات الجمال، إلا تعطيل للدليل على وجود الصانع المبدع لهذه الآيات.
فإن تنمية الإحساس الجمالي لدى الإنسان المؤمن، هو تنمية للملَكات والطاقات التي أنعم بها عليه الله سبحانه وتعالى، وإن في استخدام هذه الملَكات، سبلا للاستمتاع بما خلق الله سبحانه وتعالى في هذا الكون من آيات الزينة والجمال، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال:”إن اللٰه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده” (رواه الترميذي).
الجمال المؤدي إلى الكمال
إذن، كان المسلم -بحكم إيمانه وإسلامه- مدعوا إلى التخلّق بأخلاق الله ليكن ربانيًّا، ومطلوب منه أن يسعى -قدر الطاقة ومع ملاحظة فوارق المطلق عن النسبي- كي يتحلى بمعاني أسماء الله الحسنى. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا أن “الجميل” هو من أسماء الله فيقول: “إن الله جميل يحب الجمال” (رواه مسلم). فالمسلم إذن، مدعو إلى الاتصال بالجمال الذي هو البهاء والحسن في الفعل وفي الخلُق، وإلى تنمية إحساسه بالجمال الذي أودعه الله في الكون؛ جمال الصور وجمال المعاني على حد سواء، وفي ذلك “كمال” للإنسان و”سعادة” له أيضًا. يقول الإمام الغزالي: “فإن كمال العبد وسعادته في التخلق بأخلاق الله تعالى، والتحلي بمعاني صفاته وأسمائه، بقدر ما يتصور في حقه، ليقرب بها من الحق قربًا بالصفة لا بالمكان، لأن استعظام الصفة واستشرافها يتبعه شوق إلى تلك الصفة وعشق لذلك الحلال والجمال، وحرص على التحلي بذلك الوصف إن كان ذلك ممكنًا، أو يبعث الشوق إلى القدر منه لا محالة. وبذلك يصير العبد ربانيًّا، أي قريبًا من الرب تعالى”. (المقصد الأسنى)
الفطرة تمثِّل التجمّل والتزين
ولأن هذا هو موقف المنهج الإسلامي من آيات الجمال والزينة المبثوثة في الكون من صفات الحسن والبهاء المتاحة للإنسان في هذه الحياة، كانت دعوة القرآن الكريم الناسَ إلى اتخاذ الزينة عند كل مسجد، أي إلى إقامة التلازم وعقد القران بين التزين وبين دعاء الله والمثول بين يديه، فكلاهما (التزيين والصلاة) شكر لله سبحانه وتعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾(الأعراف:31-32). نلحظ أن هذه الآيات تدعو الإنسان وليس المسلمين وحدهم، وذلك تنبيهًا على أن هذا هو مقتضى الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ طلب الزينة والجمال، وتصحيحًا للانحراف الذي جعل العبادة رهبانية تدير الظهر لصفات الحسن ومظاهر الجمال في هذه الحياة. إنه المنهج الإسلامي الذي يعيد الإنسان في هذه القضية وسواها، إلى “فطرته” والتي يمثل التجمل والتزين ملمحًا أصيلًا من ملامحها، وفي حديث عائشة رضى الله عنها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عشر من الفطرة: قص الشارب، وقص الأظافر، وغسل البراجم، وإعفاء اللحية، والسواك والاستنشاق، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء”. (رواه النسائي)
وإذن، كان “المسجد” في العرف الإسلامي، هو مطلق مكان السجود، ولذلك كانت الأرض كلها مسجدًا لأبناء الإسلام. فإن اتخاذ الزينة هو فريضة إسلامية في الأوقات الخمسة التي يمثُل فيها المسلم -يوميًّا- بين يدي مولاه، أي إنها فريضة إسلامية في كل زمان -تقريبًا- وفي أي مكان.
وهذه الفريضة يتأكد التنبيه عليها في أيام وأماكن الاجتماع، كالجمع والأعياد.. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من اغتسل -أو تطهر- فأحسن الطهور، ولبس من أحسن ثيابه، ومس ما كتب الله له من طيب أو دهن أهله ثم أتى الجمعة، فلم يلغ ولم يفرق بين اثنين، غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى” (رواه ابن ماجة).
الزينة التي يطلبها الإسلام
ولا يحسبن أحد أن “الزينة” التي يطلبها الإسلام ويأمر بها، مقصورة على الثياب الحسنة والطيب وحسن التجمل -فقط- عند المثول بين يدي الله في الصلاة، ذلك أن “الزينة” إذا كانت اسمًا جامعًا لكل شيء يُتزين به، فإن مصادر طلبِها ومواطن الإحساس بها، مبثوثة في كل آيات الجمال التي خلقها الله، وأبدعها وأودعها في سائر أنحاء هذا الوجود.
ولقد ميز الإسلام ما بين طلب الجمال والاستمتاع به عندما يحكمه الاقتصاد والاعتدال وعندما يكون شكرًا لأنعم واهب هذا الجمال، وبين “الكبر” الذي نهى عنه الإسلام وتوعد مقترفيه. فعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه ابن مسعود رضي الله عنه: “لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر”، عند ذلك قال رجل: يا رسول الله إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلًا ورأسي دهينًا وشراك نعلي جيدًا -وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه- أفمن الكبْر ذلك يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا، ذلك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبْر من سفه الحق وازدرى الناس” (رواه مسلم).
ولقد أباح الإسلام للمرأة أن “تتجمل للخُطّاب” إظهارًا لنعمة الجمال وطلبًا للزواج. وفي حديث الصحابية الجليلة سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله عنها، عندما توفي عنها زوجها سعد بن خولة، ووضعت حملها منه وبرئت من نفاسها “تجمّلت للخُطّاب”، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك -من بني عبد الدار- فقال لها: “مالي أراك متجمّلة، لعلك ترجين النكاح؟! إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. فذهبت سبيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألت عن ذلك -عن العدّة- وليس عن “التجمل للخُطّاب” فلم يكن ذلك موضع خلاف. قالت: فأفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي” (رواه مسلم).
ووجدنا القرآن الكريم يتحدث عن زينة الأرض وزخرفها كمهمّتين من مهام خلافة الإنسان عن الله في عمرانها، لن تنتهي هذه الخلافة بطيّ صفحة هذه الحياة الدنيا، إلا إذا بلغ الإنسان الشأو في هذا السبيل: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(يونس:24).
الاستشعار بآيات الجمال
ولقد كان منهح النبوة الذي تجسد في سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه، ومع أهله، وفي تشريعه للناس.. كان هذا المنهج بصدد التربية الجمالية والسلوك الجمالي، البيان العملي والممارسة التطبيقية للبلاغ القرآني الذي شرع الله فيه منهج الإسلام في هذا الميدان. فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء رحمة للعالمين، كان النموزج الأرقى للإنسان الذي يستشعر كل آيات الجمال في خلق الله، ويلفت النظر بهذا السلوك الجمالي، ليغدو سنة متبعة في مذهب الإسلام وحضارة المسلمين.
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مترفًا ولا “مستغنيًا”، ولكن الله قد أغناه عن الحاجة بعد أن كان فقيرًا عائلًا: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾(الضحى:8)، لم يكن “الراهب” الذي يقيم الخصام بين مملكة الأرض ومملكة السماء، ولا “الناسك نسكًا أعجميًا” الذي يدير ظهره للدنيا وطيباتها، إنما كان يقبل الهدية، ويهدي إلى الناس، وكان يتصدق دون أن تتطلّع نفسه أو تمتد يده إلى شيء من الصدقات.. كان له من المال ما يكفيه وأهله، كإمام للدولة، وبمقاييس بساطة تلك الدولة ودرجتها في ذلك الزمان وذلك المكان.. كان المال في يده، ولكنه لم يستول على قلبه في يوم من الأيام.
ونحن إذا شئنا أن نتلمس في سيرته -في خاصة نفسه- نماذج شاهدة على رقيّه وارتقائه في السلوك الجمالي والإحساس بالجمال، إننا واجدون الكثير..
يروي ابن عباس رضي الله عنه فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير، ويعجبه الاسم الحسن (رواه الإمام أحمد). والذين يتأملون هذا السلوك -في ضوء قضيتنا- يدركون أن التفاؤل إنما هو ثمرة لرؤية إيجابيات الواقع وجماليات المحيط، وهو ضد التشاؤم الذي لا يرى صاحبه سوى القبح والسلبيات، وأيضًا هو غير السذاجة التي لا يبصر صاحبها لا الإيجابيات ولا السلبيات. فالتفاؤل موقف إيجابي من جماليات الحياة وإيجبيات المحيط.
“ولا يتطير”، لأن المتطير هو الذي لا يرى من الأشياء إلا جانب القبح والشؤم، على حين أن في هذه الأشياء -كل الأشياء- من وجوه الخير والجمال ما يطرد التطير والتشاؤم عن الذين يبصرون هذا الخير وهذا الجمال. “ويعجبه الاسم الحسن”، أي إنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ في استشعار آثار الجمال إلى الحد الذي جعله يلمحها حتى في الأسماء. فهو يدرك أثر “العنوان” في الدلالة والإيماء إلى “المضمون والموضوع”.
ثم أيّ رقي في الجمال والتجمل يبلغ ذلك الذي تحدّث عنه خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه، عندما وصف هذا الجانب من حياته فقال: “ما شممت عنبرًا قط ولا مسكًا ولا شيئًا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مسست قط ديباجًا ولا حريرًا ألين مسًّا من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ” (رواه مسلم).
ترى، هل هناك في الجمال والتجمل أرقى من ذلك الذي كان، كأن عرقه اللؤلؤ”؟! هذا هو رسول الله، جسّد في عشقه للجمال وارتقائه على دربه، منهجَ الإسلام في التربية الجمالية. فكانت حياته -في خاصة نفسه- التجسد لسنته التي علمنا إياها عندما قال: “إن الله جميل يحب الجمال”.
الاستمتاع بجماليات الحياة
أما “سيرته الجمالية” في أهله فإنها هي الأخرى، نموذج للجمال الراقي وللرقي الجمالي، تدهشنا اليوم بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا. فما بالنا إذا تصورناها في ذلك التاريخ؟!
وهذا هو النبي الذي يأتيه الوحي، ويبلّغ رسالة ربه، ويقود الدولة، ويرعى الأمة، ويكاتب الملوك، ويقاتل صناديد الشرك، وينهض بتغيير وجه الحياة على الأرض.. إنه صلى الله عليه وسلم يمارس “السباق” مع زوجته عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، وأين؟ ليس سرًّا وراء الجدران والأبواب المغلقة، وإنما في الطريق وهم مسافرون.
تروي عائشة رضي الله عنها حديث هذا الخلُق الراقي في الاستمتاع بجمال الحياة، وفي الأخذ بحظه من طيباتها فتقول: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: “تقدموا”، فتقدموا، ثم قال لي: “تعالي حتى أسابقك”، فسابقتُه فسبقتُه.. فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: “تقدموا”، فتقدموا، ثم قال: “تعالي حتى أسابقك”، فسابقتُه، فسبقني.. فجعل يضحك وهو يقول: “هذه بتلك” (رواه الإمام أحمد).
إننا نسوق هذا الطرف من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لنعجب أو نستدر العجب، وإنما لنقول: إن هذا هو المنهج الطبيعي والوحيد للإسلام في علاقة المسلم بجماليات الحياة، منهج ﴿وَابْتَغِ فيمَا آتَاكَ الهُل الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إليكَ﴾(القصص:77). ولقد أحسن الله إلينا بآيات الجمال التي زين بها كل ما في الوجود.
والإحسان المقابل هو أن نحسن الاستقبال لهذه النعم الإلهية، ونرتقي بقنوات وأدوات وحواس استشعارها والاستمتاع بها شكرًا له على ما أنعم، وإقامة للتوازن والوسيطة الإسلامية التي وإن أنكرت الترف والإسراف في الملذات، فإنها تنكر الرهبانية ونسك الأعاجم وإدارة الظهر لطيبات الحياة. إنه المنهج الذي يعلّمنا أن كل عمل يرتقي بإنسانية الإنسان حتى ما كان منه “لهوا” يروّح عن النفس، و”لذة” حلالا، فهو “عبادة” لله، يستمتع بها الإنسان في دنياه، وتكتب له بها الحسنات التي يوفاها في أخراه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عجبت من قضاء الله عز وجل للمؤمن، إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر، المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته” (رواه الإمام أحمد).
إنه منهج العشق الحلال للطيب من آيات الجمال، ينفي -بل يستنكر- ذلك التجهم الذي يفتعل الخصام بين المسلمين وبين طيبات وجماليات هذه الحياة. فالمسلم لن يستطيع أداء فريضة الشكر لله على نعمة الجمال، إلا إذا عرف واستمتع بأنعم الله عز وجل في هذا الجمال.