يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(النساء:56).
ماذا عن تخصيص جلد الإنسان في هذه الآية دون غيره من أعضاء الجسم؟ وما الذي قصده تعالى من كلمة “نَضِجَتْ”؟ ولماذا تتبدل الجلود حينها بجلود غيرها؟ ولماذا كان التبديل خاصًّا بالجلود؟
يتكون جلد جسم الإنسان من طبقتين هما “البشرة” (Epidermis) و”الأدمة” (Dermis). وتنقسم البشرة -وهي الجزء السطحي الظاهر من الجلد- فتتفرع إلى أربع طبقات تتوزع خلالها خلايا الجلد حتى تتمكن من القيام بوظائفها الفسيولوجية المنوطة بها. وتقسّم طبقة الأدمة -وهي طبقة الجلد الأخرى التي تلي البشرة- إلى طبقتين دقيقتين، ولكل منهما خلاياها الخاصة، وتضم بين ثناياها الكثير من الأعصاب والشعيرات الدموية والغدد الدهنية والعرَقية.
وللجلد البشري وظائف هامة، تجعله من أهم أعضاء الجسم اللازمة لاستمرار الحياة بصورة طبيعية لا يعتريها داء أو سقم. فالإنسان لا يحيا من غير جلد، وفَقْد جزء كبير منه لأي سبب كان، قد يهدد حياة المريض، وذلك لأنه يعمل حاجزًا منيعًا يقي جسمَ صاحبه من دخول الجراثيم والأحياء المجهرية الضارة، التي يمكن لها غزو الجسم في حال عدم تغليف الجلد له، وبالتالي إصابته بالكثير من الأمراض الالتهابية.
ويمنع الجلد كذلك، عملية تبخّر سوائل الجسم، وبذلك تتم المحافظة على رطوبته ضمن حدودها الطبيعية. ويساهم الجلد أيضًا في تنظيم درجة حرارة الجسم، إذ يعمل على ضبط درجة الحرارة عند حدودها الطبيعية، وبذلك يتمكن الجسم من القيام بتفاعلاته الحيوية بشكل مضبوط.
أسباب الحروق الجلدية وتصنيفها
تحيط بنا الكثير من مصادر الطاقة والحرارة، التي تتفاوت شدتها بين خفيف ومتوسط وشديد، وذلك بناءً على قوة المصدر ومقدار ما ينبعث عنه من طاقة.
وتضم مسببات الحروق الجلدية التعرض للسوائل المغلية، كالماء المُعدّ للطهي والمشروبات الساخنة وزيت قلي الطعام، وحروق النار (Flame Burn)، والحروق الكهربائية التي تنتج عن التعرض للطاقة ذات الجهد المرتفع، والحروق الكيميائية التي تسببها بعض الأحماض أو المواد القاعدية.
ويتم تصنيف الحروق أيًّا كان سببها، اعتمادًا على سماكة الجزء المحروق من الجلد، ومدى تأثر طبقتيه (البشرة والأدمة)، وهنا تظهر لدينا العديد من درجات الإصابة:
1- حروق سطحية: تصيب طبقة البشرة فقط، وتتماثل للشفاء بسرعة في حال تقديم العلاج المناسب، وتعرف علميًّا بحروق الدرجة الأولى.
2- حروق عميقة: ويتخطى تأثيرها طبقة البشرة ليصل إلى طبقة الأدمة، وهي ذات خطورة أكبر من سابقتها، وفيها قد يتأثر جزء صغير فقط من الأدمة، وهنا يكتسب الحرق صفة الدرجة الثانية.
3- حروق أخرى أشد عمقًا: تتأثر طبقتا الجلد بالكامل (البشرة والأدمة)، ويُعرف الحرق حينها بحرق الدرجة الثالثة، وقد تصل الإصابة إلى ما دون الأدمة من الأنسجة كالعضلات أو العظام، وهي أخطر الإصابات على الإطلاق، وتعرف بحروق الدرجة الرابعة.
وقفة مع حال أهل النار في الآية الكريمة
إنه لمشهد عظيم ذاك الذي تصوره الآية الكريمة، وهو يبدأ ولا يكاد ينتهي، ويَشخَص له الفكر والخيال، وقد أبدع السياق في رسمه بصورة دقيقة.
تتحدث هذه الآية عن الحال التي سيؤول إليها أهل النار ممن كفر بآيات الله، وقد ورد في النص قول الحق: ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ﴾، وكلمة “سوف” تعني حدوث فعل في المستقبل، مؤكد محتم لابد منه ولا مفرّ ولا ملجأ ولا منجى، فالحادثة لا شك واقعة، وسيُستحق الوعد والوعيد، وسوف يَصـلى الكافرون نار جهنم لا محالة.
وأصل الصّلـي في اللغة: الإيقاد بالنار والابتلاء بها، وصَليتُ الشاة: أي شويتها. قال الخليل: صَلِي الكافرُ النارَ: أي قاسى حرّها، وقال الطبري: سوف يُنضَجون في نار يُصلَون فيها، أي يُشوَون فيها، وفسر الحافظ ابن كثير الصلي بالنار بدخولها دخولاً كاملاً يحيط بجميع أجرام الكافر وأجزائه، فهي عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته، وأمامه وخلفه، فلا يكاد يُرى لها بُدّ، ولا منها مهرب أو مفر.
ثم وردت في الآية الكريمة كلمة “كُـلـّما”، وهي لفظ يدل على استمرار حدوث الفعل، وتكرار المعنى في دورة لا انتهاء لها… وتدل أيضًا على عدم توقف الحدث عند حد معين، بمعنى أن فعل الصلْي بالنار والاحتراق بها مستمر دائم، وتأثير النار لا ينقطع عن الجلد، والعقوبة مستمرة والنكال لا ينفك، ويحتاج لفظ “كلما” كما يقول أهل اللغة، إلى جملتَين تترتب إحداهما على الأخرى، وفي مثالنا هنا نرى جليًّا، أنه كلما نضج الجلد السابق بُدّل جلدًا آخر غير محترق، فترتب تبديلُ الجلود على نضجها.
وهكذا يستمر شريط طويل وحلقات متعاقبة من عملية الاحتراق، التي يتلوها نضج وتبديل دون أن يقف مسرح الأحداث هذا عند مرحلة معيّنة أو زمن ما، فتغدو العملية إذن، ذات بداية لا نهاية لها.
ثم تأتي الكلمة التالية في سياق الآية الكريمة، وهي “نَضِجت”، ويورد ابنُ منظور في لسان العرب مادة “نَضِج”، وعنها يقول: نَضِج اللحمُ شواءً، إذا أُدرِك شَيّـه.
وعلى كل حال، فالمعنى ظاهر بيّن لا غبار عليه، واللفظ جاء عنيفًا مُفزعًا، فهو صورة للحالة التي يكون عليها الجلد المحروق، بعد فترة من بداية احتراقه إلى أن يبلغ نهاية عملية الشيّ. فمن المعروف أن عملية النضج لا تحدث بسرعة، بل يسبقها مرور وقت ليس بالقصير، من التعرض المستمر والمباشر إلى ألسنة النار.
وبالطبع فإن عذابًا كهذا لا يقف خلال عملية الشواء، بل إن الألم يبدأ من لحظة تلامس النار مع الجلد ويستمر دون كلل أو ملل… ويزيد هذا الألم تدريجيًّا ليتدرج الحرق بدءًا من الدرجة الأولى، مرورًا بالثانية فالثالثة… وهكذا تستمر عملية الحرق، وتتخرب خلايا الجلد وأنسجته تدريجيًّا، ويفقد الجلد قوامه وتماسكه، ويزول بريقه ولمعانه، وتضيع معالمه التشريحية، إلى أن يصل الأمر بالجلد إلى مرحلة الشواء التام والنضج… وهنا يكون الجلد قد تساقطت خلاياه، وأخذت أنسجته تتآكل تحت التأثير المستمر لفعل النار المحرقة، حتى تذوب تمامًا، ولم يبق في الجلد بعد الآن رمق من حياة أو إحساس.
تتوالى أحداث قصتنا هذه تباعًا ويعقب ذلك مرحلة جديدة، وهي خطوة عجيبة خارقة للطبيعة، تحدث بقدرة الله وإرادته التي لا يقف أمامها شيء، فيأتي الأمر الإلهي هنا بتبديل جلود أهل النار.
وهنا يتبادر إلى الأذهان سؤال: لماذا ورد اللفظ القرآني هنا “بدّلناهم”، ولم يقل “أبدلناهم”؟ وهل هناك من فارق في المعنى والمضمون بين اللفظين؟
في الحقيقة، إن هناك بونًا شاسعًا بين الكلمتين “بدّلناهم” و”أبدلناهم”، وتعليق أهل اللغة في هذا الموضوع، يضيف إلى قائمتنا لونًا بيانيًّا وضربًا إعجازيًّا جديدين… فالتبديل -وهو مصدر “بدّلناهم” الواردة في الآية- جعلُ نفس الشيء مكان شيء آخر، ومنه تغيير الصورة إلى صورة أخرى مع بقاء الجوهرة بعينها.
أما الإبدال فهو مصدر للفعل “أبدلناهم”، ولم يرد في آيتنا تلك، فهو تنحية للجوهر، واستئناف جوهر آخر مختلف تمامًا، أي وضع شيء مختلف تمامًا مكان شيء آخر.
وما يخصنا هنا، هو العملية العجيبة التي يحدث فيها أن تتكاثر خلايا الجلد وأنسجته من جديد، مما يؤدي إلى ظهور جلد آخر غير الذي سبق له أن احترق حتى نضج… إلا أن الجلد الجديد هذا، شبيه بسابقه، مكتمل التركيب، تام المعالم والوظيفة، يحوي كل مكونات الجلد السليم، في حين أن “أبْدَلنَاهُم” تعني الإتيان بشيء جديد قد يكون مختلفًا عن الجلد، والله تعالى يريد الجلد نفسه بجميع عناصره وخصائصه السابقة التي كان الخـلق الأول عليها. وهكذا تستمر هذه العملية من العذاب الدائم الذي لا انقطاع له.
ويختم الله تعالى قوله الكريم، مصوّرًا ذلك المشهد الرهيب بجملة شرطية: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾، وهي تعليل لقوله تعالى ﴿بَدَّلْنَاهُمْ﴾. وهنا يظهر إعجاز بياني جديد؛ فقد ثبت علميًّا أن جلد الإنسان الطبيعي يضم في سطحه الكثير من نهايات الأعصاب الحسية، وهي نقاط الحس التي يبدأ منها صدور الشعور، فتُترجم شعور الجسم بالألم والحرارة، لأن تعرّض هذه الأعصاب الجلدية إلى مصدر الألم أو الحرارة، يؤدي إلى إرسال إشارات سريعة إلى الألياف العصبية وصولاً إلى الدماغ والجهاز العصبي في جسم الإنسان، وهناك يتم إدراكها واستبانة دلائلها، مما يعطي شعور النفس بالألم والإحساس به، وذلك بحسب عادة خلق الله تعالى وفطرته التي فطر الناس عليها.
وفي حال إصابة الأعصاب بمرض ما، أو اضطراب وظيفي كما في حال احتراق أعصاب الجلد، فإن هذه الوظيفة تتعطل، فيتوقف ساعي البريد الذي يحمل الرسائل، وتنقطع وسيلة الاتصال بين الجلد والجهاز العصبي، ويُفقد حينها الشعور بالألم تدريجيًّا إلى أن يختفي تمامًا.
إذن، فلولا عملية تبديل الجلد، التي سيخضع لها معذبو أهل النار، ولولا الأعصاب الجديدة التي ستظهر، لفَقد أهل النار الشعور بالألم حينما تنضج جلودهم أول مرة، ولغدت عملية التعذيب قصيرة وذات نهاية ستأتي وإن طال انتظارها، إلا أن قدرة الله تعالى وإرادته، أبت إلا أن يتبدل الجلد بجلد غيره يرجع كنظيره السابق، بغية أن يدوم على أهل النار تذوّقهم للمزيد من الأذى والعذاب اللذين لا يقفان لحظة واحدة ولا ينقطعان.
ويظهر لدينا الآن سؤال جديد: لماذا قال تعالى: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾؟ وعلى من يعود الضمير هنا؟ نجيب عن ذلك فنقول: إن الهدف المقصود هنا من عملية التعذيب بالنار، هو تعذيب النفس والبدن وإيلام روح صاحب الجسد، وليس المطلب هو تعذيب الجلد نفسه. ولو أريد تعذيب الجلود ذاتها لقيل “لِـيَـذقنَ العذاب”. وفي ذلك ورد عن الزمخشري في الكشاف: “فإن قيل كيف تُـعَذب مكانَ الجلود جلودٌ لم تعص الله؟ قلتُ: العذاب موجّه للجملة الحساسة وهي التي عَصَتْ لا الجلد، وهذا يعني أن طاقة العذاب ومطارقه موجهة نحو صاحب الجلد ونفسه التي يحملها بين جنباته”.
وثمة سؤال آخر يثيره هنا أهل اللغة: لماذا جاء النص
﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ وليس “ليتذوقوا العذاب”؟ وهل من فرق بين الذوق والتذوق؟
نعم، هناك فرق كبير بين اللفظين، واختيار الذوق جاء في مكانه الدقيق، مصورًا للحالة التي سيكون عليها العذاب في النار. وعن ذلك يفصّل أهل اللغة الكلام، فذاق الطعام؛ أي خبر طعمه، بينما تذوقه تعني شعر بطعمه شيئًا بعد شيء.
وإن أردنا قياس ذلك على موضوعنا في ظل الآية الكريمة، نرى أن أهل النار سيذوقون عذابها، وهذا يعني أن شعورهم بمذاق العذاب لا يقف برهة ولا ينفك… فطعمه إذن دائم مستمر متواصل، ولو قيل إنهم سيتذوقون العذاب، لكان حينها طعم العذاب متدرجًا، وقد تتخلله فترات من الراحة و الهدوء، وهذا ما نفته الآية الكريمة نفيًا قاطعًا حين اختارت أسلوب ذوق العذاب.
ختامًا، فإن الآيات التي تناقش مثل هذه الحقائق العلمية المثبتة كثيرة، ولم يحدث أن أثبت العلم خلاف ما أقرّه القرآن الكريم في خبر من تلكم الأخبار، بل جاء العلم الحديث شاهدًا على صدق الرواية القرآنية، ليرشد كل ذي عقل وحكمة على أن هذا الكلام إنما هو من عند الله، ولو أنه كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.