“نظرتُ فإذا كل شيء من حولي صامت صمت الرهبة، ساكن سكون الجلال، لا نأمة ولا حس ولا حركة، ولا شيء يشغل الإنسان عن التفكير في السماء والكعبة تبدو من بعيد وسط هذا الإطار الصخري… فمن كان في الغار، كأنه في الدنيا وما هو في الدنيا، يرى الكعبة وحدها فيتصل منها بكل ما هو سماوي طاهر، ويخفى عليه كل شيء غيرها فينفصل من كل ما هو أرضي ملوث. وقالت لي النفس: بماذا كان يفكر محمد وهو يقضي الأيام والليالي وحيدًا في هذا الغار؟ فقلت أنا أعرف ويحك بماذا كان يفكر محمد؟ أنا أسمو بعقلي الأرضي المثقل بالشهوات والمطامع إلى جو محمد؟ أتطمع الزواحف أن تزاحم العقبان في أكباد السماوات؟
وقعدت خاشعًا مفكرًا، وانطلق ذهني يرتاد جنبات الماضي الحبيب يتصور محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو في هذا المرقب العالي، وحيدًا مفردًا حين جاءه البريد من فوق السبع الطباق برسالة من الله وقال له: ﴿اقْرَأْ﴾”.(1)
اخترت هذا المثال في وصف الرحالين للأماكن الشريفة والعظيمة التي يمرون بها ويستطلعون أحوالها، لأقف على الفارق الكبير بين مشاهدتين إحداهما لا تتعدى الأشكال والعوارض المنظور إليها، وأخراهما لا تنحصر مهمتها في حدود مرقب دوني، حيث يكل البصر وتعجز الحواس عن استبصار معالم الطريق، فلا سبيل لصاحب هذه المشاهدة إلا أن يتبع سنة الارتقاء.
قد يحمل الرحالة بين أطوائه نفسًا تواقة إلى السفر، وساعية إلى الترفل في كل زينة ظاهرة وغير مكترثة بما يسمو بها إلى مقام التدبر. ربما يكون حراكه قناعًا يرسم دراما رهيبة، أو فصامًا ينم عن تشظ داخلي يكبح جماحه، حيث لا يسعده سوى أن يظل هاربًا من نفسه لغاية غير معلومة، باعتبار أن السفر في غير طاعة الحق إنْ هو إلا شكل من السم القاتل أو الإدمان الذي يخاله الواهم علاجًا نفسيًّا مهدئًا.
لكن قد يكون السفر خلافًا لذلك، أيْ شكلاً من أشكال الارتقاء والتسامي من أجل الاقتراب من الحق ذاته. والذي يحرك الرحالة في هذه الحالة، هو روح أصيلة تحتكم إلى موازين دينية وخلقية مخصوصة.
إن ما يميز الرحالة المسلم في هذا المقام عن غيره، هو أن سيره سير اعتباري؛ فالخطوة التي يخطوها تذكّره بعظمة الخالق. وبما أن للمكان نوعًا من الجاذبية التي تحضر في النفوس حسب هيئات وصور مختلفة، فإن المكان الذي يحمل قداسته يكون له الأثر البليغ. فما بالك لو كان هذا المكان موطن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كانت تلك الأرض موطئ قدميه؟!
أسرار المكان
نصغي إلى المكان في هذه الحال وهو يقص قصته… فالطريق إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة يجتذب الإحساس كله. لا نجد في طريق هذه الرحلة معادلاً لفظيًّا واصطلاحيًّا، يصف ظاهرة التموج الأسلوبي والرونق التركيبي الذي يلخص تاريخ نشوء حضارة مدعومة بالوحي. عادة ما يقرن علماء النفس والأدب حالات انفلات الذاكرة، عبر نثير الموجودات في أزمنة الحكي بمفهوم التداعي، لكن أي نوع من التداعي هذا الذي يملأ جوانح المرء سعادة، ويغوص به في سحر المكان؟ بل أي نوع من التداعي هذا الذي تعجز فيه لغة مروضة عن الاحتفاظ بمسافة بينها وبين موضوعها؟ تعجز، فلا يكون لها بد من أن تسترفد ينبوع قوتها من معين خارق وأصيل. ذلك هو النور المحمدي الذي يعيد للغة وهجها وخلودها.
يشع النور في نفس الرحالين وهم يسيرون وفق تواقيع يلتحم فيها الزمن، ماضيه وحاضره ومستقبله. يواصلون رحلتهم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وتحضر لديهم شجون وتغمرهم أحلام عظيمة، ثم يتذكرون وصايا ما فتئوا يدونونها في مخطوطاتهم:
“للزائر إذا توجه للمدينة المشرفة، أن يكثر في طريقه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وقع بصره على جدرانها وأشجارها كبّر ثلاثًا ثم يقول: اللهم فإن هذا حرم رسولك ونبيك المختار، فاجعله بفضلك وقاية من النار، مأمنًا من العذاب وسوء الحساب، يا عزيز يا جبار”.(2)
ويسطع النور المحمدي أكثر كلما اقتربنا مع الرحالين إلى المدينة.
وتبدو الشعاب والجبال الكالحة الترابية محدِّثة بالحقائق التي لم يخمدها القدر. وكل خطو عبر المعالم التاريخية يذكر ببهاء نبي الإنسانية جمعاء. فهذه قرية بدر وتلك مقبرة القليب… وجهان متناقضان للتاريخ… غالب ومغلوب! الطيش البشري مغلوب لا محالة. ما فتئ الراحلون يرون بشارات النصر في بدر، وما فتئ كلام يرن في الآذان… يوقظ القلوب الغلف: يا أهل القليب… يا أهل القليب.
هنا نادى الرسول صلى الله عليه وسلم: “يا أبا جهل بن هشام! يا أمية بن خلف! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ فإني قد وجدتُ ما وعدني ربي حقًّا”. فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يسمعوا وأنى أن يجيبوا وقد جيفوا؟ قال: “والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا”. (رواه مسلم)
نور محمد يشع في النفوس؛ فيصير الحكي خيالاً نقيًّا، وحقيقة لا تدرك إلا في حال انعتاق العقل من أدران المادة وأوضارها… تنفصل عن إيهابها البسيط، إذ غالبًا ما تتكشف هذه اللغة عن نقاء مصدره؛ المحبة والإيمان.
صوّر الرحالون مشاعرهم وعكسوا في مدوناتهم ما كان يعتريهم من أحوال نحو خير الأنام، وتركوا لنا زادًا أدبيًّا يغمره الإحساس الصادق. كل ذلك نطالعه أثناء تصفحنا للرحلات التي كتبها المسلمون من كل الأصقاع بلغات مختلفة عن المدينة المنورة، وعن المسجد النبوي وروضات البقيع، نجد ذلك في الآداب الإنسانية المختلفة… لغة هؤلاء لغة كونية وفطرية هي حبهم لله وتعلقهم برسوله الكريم. كان ذلك خليقًا بأن ينسيهم متاعب الرحلة ومصاعبها، مثلما نلفي في حكي رحالة مشفوع بنبض عقيدته الخالد وبمضاء فكره المستنير. يقول الشيخ الندوي:
“وتحملت متاعب السفر إلى المدينة، وأنا أتمثل ذلك الراكب الأول الذي ملأ الفضاء نورًا وسكينة. وصلنا إلى المدينة المنورة، وصليت ركعتين في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وحمدت الله على ذلك، ثم وقفت وأنا مُثْقَلٌ بالمنن: لا أستطيع أن أكافئها، ولا أستطيع أن أقضي حقها”.(3)
مراتب المحبة
ومن أعلى مراتب المحبة، محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، محبة تزدان بتوقير عظيم، توقير للمكان ولذكرى من عاش في هذا المكان. وذاك ما تجلوه أوصاف أمكنة مثل البقيع والمسجد النبوي والروضة الشريفة، وغيرها من المواضع المقدسة، حيث تمتزج فيها ذائقة الجمال بالحاجة إلى التعظيم. البقيع -كما تحكي الرحلة الحجازية- له عند المسلمين مكانة عظيمة ويقال له بقيع الغردق، لأنه كان يكثر فيه هذا النوع من الشجر، وبه دفن نحو عشرة آلاف من الصحابة رضوان الله عليهم وكثير من آل بيت النبوة صلوات الله عليهم.(4) والمسجد النبوي -كما جاء في رحلة العبدري- عالي السمك مبيض مدور بالسقائف عجيب المنظر… وأما الروضة الشريفة فتوجد داخله وهي “معمولة بالرخام الأبيض من الأساس إلى سقف المسجد بأتقن ما يكون من الصنعة وأعجبه”.(5)
ومن ألوان تلك المحبة اندماج الرائي في عالم موصوفاته اندماجًا روحيًّا كليًّا، فكأني بالرحالة يعبر هنا عن حنينه الأبدي لاستعادة الشعور بالصفاء المطلق؛ فما سعى بين الصفا والمروة، وما صعد جبل الرحمة، وما قام في الروضة أو مر ببدر ورأى العدوة الدنيا والعدوة القصوى، إلا شعر كأنه يعود إلى تاريخ السمو الإنساني، تاريخ السيرة النبوية. ووفق هذه الموازين الروحية، يستعيد ما أنجزه الدين في عقول الناس وأبصارهم لما غير الدنيا من حال إلى حال.
فهذه مكة لم تكن سوى قرية صغيرة متوارية بين الأخشبين، ولم تدر بها رومه، ولم تحفل بها القسطنطينية، فلما دوى فيها صوت محمد صلى الله عليه وسلم ينادي لا إله إلا الله ولا رب سواه، لا كسرى ولا قيصر، ولا اللات ولا العزى، وأنها خابت وخسرت الأصنام كلها أصنام الحجارة وأصنام القبور، وأصنام اللحم والدم، وأن الفضل بالتقوى والعاقبة للمتقين… وقعت معجزة المعجزات، كبرت هذه القرية حتى أكلت مدن الباطل، ثم كبرت حتى ولدت مدن الخير والحق، ثم كبرت حتى صارت أم الأرض كلها.(6)
ولنتأمل وجهًا آخر من هذا الحب الخالد، النابع من فيض النور في غار حراء، من خلال وصف بديع لحركة نورانية لهذا القاصد المستنير، الذي لا وجهة لرحلته غير الوجهة التي سلكها خير البشر أجمعين. كان أحد الناس يطأ الصخر وطء متعسف جبار، فما كان إلا أن تدحرجت حجارة بقدميه، فما كان من القاصد إلا أن صرخ، ويحك فهذي الصخور قد سمعت أول كلمة من حديث السماء في أذن الأرض، ولو استطعت لمشيت على الرأس تقديسًا وإجلالاً. “فما أجرؤ أن أطأ بقدمي الجبل الذي ضم ذراعيه يومًا على محمد صلى الله عليه وسلم، وسمعت أذناه جبريل يقول له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾”.(7)
هذه المحبة ثمرة مضافة ينالها نزيل هذا المكان، لذا يهون في سبيلها كل عناء. يقول:
“كنا قد بلغنا القمة بعدما تقطعت أنفاسنا ونشفت روحنا وبلغت أرواحنا التراقي، ونظرنا فإذا نحن كالمعلق في السحاب، وإذا الدنيا كلها أسفل منا، أما الغار فكان تحتنا في مكان لا يمكن أن يصل إليه إلا من تدلى، ثم يمر من شق في الجبل حتى يبلغ فرجة في الصخر كأنها وكر نسر… ما أحسب طولها يعدو المترين، ولا يبلغ عرضها المتر، وكان هذا هو غار حراء… إننا لم نصل إلى القمة ونحن جماعة ونحن نصعد على درج منحوتة، حتى أشرفنا على الموت، فكيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، وكيف عرف مكان هذا الغار إلا أن يكون قد ارتاد هذه الجبال كلها أو بلغ أعاليها، وكيف كان يقيم وحده الليالي ذوات العدد، وما حوله إلا هذه الجبال السود وهذه الوحشة الصامتة المرعبة؟”.(8)
ويبقى حب الرسول حبًّا كامنًا في كل الرحلات الإسلامية حتى وإن لم تكن وصفًا للبقاع المقدسة. فشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي الشخصية التي يتداعى للدفاع عنها الرحالة المسلم، خصوصًا في تواريخ دقيقة ومفصلية في تاريخ الأمة. وذلك شأن الرحالة الموريسكي “أفوقاي الحجري”، الذي نكتشف في شخصيته أثناء مجادلاته ومناظراته للنصارى واليهود في كتابه “مختصر رحلة الشهاب”، حبًّا قويًّا للرسول الأعظم، وذلك الحب هو ما يستصحب إشارته إلى كتاب وجد في غار من “خندق الجنة” وهو موضع يوجد قرب غرناطة. ففي الكتاب حكمة تقول سيأتي في الوجود من بعد عيسى عليه السلام، “نور من الله اسمه الماحي… خاتم المرسلين… وخاتم الدين ونور الأنبياء، لا نور لهم دونه ولا لأحد من العالمين. فالذين آمنوا به يسعدون حق السعادة، وينورون حق التنوير المبين من الله”.(9)
يتبدى الحجري في عرضه الأدبي لرحلته شخصًا مؤهلاً، ليتبوأ بفضل إيمانه وتصديقه للرسالة النبوية، مقام الفاعل الذي ينجز انتقالاً حقيقيًّا من حالة إلى حالة أخرى، أي من حالة المغلوب على أمره إلى حالة المنتصر. فهذا الرجل يخرج منتصرًا في كل محاوراته ومناظراته… وهو بحق فاعل إجرائي يحقِّق للسرد وظيفته الجوهرية فيخدم فكرة الاتصال، ويصبو نحو تحقيق التناغم مع الذات في ظل سياق حكائي وحواري تروم الرحلة فيه تشويق القارئ واستمالته.
صفوة القول
تلك إذن بعض الملامح التي يستطيع القارئ من خلالها، أن يستبين حقيقة الطاقة الفنية الخارقة، التي تبعثها محبة الرسول الأعظم في نفوس الرحالين في أزمنة لقائهم والتحامهم بالأمكنة التي تذكرهم بضيائه وعظمته صلى الله عليه وسلم. وتلك حقيقة تتعدى نطاق الخيال والأدب بمعناهما المباشر، أو الوصف الجغرافي بمعناه العلمي الدقيق، إلى رحابة المجتمع والحضارة والعمران، حيث تبقى حلقات النمو الجمالي والبناء الحضاري موشوجة وموصولة، وتغدو ركائب المستقبل ورحلة الأجيال المتلاحقة في طريق الحق، ظافرة بانسيابية رفيعة ومالكة لجوهر روحي أصيل وأخاذ يمثل مكمن قوتها وبهائها على مدى الأحقاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) نفحات الحرم، لعلي الطنطاوي، دار الفكر، ص:21، دمشق 1400هـ/1980م.
(2) أنس الساري والسارب من أقطار المغارب إلى منتهى الآمال والمآرب سيد الأعاجم والأعارب، لأبي عبد الله القيسي المعروف بابن مليح (_ بعد 1040)، تحقيق محمد الفاسي، سلسلة الرحلات -5- حجازية/2، ص:90، فاس 1388هـ/1968م.
(3) الجزيرة العربية في أدب الرحلة الأردي، لسمير عبد الحميد نوح، منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، سلسلة آداب الشعوب الإسلامية -5- الإدارة العامة للثقافة والنشر، ص:573، الرياض 1419هـ/1999م.
(4) الرحلة الحجازية، لمحمد لبيب البتنوني، ط2، مطبعة الجمالية، ص:257، مصر 1329هـ.
(5) الرحلة المغربية، لأبي عبد الله العبدري، تحقيق محمد الفاسي، سلسلة الرحلات -4- حجازية/1، ص:205، جامعة محمد الخامس، الرباط 1960م.
(6) نفحات الحرم، لعلي الطنطاوي، دار الفكر، ص:15، دمشق 1400هـ/1980م.
(7) نفحات الحرم، لعلي الطنطاوي، دار الفكر، ص:20، دمشق 1400هـ/1980م.
(8) نفحات الحرم، لعلي الطنطاوي، دار الفكر، ص:21، دمشق 1400هـ/1980م.
(9) ناصر الدين على القوم الكافرين، ص:31.