الأمة التي تصبو أن ترتقي إلى قمّة العظمة النفسية والعبقرية الفكرية، عليها أن تراعي أشواقها الروحية، وتعمل على تعهدها وإنضاجها واتخاذها منطلقًا إلى حيث تتشعب بها الحياة ويأخذها التاريخ.
وإذا كان الطغيان والاستبداد يحول بين الأمة ومقدّراتها العبقرية، فإن خنق أشواق الروح وعدم السماح لها بالانطلاق في مجاريها الحقيقية من حياة الأمة، أفدح خطبًا وأشد شرًّا.
فقدر الأمة يتواءم إلى حدٍّ ما، مع قدراتها الذاتية، وهو -أي القدر- يكون في غالب الأحيان جاريًا مجرى قدراتها النفسية والفكرية والعلمية، لأن القدر في واحد من معانيه -كما يقول سعيد النورسي- يساوي العلم بالشيء قبل أن يكون، وبعد أن يكون، وكيف بعد ذلك يكون.
ولا زالت هذه الأمة تخرج من “تيه” لتدخل في “أتياه”، وتخرج من إشكال لتقع في إشكالات، لأنها لم تكتنه سريرتها بالشكل المطلوب، ولم تسبر أغوار تاريخها لتعرف من هي، ومن تكون، وما موقعها من العالم ومن التاريخ.
فلهذه الأغوار أعماق في حياة الأمة أبعد أمدًا، وأهدى رشدًا من أعماق الأرض وأعماق الفضاء.
فمشكلات هذه الأمة الكبرى ناجمة عن عجزها، عن إشباع جوعة روحها قبل جوعة بطنها، وإطفاء عطش فؤادها قبل إطفاء عطش جوارحها.
فأين هي قواها الروحية والنفسية التي تأخذ بيدها إلى الصدارة، ليس من تاريخ العالم فحسب، بل إلى الصدارة من تاريخ الكون، لكونية أفكارها وسعة أشواقها. فالقوى الروحية والنفسية لها من الكون المكان الأرفع والمحل الأسنى، وعلى هذه الأمة أن تعي بأن حياتها -شاءت أم أبت- شذرة من الحياة الأبدية المطلقة، فما لم تنزل حياتها في منزلتها الحقيقية من الحياة الأبدية، فستظل محدودة الحياة، محدودة الآفاق، محدودة الأفكار، محدودة التاريخ، مجدبة الوجدان، مقفرة الروح، ضعيفة التفكير.
إننا لا زلنا حتى هذا اليوم، لا نملك من قوة التفكير ما يجعلنا قادرين على فهم ما يبتكره الآخرون الفهم الصحيح، فضلاً عن أن نكون نحن السبّاقين إلى الإبداع والابتكار.
فالفكر المعرفي مهما بلغ من القوة والنضج، يظل -من غير عقيدة تسنده- عاجزًا عن معالجة قلق النفس وجائحات الروح؛ فالعقيدة السليمة إذا مشت مشى الفكر في ركابها، وسدّد خطاها، وأنار طريقها، وأضاء معالمها.
فأشواق الروح ليست لأمة دون أمة ولا لجماعة دون جماعة، بل هي قسط مشترك بين الآدميين جميعًا.. فجناح الفكر يخفق عاليًا إذا نشرت الروح أجنحتها، وطارت بأشواقها إلى حيث ينبض قلب العالم ويخفق وجدان الكون. فالعالم من غير الإنسان ومن غير أشواقه واستشرافاته العلوية والقدسية يبقى قفرًا يبابًا، وقلبًا صامتًا، ولسانًا أبكم.
إننا سنتجنب مسالك التيه، ولا تلتاث علينا السبل، ولن يستولي علينا الرعب إذا ما جبنا رحاب قلوبنا، وتسللنا إلى حنايا ذواتنا، لأنها متلألئة بالضياء، ولأن ألف سماء وسماء تخفق في أجواء هذا القلب الرحيب الطافح بأشواقه والسابح بأنواره وأفكاره التي تفوق العقل بحدة ذكائها وسرعة إدراكها.
إن أيام هذا القلب سماوية كلها، نديّة بأنداء الخلود، إنها ينبوع من القوة يرفد العقل المبعوث للرشد والإدراك… فأية أقفال فكرية يمكن أن تصمد أمام هذا الشعاع الروحاني المذيب للحديد والفولاذ؟!
كما أنها تعزز قوى الإحساس، وتفتح منافذ الخيال، وتؤجج ثورات في الرؤوس، وتثير تساؤلات في الأذهان والعقول، وتحرك آيات البرهان، ودلائل الإيقان… وهناك في الأعماق -في الأعماق فقط- نستطيع أن نمسك بكل أضوائنا الشاردة، وأفكارنا المشتتة، ومشاعرنا الهاربة.
فأشواق الروح هذه، ينبغي أن تجد في كل أمة من يغذوها بزيت التوهج، ويؤجج اشتعالها كلما شارفت على الانطفاء والخمود. والذين يقومون بهذه الخدمة الجليلة، إنما هم “رجال القلب” كما يسمّيهم الأستاذ فتح الله كولن، المنتشرون بمدارسهم في بقاع كثيرة من العالم، من أجل هذا العمل البطولي الذي لا يقوى عليه إلا رجال من ذوي العزم والإرادة والتصميم.
فصاحب الروح العظيم لا يضلل العقول ولا العقول تضله، فإذا ما غطّت هذه الأشواق مساحات النفس، تحولت إلى عاطفة عامة تنصبغ الأفكار والأذواق والآداب بصبغتها، وتصبح طبيعةً أخرى أقوى من كل طبيعة، وأشد تمكنًا في الإنسان من غرائزه، وإذا ما تفتحت عظمة الأمة على أشواقها سرت فكرة التجديد فيها، وتبقى الأمة جديدة أبدًا، حارةً أبدًا، مملوءةً بالحياة أبدًا، مفعمة بالقوة والخصب والدراية أبدًا، وتعيش لتفكر، وتفكر لتعيش… وصارت مرآة عظيمة صقيلة صافية تقبس الشعاع مهما اشتد ظلام الليل وتكاثف سواده.