في مكتبي، أعالي جبال “شَمْليشا”، عبر نافذتي… من بعيد يغمز لي “البوسفور” بعيون لازردية، ومِن فوقه جسر العبور من أوروبا إلى آسيا، يرسم أملَ مستقبلٍ للعالَم جديدٍ، يتزحزح فيه المحور من الغرب إلى الشرق، وفوق الجسر ناسٌ… بل بشرٌ من كل جنس ولون، يحملون آمالهم وآلامهم، أحلامهم وأفكارهم، ولا يرى بعضهم من بعض سوى المظاهر والأشكال، أمَّا “السرائر” فتبقى غامضة إلا على من ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾(غافر:19).
فجأةً ودون سابق إنذار، يكسر المشهدَ البعيد مشهدٌ قريب، وكم من بعيد أخفى على العبد نعمة القريب… إنها زخَّات ثلج ناعم هفهاف، تتنزل في صمت من السماء، فتلامس أغصان الشجر، وتدغدغ أنوف البشر، وتحكي قصة “البياض الذي يقهر السواد”، وهي في ذلك لا تفرّق بين سعيد وشقي ولا بين فقير وغني… لكنَّ كل واحد من هؤلاء على اختلاف مصدره ومورده، يستقبلها حسب سعة قلبه، ووفق إنشاره وقبضه… فكم من مترفٍ نظر إليها نظرةً شزراء بلهاء حانقة، وكم من معدم بسط كفيه إلى السماء، والتقط واحدة من “حبات الخير” فأودعها فاه راضيًا مرضيًّا، حامدًا شاكرًا، سعيدًا منعَّمًا… “كأنما حيزت له الدينا بحذافيرها”.
زخات الثلج تقول: أخي، أختي، الدنيا هي قلبُك، وقلبُك هو الدنيا، فإن يك واسعًا رحبًا صفَّق الكون مرَحًا ورحابة، وإن يك هذا القلب -وا حسرتاه- ضيّقًا حرجًا عبس الوجود وقطَّب حاجبيه حسرةً وأسفًا! فانظر ماذا ترى، وارسم على لوحة الزمن أيَّ شكل تريد وأيَّ لون تشاء.
بعض الناس ما أشقاهم، يضمِّخون العالم بالأحمر الفاقع، وآخرون يسوّدونه عنوة ويحاربون البياض بشراسة، وآخرون لا يرون لما حولهم لونًا ولا طعمًا، فهم أحلاف “اللالون” وأحلاس “اللامعنى”… وآخرون… وآخرون.
أمَّا بعضٌ من عباد الله، فتجدهم يفرشون القفر وردًا وزهرًا، ويُعبِقون الدنيا عطرًا وعنبرًا، وتأبى شفاههم وصف شيءٍ بالسلب، إذ كلُّ شيء -سوى الشر- في مذهبهم قابلٌ للقبول، وكلُّ أمر سوى الفساد والقبح أهل لأن يلتفت إليه… إنَّ هؤلاء هم رسلُ السماء، وخلائفُ الأنبياء، ورواد الأصفياء… فهم الثلج الذي تتناثر حبَّاته النورانية من السماء رحمة من رب الثلج ورب السماء.
آهٍ، ما إن انتهيت من خطّ أولى كلماتي المرتعشة في وصف أولى الزخات المتساقطة حتى افترشت الأرض بياضًا ناصعًا، وها هي ذي النباتات والحيوانات والحشرات تهلِّل وتستبشر، فتعلنه حفل زفاف لهذا العام السعيد، تعلنه بالحمد والشكر والاعتراف بالنعمة للمنعم الحميد… أمَّا الكثرة من البشر -المستعدون لحفل الكريسماس- فهم غافلون سادرون عن المنعِم، عائمون غرقون في محيطات النعم وبحارها ووديانها ولسان حالهم يردِّد: هي هكذا جاءت، وهي من هبة الطبيعة المعطاء، أو هي شراكةٌ بين الأب والابن وروح القدس، أو هي الصدفة آثرتنا على العالَمين… بل هو التطور، وسلسلة الأسباب المادية، والفهم العلمي… كلُّ أولئك أنعم علينا هذا الخير العميم… فلمَ الحاجة إذن للإيمان برب واحد أحد، فرد صمد، لا نراه ولا نعرفه؟!
فتحتُ النافذة والتقطتُ بيدي اليمنى زخَّة واحدة لا أكثر، ثم عجَّلتُ في إغلاقها حتى لا أزكم، والتفتُ إلى الضيفةِ، وسألتها بصوت هادئ رفيق: مَن ربُّك، مَن خالقك، من ذا الذي ألقاك من السماء، ومَن الذي اعتنى بك فهبطت من المسافات الشامخة دون أن تتهشَّم عظامك، ومن أمرك بسقي نبتة أو دودة أو طفلة… أو حتى ملحد جاحد كفار؟
سكتت برهة وأزاحت النقاب عن وجهها الصبوح، وما درت أنها قتلتني بعينيها الحوراوين الكحلاوين النجلاوين، وبخدّها المبلَّل بدمع سخين، والمجمَّل بخان وحنين، قالت: أهذا سؤال يسأله عاقل؟
قلت: أنا مِن أبي إبراهيم تعلَّمت السؤال، ألم يسأل ربه:
﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾(البقرة:260)، أفلم يجبه سبحانه: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾(البقرة:260)، ألم يقل بعد ذلك: ﴿بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾(البقرة:260).
كذلك أنا: “ليطمئنَّ قلبي”، “ليطمئنَّ قلبي”، “ليطمئنَّ قلبي”…
تنهَّدت وسبَّحت واستغفرت ثم قالت: نعم، صدقت، إنه الله ربي وربك ورب كل شيء، فسبحانه وهو القائل:
﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾(ق:9-11).
قلت بأعلى صوتي “سبحان الله”… ثم التفتُ إلى يدي فألفيتها مبلَّلة وقد ذابت الثلجة المعلِّمة، ولكنَّها تركت كلمة محفورة على راحة يدي، فقرأتُها مشفقًا منها، باكيًا:
أخي، لا تقف في “بلدةً ميتًا”، ولكن واصل واتلُ قول الحقِّ مؤمنًا موقنًا: ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾.
اللهم نجنا يوم الحشر، ويوم البعث، ويوم الخروج… آمين.