الإنسان المعرفي، هو ذلك الإنسان الذي يحاول أن يعرف نفسه التي بين جنْبيه، ويعرف العالم من حوله. والرغبة بالمعرفة نازع إنساني غريزيّ فطري، وهو دافع ملحّ يضطر الإنسان بسببه إلى البحث عن الطريق الموصلة إلى هذه المعرفة فَيَجِدُّ في سلوكها وقطع أشواطها.
فالنقطة الفارقة التي عندها يتحول الإنسان من مجرَّد كتلة جسدية ثقيلة، إلى طاقة روحية وفكرية، هذه النقطة الفارقة هي عندما يخطو الخطوة الأولى في هذه الطريق، فيغدو شكلاً آخر من أشكال الرقي الإنساني، التي تتوخّى الإنسانية ابتعاثه إلى العالم من بين أبنائها لكي يكون تاجًا على رأسها، تزهو به وتفخر أمام الكون والكائنات.
ولَمّا كان “المعرفي” بتميزه الفكري، هو أكبر وأوسع مِمَّنْ يستطيع الناس العاديّون والتقليديون فهمه وحتّى احتماله والوثوق به، لذلك -وكردّ فعل من جانبه- يبدأ بالانسحاب إلى أعماق نفسه، ليمحص فيها أفكاره، ويراجع معارفه وثقافاته. وقد يمضي في طريقه المعرفي وحيدًا متفرّدًا، دون شعوره بالحاجة إلى البحث عن رواد كبار كانوا قد مَرُّوا بالطريق نفسها من قبلُ، لكي يأنس بهم ويستعين بوجودهم على معرفة الطريق ومسالكها وشعابها وسهولها وحزونها.
فأهوال الطريق من الكثرة، بحيث تتطلب من سالكها الكثير من اليقظة والانتباه، والكثير من الرفقاء الروّاد الملمّين بشؤونها وأبعادها، وإلا أصابه التعب، وربما هلك وهو لم يقطع من الطريق إلا القليل.
ومن جانب آخر فإن تفرد “المعرفي” بنفسه في سلوك الطريق خطأ ذهني بالأساس، لأن الاستقلالية الفردانية وهم يقع فيه “المعرفي” لعدم التفاته إلى الحقيقة المشاهدة، مما يحيط بنا من أن الأشياء لا يستقل بعضها عن البعض الآخر، وأنه لا يمكن فهم شيء، إلا إذا اقترن وجوده بوجود شيء آخر. والإنسان -كذلك- لا يمكن أنْ يعرف ذاته حقّ المعرفة، إلا إذا اتصلت هذه الذات بالذوات الأخرى المختلفة معها وحتى المتشاكلة معها.
والمفتاح الذي يديره المعرفي في مغاليق ما يواجهه من إيهامات معرفية وإشكالات وجودية وهو يقطع الطريق إلى هدفه، إنما هو -أي المفتاح- فَعَّالية ذهنية مضنية، تهزُّ أعماق مداركه ليحظى من بعدها باللحظة المضيئة التي تضيء له معضلات الطريق، وترشده إلى وسائل تجاوزها… وهذه اللحظة المضيئة، تتنزل على سماء العقل بعد مجاهدة ذهنية مضنية، كالنجم الثاقب من وراء الغيب لكي تعينه على مواصلة السير على نور وهدى ويقين.
و”المعرفي” بفعل ذلك، مدفوعًا بقوى روحية وعقلية هائلتين، تقودان خطاه وتلازمانه في هذه الطريق، وتخلي هذه القوى عنه وتركه هناك وحيدًا، يشكل إحدى أشد الانتكاسات التي تفجع “المعرفي” في أخص خصائص وجوده كإنسان متميّز ومتفوّق، ونموذج مثال، واقتداء في اكتشاف حقائق العقل، واكتشاف ما تنطوي عليه الروح من عوالم لا زال اكتشافها سرًّا من أسرار أصحاب عظماء الروح في هذا العالم.
وتتبع خطوات “رجل المعرفة” في الطريق التي يسلكها، تمنحنا شيئًا من الطمأنينة؛ بأننا لا زلنا أحياءً فكريًّا، وبأننا لا زلنا نملك إرادةً تدفعنا لارتقاء الدرجات المعرفية التي ارتقاها والتعلم منها، وبأننا بهذه المتابعة نُكَفِّر عن الأيام التي انشغلْنا فيها عن اللحظات القدسية والانتشائية التي نحظى بها اليوم، من خلال مشاركتنا لرجل المعرفة باهتماماته المعرفية العالية، والإعجاب ببصيرته المدركة النافذة إلى ما وراء هذا العالم، والذي يجعل أذهاننا تستمتع إلى حد الانتشاء، بالْتماعات أفكاره وانعتاقاتها من سجون الأرض الدنيا، إلى صروح الروح التي يقيمها من مقالع فكره وروحه… وأقلُّ ما يمكن أن تفيدنا هذه المتابعة لرجل المعرفة، هو الخلاص من سأم البطالة الفكرية المدمرة، أو الوقوع في شباكات اللغظ الفارغ الذي يراد ملْأُ أذهاننا به.